• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة آل عمران : قصَّةُ الوليد المنذور

 يمكننا أن نلخّص هذه الاُقصوصة على النحو الآتي:

ثمة امرأة اسمها حنّة تنتسب إلى آل عمران ، و هم نفرٌ أشار القرآنُ الكريمُ إلى اصطفاء السماء إيّاهم مع آدم و نوح و آل إبراهيم ، بقوله تعالى:

﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ

و من خلال هذه الآية التي أعقبتها قصة الوليد المنذور، أو امرأة عمران مباشرة ، نستكشف طبيعة الوظيفة الفنّية للعنصر القصصي في السورة ، فيما جاءت في سياق اصطفاء اللّه لمجموعة تمثّل الصفوة البشرية في الاضطلاع بمهمّة الخلافة على الأرض ، و إيصال رسالة السماء إليها.

و المهم ، أنّ امرأة عمران و هي شخصية نسويّة قُدّر لها أن تُساهم بنحو أو بآخر في ممارسة الوظيفة العبادية على الأرض ، قد نذرت للسماء أن تُمحّض وليدها للخدمة في المسجد ، و مجرّد كونها تمارس موقف النذر و تمحّض وليدها لممارسة الخدمة للمسجد ، يفصح عن وعيها العبادي الحاد و تقديرها لمسؤولية هذا العمل ، و إدراكها لمهمّة الكائن الإنساني على الأرض ، و ليس مجرد كونه كائناً يدبّ على الأرض ، و يعمل لإشباع حاجاته الحيويّة و النفسيّة.

ويجدر بنا أن نقف أوّلاً عند النص القصصي:

تقول القصة:

﴿قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ:

﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً

﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

﴿فلما وضَعَتها ، قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها اُنْثى

﴿وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ

﴿وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ

﴿وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ

﴿فَتَقَبَّلها ربُّها بقبول حَسَن ...

وإذا ما انسقنا مع النصوص المفسّرة ـ بالإضافة إلى النص القصصي ـ لملاحظة
خلفيّات الموقف ، نجد أنّ بعضها يُشير إلى أنّ الشخصية النسوية المذكورة لم يُتح لها الإنجاب حتى يئست من ذلك ، ممّا حملها إلى أن تدعو اللّه لأن يرزقها ولداً ، فيما تـمّت عملية النذر المذكورة.

و هناك من النصوص ما يُشير إلى أنّ اللّه تعالى أوحى لزوجها عمران بأنّه قد وهب له ولداً مباركاً يبرىءُ الأكمه و الأبرص و يحيي الموتى بإذن اللّه ، و أنّ عمران قد أخبر امرأته بذلك. و لمّا حملت تـمّت عملية النذر المذكورة.

و المهم ، أنّ خلفيات الموقف أيّاً كانت ، فإنّ ممارسة النذر بنحوه المذكور ، يظل مفصحاً عن خطورة الوعي العبادي عند الشخصية النسوية المذكورة ، أي إدراكها لخطورة الوظيفة الخلافية على الأرض.

* * *

هنا ، غَمرَ الموقف حدث مفاجىء. فما هو هذا الحدث؟

هذا الحدث يُلقي ضوءً على وعي الشخصية النسوية المذكورة ، و يفصح عن المزيد من ادراكها لمسؤولية الكائن الإنساني على الأرض.

فقد كان النذر حائماً على ولد ذكر ، يتمحّض للخدمة في المسجد ، و بخاصة أنّ الرواية المفسّرة ، أوضحت أنّ اللّه أوحى لعمران بأنّ ولداً ذكراً سيُوهب له يضطلع بمهمة رسالة السماء عصرئذ ، و لكنّ المفاجأة جاءت بوليد اُنثويّ ، فيما لا تصلح الاُنثى لحمل الرسالة ، أي لا تكون نبيّاً أو رسولا ، كما يحتجزها الطمثُ و النفاس من الاستمرارية في خدمة المسجد ، فما هو الحل؟ و ما هي استجابة امرأةُ عمران لهذا الحدث المفاجئ؟

* * *

في لُغة العمل القصصي ، يجيء عنصر المفاجأة واحداً من الأدوات الفنّية في استثارة القارئ أو المستمع أو المُشاهد.

فأنت حينما تتابع الإصغاء لسلسلة من الأحداث و المواقف ، ثمّ يفاجئك حَدَثٌ لم يكن في الحُسبان ، حينئذ ستغمرك الدهشة و الانبهار إزاء المفاجأة المذكورة ، ممّا يضاعف في اهتماماتك بمتابعة الأحداث و انشدادك نحوها ، ثمّ ترتيب أكثر من أثر على هذه المفاجأة بما تحمله من دلالات تسحب أثرها على طبيعة استجاباتك.

و إذا عدنا إلى قصة امرأة عمران ، الشخصية النسويّة التي نذرت ما في بطنها ، للقيام بالممارسات العبادية التي تنشدها السماء ، وجدنا أنّ المفاجأة قد أذهلتها عندما وجدت أنّ الوليد اُنثى و ليس غلاماً . إلاّ أنّ الذهول هنا محفوف بوعي عبادي لم ينقلها ـ كأيّة شخصية عادية ـ من صعيد الشخصية المتماسكة إلى شخصية مهزوزة.

بل بقيت على تماسكها ، مكتفيةً بقولها:

﴿إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى

و هذا القول كما هو واضح يشير بأكثر من دلالة تكاد تحوم على عملية النذرو ما يواكبها من العدول عنه ، متمثلا بخاصة في التعقيب الأخير على المفاجأة بقولها:

﴿وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْ نْثى

إذاً تحدّدت استجابةُ امرأة عمران على الحَدَثَ المفاجىء وفق تماسك واتزان يتناسب مع الشخصية العبادية التي تكل الاُمور إلى السماء ، و ترضى بالقضاء و القدر اللذين ترسمهما السماء. إلاّ أنـّها في الحين ذاته لا يعني أنّ التوتر قد اُزيح من أعماقها ، لأنّ نفس قولها: (وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُ نْثى) يفصح عن التوتر المذكور ، و هو توتّرٌ تفرضه تبعات النذر ، و ما رافقه من الإخبار بأنـّها ستلد غلاماً.

إنّ عنصر المفاجأة المذكور ، أي ولادتها للاُنثى ، سيترك آثاره على سائر الشخوص و الأحداث و المواقف ، ممّا يغيّر المعادلة و توابعها عند امرأة عمران و سواها ، و سيترك أو سيُمهّد لمفاجآت أشدّ إثارة كما سنرى.

غير أنّ المتلقّي ـ المستمع أو القارئ ـ يحرص بطبيعة الحال على معرفة السرّ في عنصر المفاجأة المذكورة ، فهذه المفاجأة حقّقت له إمتاعاً فنّياً ، و جعلته أشدّ إثارة و اهتماماً لمتابعة الأحداث في القصة. إنّه قد يتساءل: لقد أوحى اللّه لعمران بغلام يصبح رسولا ذات يوم ، فلِمَ جاء الوليد اُنثى؟

إنّ الامام الصادق (عليه السلام) يجيب على التساؤل المذكور ، قائلا:

«إن قلنا لكم في الرجل قولا منّا ، فلم يكن فيه ، فكان في ولده أو ولدِ ولدِهِ ، فلا تنكروا ذلك. إنّ اللّه أوحى إلى عمران إنّي واهبٌ لك ذكراً مباركاً يبرء الأكمه و الأبرص ، و يحيي الموتى بإذني ، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل. فحدّث امرأته حنّة بذلك و هي أمّ مريم ، فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً.
فلما وضعتها اُنثى ، قالت: ربّ إني وضعتها انثى و ليس الذكر كالاُنثى ، لأنّ البنت لا
تكون رسولا ، فلما وهب اللّه لمريم عيسى ، كان هو الذي بشّر اللّه به عمران و وعده إياه ، فإذا قلنا لكم في الرجل منّا شيئاً فكان في ولده أو ولدِ ولدِهِ فلا تنكروا ذلك».

إذن عنصر المفاجأة ـ ميلاد الاُنثى لا الغلام ـ قد أوضحت النصوصُ المفسّرةُ دلالته. إلاّ أنّ الغموض لا يزال بطبيعة الحال يلفّ الموقف و الأمر يحتاجُ إلى متابعة الأحداث لفك مغاليق الغموض شيئاً فشيئاً.

بيد أنـّنا قبل متابعة الأحداث ، ينبغي أن نقف عند نهاية الموقف الذي خُتمت به القصة عن امرأة عمران ، الشخصية النسوية الملتزمة عبادياً. فقد أنهت الموقف بتسمية ابنتها باسم مريم فيما قالت:

﴿وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ

و معنى مريم في لغتهم عصرئذ العابدة و الخادمة.

ثمّ أنهت الموقف بالدعاء الآتي:

﴿وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ

و واضح أنّ التسمية و الدعاء كليهما يفصحان عن الطابع الذي أكّدناه عن شخصية إمرأة عمران ، و هو الوعي العبادي بوظيفة الإنسان على الأرض فيما بدأته بالنذر ، و التسمية ، و الدعاء ، و تقديم المولود فعلا إلى من يعنيهم الأمر في المسجد.

و الأمر لا يتّصل بمجرّد التسمية ، و النذر ، و الدعاء ، بقدر ما تفصح هذه الأشكال عن مضمونات تنطوي عليها مشاعر امرأة عمران ، و تركيبتها النفسيّة التي يكفي أن نتلمّس مدى حرارة و فاعلية ما تحمله من صدق عبادي ، حينما تبدي ذلك التوجّس و تلك الخيفة من السلوك الملتوي الذي يمكن أن يلحق ابنتها وذرّيّتها.

إنّ هتافها القائل:

﴿أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ

هذا الهتاف تعبيرٌ عن أكثر من حقيقة فنّية ينطوي عليها الموقف القصصي الذي نحن في صدد الحديث عنه.

ففضلا عن أ نّه يفصح عن مدى حدّة الوعي العباديّ عند امرأة عمران ، و ادراكها لمهمة الكائن الانساني الذي ينبغي أن يتمحّض لما خُلِقَ من أجله ، فضلا عن ذلك كلّه ، فإنّ صدى الهتاف المذكور سيتردد في أجواء المواقف و الأحداث التي تلي قصة امرأة عمران ، أي أنّ الدعاء بإبقاء مريم و ذرّيّتها بمنأىً عن السلوك الملتوي ، بمنأىً عن الشيطان و تحركاته ، هذا الدعاء سنجد انعكاسه فعلا على شخصية مريم و على ذرّيتها بالنحو الذي سنقف عليه لاحقاً.

و يهمّنا أن نلفت نَظَرك إلى أنّ قصة امرأة عمران قد انتهت مع الفقرة الآتية ، و هي قوله تعالى:

﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُول حَسَن

فإذا أضفنا عملية تقبّل السماء لهذا النذر ، إذا أضفناها إلى الدعاء الذي أعاذ المنذور و ذرّيّته من السوء ، حينئذ أمكننا أن نُدرك خطورة ما تنطوي القصة المذكورة عليه ، من حيث المهمة العضوية ، أي المهمة الفنّية في توشيج الصلة بين القصص بعضها بالآخر و في التمهيد لما نلاحظه من أحداث و مواقف و شخوص في القصص اللاحقة.

* * *

كانت امرأة عمران شخصيةً نسويةً على وعي حادّ بالمهمّة العبادية للكائن الإنساني.

و قد أنهى القرآن الكريم دورها في القصة الاُولى ، أي قصة امرأة عمران بعملية الوضع لابنتها مريم حينما قدّمتها ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ للقائمين على شؤون المسجد ، تحقيقاً للنذر الذي أخذته على عاتقها ، بأن تجعل مولودها متمحّضاً لخدمة المسجد.

و بهذا التسليم لمولودها الاُنثوي ، تنتهي القصة الاُولى من القصص الخمس التي تضمّنتها سورة آل عمران حيث أنـّها تمهّد سلسلة قصصيّة لاحقة تتوال وتتجانس في شخصياتها ومواقفها وبيئاتها وأحداثها ، على نحو ما نلحظه الآن في اُقصوصة التالية



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page