• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة يوسف :قصَّة أو رواية حياة يُوسُف (عليه السلام)

 تمهيد

الشكل الفني للقصة

بناء الحدث شخصية يعقوب

لم تحظ القصص القرآنية الكريمة باهتمام الدارسين و النقّاد بقدر ما حظيت به قصة أو رواية يوسف (عليه السلام) ، حيث عولجت في دراسات مستقلّة ، و لعل السبب في ذلك عائد إلى جملة نقاط ، منها: أنّ القصة المذكورة قد استقلّت بها سورة كاملة مع ملاحظة أنّ بعض القصص قد استقلّت بدورها بها سور كاملة ، كسورة «نوح» و سورة «الفيل» إلاّ أنّ قصر هذه السور يجعل الاهتمام بها محدوداً بقدر حجم القصص ذاتها ، و هذا على العكس من قصة يوسف حيث أنّها ترتكن إلى ما يمكن تسميته بـ : الرواية لأنـّها تتناول حياة طولية لبطلها يوسف و تضمّنها تفصيلات تتناسب مع الرواية. على أيّة حال ، نكرّر الذهاب إلى أنّ سورة «يوسف» هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن تتمحّض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها ، دون أن يتخلّلها نثرٌ غير قصصي ، عدا الآيات التسع التي تنتهي السورةُ بها و هي في الواقع تعقيبٌ على القصة ذاتها.

و من الواضح أنّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة ، يتحرّك من خلالها بطل رئيس واحد ، ثمّ أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل.

أقول: إنّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة إنّما يكشف عن أهمية هذه القصة و ما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ، و نحن نتناول بالدراسة مثل هذه القصة.

و الآن ، ما هي الخطورةُ التي تنطوي عليها القصةُ أولا؟ و ما هي خطوط الشكل الفنّي الذي اعتمدت القصةُ عليه ، ثانياً؟

*    *    *

إنّ أهمية قصة يوسف تتمثّل في تضمّنها أحداثاً و مواقف في غاية الإثارة.
و هذه الإثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهمّ الدوافع لدى الإنسان و أشدّها إلحاحاً ، و في مقدمتها الدافع الجنسي.

يلي ذلك ، دافع الحسد أو الغيرة ، و هو دافعٌ مُلحٌّ بدوره لا يكاد يتحرّر الإنسانُ منه إلاّ بالتدريب الشاقّ ، من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع و طرائق تهذيبه أو التصعيد به ، أو التخلّص منه.

هناك أيضاً دافعٌ ثالثٌ مُلحٌّ بدوره تكشف القصة عنه ، ألا و هو دافع السيطرة أو التفوّق.

و فضلا عن ذلك كلّه ، ثمة دوافع و حاجات و ميولٌ و مواقف تكشف القصةُ عنها ، مبيّنةً لنا طرائق التعامل معها ، و إشباعها بالطريقة السوية أو الشاذّة.

هذه الحاجات و المواقف ستتبلور أمامَنا بصورة واضحة حين نقف على تفصيلات هذه القصة و ما تحفل به من أحداث و أبطال و بيئات و مواقف ، و بخاصة أنـّها جميعاً صيغت في شكل قصصي حافل بأنواع الإثارة الفنّية.

 

الشكل الفنّي للقصة

لقد بدأت قصة حياة يوسف على النحو الآتي:

﴿إِذْ قالَ يُوسُفُ لأَِبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ

﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ

هنا أجابه أبوه ، قائلا:

﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً

﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

إذن القصةُ تعتمد على مادة حُلُميّة منذ البداية.

و الحُلُمُ كما هو واضح يُشكّل في القصة المعاصرة بخاصة ، مادة فنّية غنيّة في التقنية القصصية.

و أهمية الحُلُم تنبثق من كون الحُلُم واحداً من أهمّ فعاليات السلوك البشري في الجانب اللاشعوري من الشخصية. و لذلك فإنّ استخدام مادة الحُلُم في أعمال قصصيّة يكتُبُها البَشر إنّما تعدّ ذات أهمية كبيرة ، نظراً لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الإنسان.

و نحن الآن لايعنينا أن نتحدّث عن اللاشعور بمعناه الأرضي و افتراقه عن التفسير الإسلامي لللاشعور و صِلة الأحلام بذلك ، بل لهذا البحث مكان آخر تحدّثنا عنه مفصلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي ، و إنّما يهمّنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهم فعاليّات السلوك في نطاقه خارجَ اليقظة ، أو ما يسمّيه البحث الأرضي خارجَ الوعي.

على أيّة حال ، حين ننقل هذه الظاهرة إلى نطاقها الإسلامي ، نجد أنّ الحلم و هو نمطان: صادق و كاذب ، إنّما يُعدّ الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء إلى الشخصية خارج يقظتها ، بُغية الإفادة منه في تصحيح السلوك في نطاق الحالم نفسه ، أو نطاق الآخرين بحيث تتحقق الإفادة إمّا بنحو خاص متّصل بالحالم و بمن يعنيه أمره ، أو بنحو عام مُتصل بالجماعات الإنسانية كلِّها أو بعضها.

*    *    *

و حين نعود إلى قصة يوسف نجد أنّ المادة الحلميّة في هذه القصة قد شملت هذه الأنواعَ الثلاثة من الأحلام ، أي:

1 ـ الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه.

2 ـ الحلم الخاص بمن يعنيه أمره.

3 ـ الحلم المتصل بالجماعات الإنسانية.

أمّا الحلم الخاص بشخصية الحالم ، فقد تمثّل في ثلاثة أحلام:

أ ـ حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكباً.

ب ـ ج ـ حُلُمَي صاحِبَيهِ في السجن ، في رؤية أحدهما يعصر خمراً ، و رؤية الآخر حاملا فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه:

﴿وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً

﴿وَ قالَ الآخَرُ: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ

و هذا كلّه فيما يتصل بشخصية الحالم.

أمّا فيما يتصل بمن يعنيه أمره ، فهو حُلُم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته. ثمّ حُلُما صاحبيه من حيث صلتهما بالمَلِك الذي يخدمه الأوّل ، و يصلب الآخر.

و أمّا النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الإنسانية ـ في هذه القصة ـ فهو: حُلُم المَلِكَ الذي رواه على النحو الآتي:

﴿قالَ المَلِكُ: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَرات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ

﴿وَ سَبْعَ سُنْبُلات خُضْر وَ أُخَرَ يابِسات

و هذا الحلم يتصل ليس بالحالم نفسه  ، بل برعيّته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها.

إذن الأنواع الثلاثة من الأحلام وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنّية المثيرة.

ليس هذا فحسب ، فالمادة الحلميّة لم تقتصر في هذه القصة على استقطابها للأنواع الثلاثة من الأحلام ، بل تجاوزته أيضاً إلى مهمة فنّية اُخرى هي مهمة تفسير الأحلام الثلاثة.

إنّ تفسير الحُلُم يشكّل بدوره جزءً خطيراً من السلوك البشري.

فإذا كان الحُلُم فعاليةً لا شعورية ، أو فعالية غيبيّة ، فإنّ تفسيره هو الذي يمنح المعنى أو الدلالة التي ينطوي السلوك عليها.

من هنا ، فإنّ المادة الحلميّة في قصة يوسف قد استُكملت فنّياً حينما اتّبعت الحُلم بتفسيره و توضيح دلالاته.

فالأنواع الثلاثة من الأحلام لم يتركها النصُّ القرآني بلا جواب ، بل أتبع كلاّ منها بالتفسير الذي ينطوي الحُلُم عليه.

و نقصد بالأحلام الثلاثة: أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم ، أو بمن يعنيه من الخاصة ، أو بالجماعات الإنسانية على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.

أمّا عدد الأحلام الذي وجد طريقه في قصة يوسف فهو أربعة أحلام ، ذكرت في القصة ، يُضاف إليها حُلُمان ليوسف و أبيه ذكرتهما نصوص التفسير ، فيكون المجموع ستة أحلام. أمّا ما نتناوله الآن فهو أربعة أحلام و في حينه نذكر الحُلُمَين الآخَرَين.

1 ـ حُلُم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكباً.

2 ـ حُلُم أحد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمراً.

3 ـ حُلُم أحد صاحبيه في رؤيته حاملا فوق رأسه خُبزاً تأكل الطير منه.

4 ـ حُلُم المَلِك في رؤيته البقراتِ السِمَان و العجافَ و رؤيته السنبلاتِ الخُضَر و اليابساتِ.

هذه الأحلام الأربعة ، قد أُتبِعَت في قصة يوسف بتفسير كلّ واحد منها.

*    *    *

و إليك تفسيرات هذه الأحلام الأربعة:

1 ـ حُلُم يوسف ، و قد فسّره أبوه يعقوب على النحو الآتي:

﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً

2 ، 3 ـ حُلُم صاحبي يوسف في السجن: و قد فسّرهما يوسف على النحو الآتي:

﴿أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً

﴿وَ أَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ

4 ـ حُلُم الملك ، و قد فسّره يوسف أيضاً ، على النحو الآتي:

﴿قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً

﴿فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ

هذه هي التفسيرات التي قدّمها يعقوب و يوسف للأحلام الأربعة في القصة.

و منها نستخلص أنّ المادّة الحلميّة في قصة يوسف قد استُكملت بإضافة العنصر التفسيري لها.

و بهذه الإضافة تكون المادة الحُلُميّة قد تشكلت ـ فنيّاً ـ على النحو الآتي:

1 ـ القصة أساساً قد اعتمدت على مادة الحُلُم من حيث دَوَران أحداثها و مواقفها على حُلُم بطلها الرئيسي يوسف.

2 ـ القصة قد اعتمدت على أكثر من حُلُم: حلم يوسف و صاحبيه و المَلِك ، و هذا يعني أنّ عنصر الأحلام هو العصب الفنّي الذي قام عليه شكلُ القصة.

3 ـ القصة في مادّتها الحُلُميّة قد استقطبت الأنواع الثلاثة التي ينحصر الحُلُم الصادقُ فيها ، و هي: علاقة الحُلُم بصاحبه ، أو بمن يعنيه أمره ، أو بالجماعات الإنسانية.

4 ـ القصة لم تقتصر في مادتها الحُلُميّة على فعاليّة الأحلام فحسب ، بل تجاوزته فعاليّة تفسير الأحلام أيضاً.

*    *    *

إنّ هذه العناصر الأربعة في مادة الحُلُم الذي قامَ شكلُ القصة عليه ، إنّما تكشف عن الخطورة الفنّية التي انطوت عليها قصةُ يوسف من حيث جماليةُ البناء القصصي و خطوطه الهندسية التي تناسقت فيما بينها ، حيث تلاقت على حُلُم رئيس و أحلام ثانوية تتواكب معها ، و من حيث تلاقت على أحلام فردية تخصّ حالماً بعينه ، و أحلام تخصّ شخصيات عادية و اُخرى غير عادية ، و أحلام تخصّ جماعة صغيرة ، و أحلام تخصّ جماهير الشعب بأكمله ، و من حيث أنّها اُتبِعَت بتفسير الأحلام أيضاً ، و من حيث انحصارُ التفسير في يوسف و أبيه.

كلّ هذه الخطوط الهندسية المتناسقة من حيث اعتمادها على مادة الحُلُم و مستوياته المتقدمة ، إنّما تفصح عن شكل فنّي له خطورته في نطاق البناء القصصي ، و انعكاس ذلك على الدلالات الفكرية في القصة.

و الآن ، حين نتجاوز هذا البناء الفنّي القائم على مادة الحُلُم و تفسيره ، أقول:
حين نتجاوز هذا البناء إلى أشكاله الفنّية الاُخرى ، فماذا سنجد حينئذ؟!

 

بناء الحدث:

من حيث البناء الذي تتحرّك الأحداث و المواقف من خلاله ، فإنّ الحدَثَ يأخذ تسلسله في الزمن الموضوعي ، أي تسير القصة حادثاً بحادث دون أن تُقطعَ الأحداث وفقاً لزمنها النفسي ، إلاّ نادراً فيما نتحدّث عنه في حينه.

فالقصة تبدأ بحُلُم يوسف الذي فسّره أبوه ، بأنّ إخوته في صدد أن يكيدوا له لو قصّ عليهم رؤياه.

ثمّ تأخذ الأحداث تسلسلها الزمني بدء من إلقائه في الجب ، مروراً بقضيته مع امرأة العزيز ، فإيداعه السجن ، فولايته على مصر ، فقضيته مع إخوته في حادثة الكيل ، و انتهاءً بعودة أبويه و إخوته إليه.

*    *    *

و أمّا البناء الداخلي للحدث ، فإنّ القصة تسير وفق معمارية بالغة الجمال من حيث تداخل الأحداث وصِلة بعضها بالآخر. ثمّ نموّها عبر خطوط تتوازى و تفترق حتّى تُصبّ في نهر واحد في نهاية المطاف.

و لكي نتبيّن معالم هذا البناء ، يحسن بنا أن نقسمها إلى عناصرها من أحداث و شخصيات و مواقف و بيئات و أفكار ، نظراً لما ينطوي عليه كلّ عنصر من قيمة جمالية و فكريّة لا غنى للمتلقّي من الوقوف عليها ، حتّى يتعرّف على الأسرار الفنّية لهذه القصة ، ثمّ ما تنطوي عليه من أفكار تتصل بأهم دوافع السلوك البشري ، و الإفادة منها في تصحيح سلوكنا و تعديله في ضوء مبادئ السماء التي تصوغ لنا أمثال هذه القصص حتى تكون عبرة لاُولي الألباب حيث خُتمت القصة بهذه الحقيقة. و هي قوله تعالى:

﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبابِ

﴿ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

﴿وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ

و نقف أولا مع أبطال القصة بادئين بأبطالها الثانويين الذين مارسوا مهمّات محدّدة ، ثمّ ببطلها الرئيس يوسف (عليه السلام).

و يمكننا أن نُحدّد هؤلاء الشخوص الثانويين في:

1 ـ يعقوب.

2 ـ إخوة يوسف.

3 ـ الأخ الأصغر.

4 ـ العزيز.

5 ـ إمرأة العزيز.

6 ـ نسوة المدينة.

7 ـ صاحبي السجن.

و من الواضح أنّ مهمّة البطل الثانوي ـ في أيّ شكل قصصي ـ تتمثّل في إبراز هدف محدّد و في إلقاء الضوء على الشخصية الرئيسة ، مع ملاحظة أنّ بعض الأبطال الثانويين في القصص الأرضي قد يشكّلون وجهة نظر مبدع القصة نفسها و قد يضطلعون بأدوار قد لا يُتاح حتّى للبطل الرئيس ممارستها.

و المهمّ أنّ القصص القرآن الكريم تحدّثنا بلغتنا التي نألفها و نتذوّقها حسب استجابتنا التي ركّبتها السماء وفق صياغة خاصة ، تأخذ كلاّ من جانب الإمتاع الجمالي و الفكري بنظر الاعتبار ، و هو هدف الفنّ في كلّ أشكاله.

إنّ الأبطال الثانويين في هذه القصة مارسوا أدواراً بالغة الأهمية ، بحيث يضطلع كلٌّ منهم بإبراز هدف محدّد يُلقي من جانب إنارةً على شخصية البطل يوسف ، و يبلور لنا من جانب آخر أفكاراً معيّنة نفيد منها في تعديل السلوك.

و لعلّ كلاّ من يعقوب (عليه السلام) و إخوة يوسف ينهضان بأدوار بالغة المدى بالقياس إلى سائر الأبطال الثانويين ، فيما تتجاذبهم من دوافع السلوك المتصل بدافع الاُبوّة ، و دافع الحسد و سواهما.

كما أنّ امرأة العزيز تضطلع بمهمّة خاصة تتصل بأحد الدوافع البشرية و هو الدافع الجنسي ، مثلما يظل سلوك نسوة المدينة قائماً على دافع الغيرة و الحسد و الدافع الجنسي أيضاً. في حين يظل سلوك العزيز ، و صاحبي السجن  ، متصلا بدوافع اُخرى نتحدّث عنها لاحقاً.

إنّ ما يعنينا هنا ، أن نقف عند كلّ بطل ثانوي في القصة ، لاستخلاص المهمّة الفنّية التي نهض بها و تحديد موقعها العضوي من القصة ، و نبدأ بالبطل يعقوب (عليه السلام).

 

شخصية يعقوب

تظلّ هذه الشخصية ذات ملمح مأساوي في القصة ، نظراً للشدائد التي واجهتها ، بيد أنّ المأساة هنا تكتسب جانباً عبادياً يختلف عن المفهوم الأرضي للمأساة.

و أوّل ما يتبادر إلى الذهن ، هو دافع أو عاطفة الاُبوّة التي تشكّل من أقوى الحاجات إلحاحاً عند الآدميّين. و قد تضخّم حجم هذا الدافع بعاطفة اُخرى هي صغر سن ولده يوسف ، ثمّ تضخّم حجمه ثالثاً بسمة الجمال الفائق الذي طبع ولده.

و في ضوء هذا يمكننا أن نقدّر مدى الحبّ الذي يكنّه يعقوب لولده ، و بالمقابل ينبغي أن نقدّر أيضاً مدى الألم الذي سيلحق الأب حيال أي أذىً يلحق بولده. ثمّ ينبغي أن نقدّر مدى ضخامة المأساة في استجابة الأب عندما تضخم مأساة ولده إلى الدرجة التي يفتقده و ليس مجرّد لحوق أذىً به.

إنّ أول خيوط المأساة بدأت مع الحُلُم الذي قصّهُ يوسف على أبيه. و يمكننا بسهولة أن نستكشف لغة المرارة في أعماق يعقوب ، و شدّة تخوّفه في ردّه على يوسف ، و تحذيره إيّاه من أن يقصّ رؤياه على إخوته خشية أن يكيدوا به ، قال لولده:

﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً

﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإِْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

إنّ الكيد أو التآمر ليس مجرّد مشاعر عدوانية تُترجم إلى سلوك لفظي و حركي عابر نألفه اعتيادياً في سلوك غالبية البشر ، بل يعني حياكة عمل أو خطة للإطاحة بالشخصية و بحياتها ، و هو أمرٌ يكشف لنا عن مدى القلق و التمزّق و التوجّس الذي لفّ شخصية يعقوب (عليه السلام) منذ حدوث الرؤيا ، منعكساً في تحذيره الآنف الذكر.

أمّا من الزاوية الفنّية ، فينبغي أن نتنبّأ بالأحداث اللاحقة التي ستتحرّك في بيئة القصة نتيجة لهذه الكلمة المحذّرة من الكيد. إنّ هذا التحذير القائل:

﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا ...

لم يُرسم في القصة عَبَثاً ، بل ينطوي على سمة فنّية تتصل بالبناء العماري لهيكل القصة ، ألا و هي: تهيئة ذهن القارئ لأن يتوقع حدوث مأساة بالفعل ، و لكن دون أن يتعرّف تفصيلاتها.

و من الحقائق المألوفة في حقل الأدب القصصي أنّ عملية التنبّؤ بما سيحدث ، تظل واحدة من أدوات الإثارة ، و لكن شريطة ألاّ تُصبح بشكل جاهز ، و إلاّ فقدت القصة عنصر الإثارة ، بل ينبغي أن تحوم في دائرة ما هو مُتوقّع مضافاً إلى تضبيب مستويات الحَدَث. فأنت قد تتوقع مثلا أن يصيب بطلا ما أحدُ أشكال الأذى دون أن تتيقن ماذا سيحدث بالفعل ، فقد يمرض مثلا ، أو يُجرح ، أو يُختطف ، أو يُقتل ، أو يغترب ... إلى آخره.

و من هنا يجيء عنصر التشويق في القصّة في معرفة ماذا سيحدث حيال البطل بديلا عن عنصر التنبّؤ الذي قد يقلّل من الإثارة و من متابعة ماذا سيحدث.

و أمّا في حالة عدم تضمّن القصة لعناصر التنبّؤ بالأحداث اللاحقة ، فإنّ عنصر المفاجأة سيلعب حينئذ دوراً له فاعليته في هذا الصدد.

و المهم أنّ تحذير يعقوب لولده يتضمّن من الوجهة الفنّية عنصر تنبّؤ بما سيحدث ، بيد أنّ تضبيب أو عدم معرفة ما سيحدث ، هو الذي سيُحقق لدى المتلقّي عنصر إثارة كبيرة هو ، التشويق لمعرفة هويّة الحدَث الذي سيواكب مصير يوسف (عليه السلام).

و الآن ـ خارجاً عن السمة الفنّية المذكورة ـ يعنينا أن نعيد إلى ذاكرتنا من جديد ، أنّ أوّل خيوط المأساة التي أحاطت بيعقوب (عليه السلام) هي: توقّعه لكيد أو مؤامرة كبيرة تحاك ضد ولده في حالة قصّهِ الرؤيا على إخوته ، كما أنّ القارئ يتوقّع أيضاً أن يكون قلق يعقوب (عليه السلام) بالغ الشدّة لجملة من الأسباب: أولها ، أنّ يعقوب إحدى الشخصيات المصطفاة التي لا تتحدّث من خلال التنبّؤات العادية ، بل تتحدّث من خلال لغة الوحي ، ممّا يعني أنـّها مقتنعة تماماً بأنّ مؤامرة ضخمة ستحاك ضد ولده يوسف في حالة قصّه رؤياه على الإخوة.

مضافاً لذلك أنّ بعض النصوص المفسّرة ، ذهبت إلى أنّ يعقوب قد وعدته السماء بأن يستعدّ لمجابهة الشدائد إمتحاناً لحادثة سابقة تتصل بأحد السائلين الذين شكّك يعقوب (عليه السلام)بصدق جوعه.

إذن كلّ أسباب القلق و الخوف على مصير يوسف (عليه السلام) تأخذ الآن في أعماق
يعقوب (عليه السلام) حجماً كبيراً من الشدّة.

ثمّ تبدأ الشدائد متجسّدة في وقائع بالفعل ، بعد أن كانت مجرّد أحاسيس و مشاعر و أوّل هذه الشدائد تبدأ مع طلب أولاده باصطحاب يوسف (عليه السلام) ، حيث عبّر الأب عن بالغ تخوّفه من هذا الطلب ، قائلا بمرارة:

﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ

إنّ هذا التخوّف يشكل عنصر إضاءة جديدة لمخاوف يعقوب و شدائده القلبية.
كما أنـّه يشكّل من الوجهة الفنّية إرهاصاً جديداً بأنّ حادثة ما ستحاك ضد يوسف (عليه السلام).

و هنا تأخذ القصة طابعاً فنّياً بالغ الإمتاع ، فالقارئ قد يتوقّع أن تسفر مصاحبة يوسف لإخوته عن حادثة افتراس من الذئب حقاً ، غير أنّ هذا التوقّع سيخفت عندما تكشف القصة عن أنّ الافتراس لايتمّ بالفعل ، بل إنّ ما يتمّ ، هو حادثة افتعال لعملية افتراس الذئب ليوسف (عليه السلام) ، و من هنا يمكننا أن نستكشف مدى جمالية هذا المنحى من القصّ:

فأولا: سنعرف أنّ لهذا التخوّف من افتراس الذئب حقيقة ستكشف القصة عنها ، و هي أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) سيجيئون إلى أبيهم عشاء يبكون ، و سيقولون له: إنّ الذئب قد أكل يوسف و نحن عنه غافلون.

ثانياً: سُيفاجأ القارئ بحدث جديد هو ، إلقاء يوسف في البئر و ليس افتراسه من قِبَل الذئب.

و بهذا المنحى من صياغة القصة تتحقّق إثارة فنّية كبيرة الإمتاع ، حيث تقوم على عنصرين هما: المفاجأة ، ثمّ التشويق لمعرفة ماذا سيحدث من تفصيل و نتائج من هذه العملية؟

و واضح أنّ القصة تبلغ قمة الإثارة بقدر ما يتوفّر فيها كلٌّ من مفاجأة ما حَدَث ، و تشويق لما سيحدث ، و هذا ما حققته هذه الشريحة من تحرّك البطل يعقوب (عليه السلام) في بيئة القصة.

*    *    *

ثمّ جاءت المرحلة الثالثة من خطوط المأساة بالغة قمّتها عندما بلغه خبر الذئب و افتراسه ليوسف (عليه السلام).

لكنه أدرك كَذِبَ هذا القول منهم ، فخاطبهم بمرارة:

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ

طبيعيّاً أن نستكشف بسهولة أنّ يعقوب و هو يتعامل مع الوحي و ليس مع موازين لأرض ، أدرك ـ كما قلنا ـ أنّ قضية الذئب لا واقع لها من الصحة. غير أنّ ما يعنينا من ذلك هو ، هذه الفقرة «فصبرٌ جميل» ، فيما تفصح عن دلالتين ، إحداهما: بلوغ المأساة قمّتها ، بعد أن وقع ما كان يخشاه ، والاُخرى: ممارسته لفضيلة الصبر التي تستهدفها القصة في هذا الجزء منها.

ثمّ جاءت المرحلة الرابعة من خُطوط المأساة ، بعد أن أُخلي يعقوب (عليه السلام) من مسرح الأحداث ، بدءً من إلقاء يوسف في البئر ، فقضيته مع امرأة العزيز ، فلبثه في السجن ، فتعيينه خازناً على الأرض ، جاءت هذه المرحلة بولد جديد يحمل بعضاً من سمات يوسف (عليه السلام) ، هو أخوه الصغير لأبيه بنيامين ...

لقد أصبح يوسف (عليه السلام) خازناً و احتاج الجمهور إلى الطعام ، و منهم اُسرة يعقوب (عليه السلام) ، فيما اضطرّ الإخوة إلى التوجّه نحو يوسف. بيد أنّ يوسف ـ لحكمة خاصة ـ يطلب من الإخوة أنّ يصطحبوا أخاهم الصغير بنيامين ، و جاؤا إلى الأب ، فقال لهم:

﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ؟

ثمّ أوصاهم بهذه الفقرة التي تنضح بالمرارة و الخوف:

﴿يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة

ثمّ وقع المحذور الجديد و هو: ضياع بنيامين أيضاً عبر حادثة السرقة التي افتعلها يوسف (عليه السلام) لحكمة خاصة ، و عندها وجّه يعقوب (عليه السلام) لأولاده نفس الفقرة
التي عقّب فيها على مصير يوسف (عليه السلام) ، قائلا:

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

لكنه الآن يعلّق بعض الآمال على يوسف و بنيامين ، قائلا:

﴿عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ...

المهم أنّ هذه الوقائع التي بدأت بالتخوّف على بنيامين ، و الأمر بدخول الإخوة من أبواب متفرّقة ، ثمّ إخباره بإيداع بنيامين في السجن ، هذه الوقائع تحفر في أعصاب يعقوب (عليه السلام)آثاراً جديدة من الشدائد ، حتّى توّجت بنهاية موجعة كلّ التوجّع ألا و هي فقدانه لعينيه ، فيما تشف عن ذلك هذه الفقرة القصصية:

﴿وَ تَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ...

لقد ظلّ يعقوب (عليه السلام) باكياً و ذاكراً ليوسف (عليه السلام) حتّى قال له أولاده:

﴿تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ

و ها هو يجيبهم:

﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّهِ ...

إذن بلغت المأساةُ قمّتها و أشدّ حينما فَقَد يعقوبُ يوسفَ و بنيامينَ ، و بصره ، مضافاً إلى استحضاره ذكر يوسف إلى الدرجة التي ضجّ منها أولاده ، كما لحظنا.

*    *    *

إنّ موقف الأولاد و ذرّياتهم أو أحفاده نفسه ، يضيف إلى حجم المأساة ثقلا جديداً دون أدنى شك ... فهاهم حيناً يتّهمونه ، أو لِنَقُل يوجّهون إليه كلاماً لاذعاً من نحو﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضاً و﴿تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ... و ها هم حيناً آخر يقولون له ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ، و هذا بعد أن اطمأن يعقوب (عليه السلام) إلى حياة ولديه من خلال القميص و من خلال قَنَوات غيبية أطلعته على ذلك.

في نهاية المطاف ، تظل شخصية يعقوب بصفته أحد الأبطال الثانويين في القصة ، رمزاً أو دلالةً أو نموذجاً للأب ، أو لدافع البنوّة بما يواكب هذا الدافع من شدائد لا مناص منها في عملية الاختبار ، ثمّ ما ينبغي أن يزامن هذه الشدائد من عملية الصبر التي تظلّ موضع تشدّد القصة ، متمثلا فيما كرّره يعقوب (عليه السلام)مرتين بقوله: «فصبر جميل» عند بلوغه خبر فقدان كلٍّ من يوسف و بنيامين.

مضافاً لذلك نستكشف دلالةً ثالثة في رسم هذه الشخصية الثانوية يعقوب ألا و هي: النتائج التي يفرزها الصبر و التوكّل على اللّه فيما ينبغي أن نقف عندها أيضاً.

*    *    *

لقد عاشت المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام) سنوات طوالا ، بدأت مع حلم يوسف (عليه السلام) ، بل مع تلك المقولة التي أرسلتها السماء إلى يعقوب حينما أوحت له بأن يستعد لمواجهة الشدائد ، متبلورة في ابتلائه بسلوك أولاده ، ففقدانه يوسف (عليه السلام) ، ثمّ فقدانه بنيامين أصغر أولاده ، ثمّ ذهاب نور عينيه ...

إلاّ أنّ لكلّ ليل صباحاً ، و لكلّ شدّة فرَجاً ... و ها هي خيوط الفرج تبدأ بالاقتراب ، حيث تذكر لنا النصوص المفسّرة: إنّ جبرئيل بشّر يعقوب (عليه السلام) بأنّ ولديه لو كانا ميّتين لبعثهما اللّه إليه ، موصياً إيّاه أن يصنع طعاماً للفقراء قبال سلوكه السابق الذي منع الطعام عن جائع ذات ليلة عبر تصوّره بكذب دعوى الجائع.

و تقول هذه النصوص أيضاً: إنّ يعقوب (عليه السلام) دعا اللّه أن يُهبَط عليه مَلَكَ الموت ، فأجابه سبحانه و تعالى إلى ذلك ، و لما سألَ ملك الموتِ عن مرور روح ابنه يوسف (عليه السلام)عليه ، أجابه المَلَك بــ : لا. حينئذ خفّت حدّةُ المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام)و بدأ الفرج يلوح على الاُفق ، حيث اطمأن يعقوب (عليه السلام) على سلامة ولده.

و في ضوء هذا الإطمئنان وجّه يعقوب (عليه السلام) إلى أولاده هذا الطَلَب:

﴿يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ

﴿وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

*    *    *

و فعلا عندما ذهب أولاده إلى أخيهم يوسف و أخبرهم بحقيقة الأمر ، عندها قال لهم:

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي

﴿يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

و ما أن انطلقت القافلةُ التي تحمل قميص يوسف (عليه السلام) من مصر متوجّهة نحو بادية الشام حتى هبّت الصبا حاملة إلى يعقوب رائحة القميص ، فتوجّه إلى أحفاده قائلا:

﴿إِنِّي لأََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ

إلاّ أنّ أحفاد يعقوب فيما يبدو كانوا بمنأى عن معرفة عطاء السماء و ما يحفل به من إعجاز ، و أبوا إلاّ أن يوجّهوا إلى جدّهم قدراً من الألم حينما قالوا له:

﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ

و لكن يعقوب (عليه السلام) و هو المؤمن بعطاء السماء الذي لا حدّ له كان على يقين تام بالبشارة. و لذلك ما أن جاءه البشير و ألقى القميص على وجهه حتّى تحققت البشارة فارتدّ بصيراً بعد العمى:

﴿فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً

و عندها قال لأولاده:

﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ

و هكذا بدأت المرحلة الجديدة من حياة يعقوب (عليه السلام) ، بدأت بانفراج الأزمة ، بدأت بمسح المأساة من أعماقه ، فقد اطمأنّ إلى يوسف (عليه السلام) و عادت عيناه بصيرتين كما كانتا قبل المأساة.

ثمّ توّجت هذه الحياة الجديدة بالتئام الشمل ، حيث توجّه و أهله أجمعون نحو مصر ، نحو ولده الذي تربّع على عرش مصر و عندها:

﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً

و قال يعقوب (عليه السلام) مخاطباً يوسف: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

نعم ، لقد هتف يعقوب مُعرباً عن فرحته العظيمة ، عن ذهاب الحزن من أعماقه ، عن ذهاب مرحلة من حياته و استقبال مرحلة جديدة ، مرحلة لمّ الشمل و عودة الأهل بعضهم إلى البعض الآخر.

*    *    *

و إذن ، نستخلص من حديثنا عن أحد الأبطال الثانويين في قصة حياة يوسف (عليه السلام)و هو: البطل يعقوب (عليه السلام) ، نستخلص جملة من الحقائق الفكرية و الفنّية من خلال الأدوار التي مرّت على هذا البطل.

إنّ أهمّ الأفكار التي ينبغي استخلاصها من حياة البطل يعقوب ، هو تحمّل الشدائد و ضرورة التوكّل على اللّه. فالشدائد ينبغي ألاّ تحمل الشخصية على الجزع منها و اليأس من الفرج الذي يتبعها. فيعقوب (عليه السلام) بالرغم من فقدانه لولديه الأثيرين لديه جداً. و بالرغم من طول المسافة الزمنية التي افتقد فيها ابنه يوسف (عليه السلام) ، لم ييأس من روح اللّه ، حتى أ نّه خاطب أولاده قائلا:

﴿وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

هذه الفقرة أو الآية تمثّل جوهر الأفكار التي تنطوي عليها حياة يعقوب (عليه السلام) في القصة. فالنص القرآني الكريم يُشدّد على هذا الجانب و يطالبنا ألاّ نيأس أبداً من عطاء السماء مهما امتدّ زمنُ المأساة و طال ، بل إنّ هذا الجانب يُلقي بأضوائه على كلّ أفكار القصة أساساً و ليس من خلال الأدوار التي قام بها يعقوب (عليه السلام) فحسب ، بل إنّنا لنجد أنّ خاتمة القصة أو التعقيب الذي أنهتِ السماء قصة يوسف (عليه السلام) به ، هذا التعقيب كان يحوم بدوره على فكرة عدم اليأس من نصرة السماء لعبدها ، سواء أكان هذا العبد يتحرّك من خلال همومه الذاتية ، كما هو شأن يعقوب (عليه السلام) مع أولاده ، أو كان يتحرّك من خلال همومه الاجتماعية أو الرسالية ، كما هو شأن الأنبياء و المصلحين.

و لذلك جاءت خاتمةُ قصة يوسف تحوم على إبراز هذا الجانب من حياة الرُسُل ، يقول النص في الآية التي تسبق ختام السورة:

﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ...

إذن ينبغي ألاّ تفوتنا هذه الصلات الفنّية بين أبطال ثانويين مثل يعقوب (عليه السلام) ، و بين أفكار القصة بأجمعها ، فيعقوب (عليه السلام) هو بطل ثانوي تجسّدت حياته في جملة من الأدوار التي لحظناها في القصة. و كان جوهرُها يتمثّل في تحمّل الشدائد و عدم اليأس من نصرة السماء للعبد.

و فعلا جاء نصرُ السماء ليعقوب بعد تلك الشدائد و المحن ، من الاعتقاد بهلاك يوسف (عليه السلام) ، ثمّ ذهاب نور عينيه.

لقد جاء نصر السماء ليعقوب (عليه السلام) أمراً لافتاً للنظر ، حيث أعادت إليه يوسف و هو من الهالكين حسب منطق الأحداث.

ثمّ ردّت عليه بصره و هو أعمى لا يُرجى شفاؤه حسب منطق الطبّ.

إلاّ أنّ يعقوب الذي شدّد على التوكّل على اللّه ، ثمّ شدّد على عدم اليأس من روح اللّه ... قد كانت السماء إلى جانبه ، إلى حسن ظنّه و ثقته بها ، فنصرته.

هذه الفكرة نفسها قد وُظّفت على المستوى الفنّي لإنارة فكرة العمل الرسالي و ضرورة تحمّل الشدائد ، ثمّ اليقين بنصرة السماء في نهاية المطاف ، مهما كانت الشدائد حادّة مثيرة ... لقد ، وُظّفت هذه الفكرة لإنارة إحدى الأفكار الرئيسة في القصة بأكملها حتى لو لم تكن ذات علاقة بيعقوب (عليه السلام) ، و نعني بها الفكرة المتصلة بضرورة تحمّل أعباء الرسالة ، حيث ختم النص السورة بها ، فقال:

﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا

إذن كان هناك تطابقٌ أو تماثل بين حياة خاصة بيعقوب (عليه السلام) تتّصل بأولاده ، و حياة عامة تـتّصل بالأنبياء و الرسل ، هذا التطابق أو التماثل يتجسّد في ضرورة عدم اليأس من نصرة السماء مهما كانت الشدائد حادّة ، سواء أكانت هذه الشدائد فردية تتصل بذهاب ولد أو بَصَر ، أو كانت جماهيرية تتصل بتكذيب الرسل و الأنبياء من حيث فقدانهم الأنصار الذين يستجيبون لرسالتهم.

إذن للمرة الأخيرة ، كانت حياة يعقوب (عليه السلام) من خلال الأدوار التي قام بها في هذه القصة تُلقي الضوء فنّياً على أفكار رئيسة في القصة ، وظّفها النص فنّياً في هذا المجال ، و هو أمرٌ ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إليه ما دمنا في صدد توضيح الخصائص الفنّية في القصص القرآنية.

 

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page