• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 1 الي 25


تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 17
________________________________________
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 17
________________________________________
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
________________________________________
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء السابع العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
________________________________________
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملئكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيئ قدير - 1. (بيان) غرض السورة بيان الاصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته ورسالة الرسول والمعاد إليه وتقرير الحجة لذلك وقد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية والارضية والاشارة إلى تدبيره المتقن لامر العالم عامة والانسان خاصة. وقد قدم على هذا التفصيل الاشارة الاجمالية إلى انحصار فتح الرحمة وإمساكها وهو إفاضة النعمة والكف عنها فيه تعالى بقوله: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " الاية. وقدم على ذلك الاشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة والنعم الموهوبة وهم الملائكة المتوسطون بينه تعالى وبين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى وإيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.
________________________________________
[ 6 ]
والسورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، وقد استثنى بعضهم آيتين وهما قوله تعالى: " إن الذين يتلون آيات الله " الاية وقوله: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا " الاية وهو غير ظاهر من سياق الايتين. قوله تعالى: " الحمد لله فاطر السماوات والارض " الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والارض فمحصل معناه أنه موجد السماوات والارض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع والفرق بين الابداع والفطر أن العناية في الابداع متعلقة بنفي المثال السابق وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشئ من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن. والمراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود فيشملهما وما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الاجزاء وإرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات والارض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما وعجيب أمرهما كما قال: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57. وكيف كان فقوله: " فاطر السماوات والارض " من أسمائه تعالى أجري صفة لله والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لان الايجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الاشياء. والاتيان بالوصف بعد الوصف للاشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات والارض وعلى ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل. قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " الملائكة جمع ملك بفتح اللام وهم موجودات خلقهم الله وجعلهم وسائط بينه وبين العالم المشهود وكلهم بامور العالم التكوينية والتشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فقوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا " يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة - والملائكة مجع محلى باللام مفيد للعموم - رسلا وسائط بينه وبين خلقه في إجراء
________________________________________
[ 7 ]
أوامره التكوينية والتشريعية. ولا موجب لتخصيص الرسل في الاية بالملائكة النازلين على الانبياء عليه السلام وقد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61، وقوله: " إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " يونس: 21، وقوله: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية " العنكبوت: 31. والاجنحة جمع جناح وهو من الطائر بمنزلة اليد من الانسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو والنزول منه والانتقال من مكان إلى مكان بالطيران. فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الارض بأمر الله ويعرج به منها إليها ومن أي موضع إلى أي موضع، وقد سماه القرآن جناحا ولا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه وأما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش وزغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش والكرسي واللوح والقلم وغيرها. وقوله: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " صفة للملائكة، ومثنى وثلاث ورباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين وبعضهم ذا ثلاثة أجنحة وبعضهم ذا أربعة أجنحة. وقوله: " يزيد في الخلق ما يشاء " لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الاخيرة والاول أظهر. (بحث روائي) في البحار عن الاختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور، الخبر.
________________________________________
[ 8 ]
وفي تفسير القمي قال الصادق عليه السلام: خلق الله الملائكة مختلفة وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملا ما بين السماء والارض وقال إذا أمر الله عز وجل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة والاخرى في الارض السابعة، وإن لله ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على طاعتك. وقال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمس مائة عام بخفقان الطير. وقال: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وإنما يعيشون بنسيم العرش، وإن لله عز وجل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة وإن لله عز وجل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من شئ مما خلق الله عز وجل أكثر من الملائكة وإنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون أمير المؤمنين عليه السلام فيسلمون ثم يأتون الحسين عليه السلام فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا. وقال أبو جعفر عليه السلام: إن الله عز وجل خلق إسرافيل وجبرائيل وميكائيل من تسبيحة واحدة، وجعل لهم السمع والبصر وجودة العقل وسرعة الفهم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خلقة الملائكة: وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك وأخوف خلقك منك، وأقرب خلقك منك، وأعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان لم يسكنوا الاصلاب، ولم تضمهم الارحام، ولم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الافات، ووقيتهم البليات، وطهرتهم من الذنوب، ولو لا قوتك لم تقووا، ولو لا تثبيتك لم يثبتوا، ولو لا رحمتك لم يطيعوا، ولو لا أنت لم يكونوا.
________________________________________
[ 9 ]
أما إنهم على مكانتهم منك وطاعتهم إياك ومنزلتهم عندك وقلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، ولازروا على أنفسهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا ومعبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك. وفي البحار عن الدر المنثور عن أبي العلاء بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما لجلسائه: أطت السماء وحق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرء " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ". وعن الخصال بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان وجزء لهم ثلاثة أجنحة وجزء لهم أربعة أجنحة. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، ولعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الاية والروايات الاخر. وعن التوحيد بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه - الخبر. وعن البصائر عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الاول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الارض لكفاهم. ثم قال: إن موسى عليه السلام لما أن سأل ربه ما سأل أمرا واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا. وعن الصحيفة السجادية وكان من دعائه على حملة العرش وكل ملك مقرب: اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، ولا يسأمون من تقديسك، ولا يستحسرون عن عبادتك، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، ولا يغفلون عن الوله إليك، وإسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الاذن وحلول الامر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، وميكائيل ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك وجبريل الامين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، والروح الذي هو على ملائكة الحجب والروح الذي هو من أمرك.
________________________________________
[ 10 ]
اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك وأهل الامانة على رسالاتك، والذين لا يدخلهم سأمة من دؤب ولا إعياء من لغوب ولا فتور ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الابصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الاذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك وحمال الغيب إلى رسلك والمؤتمنين على وحيك وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك، والذين هم على أرجائها إذا نزل الامر بتمام وعدك. وخزان المطر وزواجر السحاب والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، ومشيعي الثلج والبرد والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقوام على خزائن الرياح، والموكلين بالجبال فلا تزول، والذين عرفتهم مثاقيل المياه وكيل ما يحويه لواعج الامطار وعوالجها ورسلك من الملائكة إلى أهل الارض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء. والسفرة الكرام البررة والحفظة الكرام الكاتبين، وملك الموت وأعوانه، ومنكر ونكير، ومبشر وبشير، ورؤمان فتان القبور، والطائفين بالبيت المعمور، ومالك والخزنة، ورضوان وسدنة الجنان، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والزبانية الذين إذا قيل لهم: " خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه " ابتدروه سراعا ولم ينظروه، ومن ألهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منه وبأي أمر وكلته، وسكان الهواء والارض والماء، ومن منهم على الخلق. فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد وصل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم وطهارة على طهارتهم. الدعاء. وفي البحار عن الدر المنثور عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه والسلام سأل جبرئيل
________________________________________
[ 11 ]
أن يتر آى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه ثم أفاق وجبرئيل مسنده وواضع إحدى يديه على صدره والاخرى بين كتفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق وجناح في المغرب وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضأل الاحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع (1) حتى ما ما يحمل عرشه إلا عظمته. وفي الصافي عن التوحيد بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: وقوله في آخر الايات: " ما زاغ البصر وما طغى لقد رآى من آيات ربه الكبرى " رآى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذي لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله. وعن الخصال بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تمثال جسد ولا إناء يبال فيه. أقول وهناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الاحصاء واردة في باب المعاد ومعراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبواب متفرقة أخرى، وفيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الاخبار المجموعة بإسناده عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، وقرء " يزيد في الخلق ما يشاء ". وفي التوحيد بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء. وفي المجمع في قوله تعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " روى أبو هريرة عن النبي (1)
________________________________________
بفتح الصاد وسكونها طائر أصغر من العصفور.
________________________________________
[ 12 ]
صلى الله عليه وآله قال: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن. أقول: والروايات الثلاث الاخيرة من قبيل الجري والانطباق. (كلام في الملائكة) تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم ولم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل وميكال وما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت والكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة والرقيب والعتيد وغير ذلك. والذي ذكره الله سبحانه في كلامه - وتشايعه الاحاديث السابقة - من صفاتهم وأعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى وبين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا وللملائكة فيها شأن وعليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات، وليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الامر الالهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. وثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادت مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل ولا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم: 6. وثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا ودنوا فبعضهم فوق بعض وبعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع ومنهم مأمور مطيع لامره، والامر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور والمأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شئ البتة قال تعالى: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 وقال: " مطاع ثم أمين " التكوير: 21، وقال: " قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " سبأ: 23. ورابعا: أنهم غير مغلوبين لانهم إنما يعملون بأمر الله وإرادته " وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض " فاطر: 44، وقد قال الله: " والله غالب على
________________________________________
[ 13 ]
أمره " يوسف: 21، وقال: " إن الله بالغ أمره " الطلاق: 3. ومن هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال والفساد والتغير ومن شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، وربما صادفت الموانع والافات فحرمت الغاية وبطلت دون البلوغ إليها. ومن هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة وأشكالهم وهيآتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم وظهوراتهم للواصفين من الانبياء والائمة عليهم السلام، وليس من التصور والتشكل في شئ ففرق بين التمثل والتشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الانسان فهو في ظرف المشاهدة والادراك ذو صورة الانسان وشكله وفي نفسه والخارج من ظرف الادراك ملك ذو صورة ملكية وهذا بخلاف التشكل والتصور فإنه لو تشكل بشكل الانسان وتصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الادراك والخارج عنه فهو إنسان في العين والذهن معا ؟ وقد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم. ولقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح ومريم: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17 وقد تقدم تفسيره. وأما ما شاع في الالسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب والخنزير، والجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير فمما لا دليل عليه من عقل ولا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، وأما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية. * * * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم - 2. يا أيها الناس اذكروا
________________________________________
[ 14 ]
نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - 3. وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور - 4. يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور - 5. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من اصحاب السعير - 6. الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير - 7. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون - 8. (بيان) لما أشار إلى الملائكة وهم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد وأن وعده تعالى بالبعث وعذاب الكافرين ومغفرة المؤمنين الصالحين حق، وفي الايات تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " الخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة وهو الرزق فلا مانع عنه
________________________________________
[ 15 ]
وما يمنع فلا مؤتى له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس الخ. كما عبر في الجملة الثانية بالارسال لكنه عدل عن الارسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " ص: 9 وقوله: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق " أسرى: 100 والتعبير بالفتح أنسب من الارسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مؤنة زائدة. وقد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به. وقوله: " وما يمسك فلا مرسل له من بعده " أي وما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، وفي التعبير بقوله: " من بعده " إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الاعطاء. وقوله: " وهو العزيز الحكيم " تقرير للحكم المذكور في الاية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه وإذا منع فليس لمعط أن يعطيه، وهو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة ومصلحة وإذا منع منع عن حكمة ومصلحة وبالجملة لا معطي إلا الله ولا مانع إلا هو، ومنعه وإعطائه عن حكمة. قوله تعالى: " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الخ. لما قرر في الاية السابقة أن الاعطاء والمنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الاية بذلك على توحده في الربوبية. وتقرير الحجة أن الاله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته وهي ملكه تدبير أمر الناس وغيرهم، والذي يملك تدبير الامر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس وغيرهم ويرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الالهة التي اتخذوها لانه سبحانه هو الذي خلقها دونهم والخلق لا ينفك عن التدبير ولا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لانه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها وإنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لانه
________________________________________
[ 16 ]
خالقها وخالق النظام الذي يجري عليها. وبذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا. وقوله: " اذكروا نعمة الله عليكم " المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي. وقوله: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض " الرزق هو ما يمد به البقاء ومبدؤه السماء بواسطة الاشعة والامطار وغيرهما والارض بواسطة النبات والحيوان وغيرهما. وبذلك يظهر أيضا أن في الاية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الاية السابقة نعمة في هذه الاية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا وكان مقتضى سياق الايتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: " هل من خالق " ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لالهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام وأمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: " هل من خالق " أشير بالوصف إلى أن الرازق والمدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام ولم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء والارض. وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ". أي لا معبود بالحق إلا هو لان المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم ويرزقكم وليس إلا الله. وقوله: " فأنى تؤفكون " توبيخ متفرع على ما سبق من البرهان أي فإذا كان الامر هكذا وأنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل ومن التوحيد إلى الاشراك. وفي إعراب الاية أعني قوله: " هل من خالق غير الله " الخ. بين القوم مشاجرات طويلة والذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن " من " زائدة للتعميم، وقوله:
________________________________________
[ 17 ]
" غير الله " صفة لخالق تابع لمحله، وكذا قوله: " يرزقكم " الخ. و " من خالق " مبتدء محذوف الخبر وهو موجود، وقوله: " لا إله إلا هو " اعتراض، وقوله: " فأنى تؤفكون " تفريع على ما تقدمه. قوله تعالى: " وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور " تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي وإن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم إممهم وأقوامهم وإلى الله ترجع عامة الامور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم. ومن هنا يظهر أن قوله ؟ " فقد كذبت رسل من قبلك " من قبيل وضع السبب موضع المسبب وأن قوله: " وإلى الله ترجع الامور " معطوف على قوله: " قد كذبت " الخ. قوله تعالى: " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية والالولهية. فقوله: " إن وعد الله حق " أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا وإن شرا حق أي ثابت واقع، وقد صرح بهذا الوعد في قوله الاتي: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ". وقوله: " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " النهي وإن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، والمعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها والتلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها وملاهيها والاستغراق في طلبها والاعراض عن الحق. وقوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم وهو الذي يبالغ في الغرور ومن عادته ذلك، والظاهر - كما قيل - أن المراد به الشيطان ويؤيده التعليل الواقع في الاية التالية " إن الشيطان لكم عدو " الخ. ومعنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه وعفوه تعالى تارة ومظاهر
________________________________________
[ 18 ]
ابتلائه واستدراجه وكيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا ونسيان الاخرة والاعراض عن الحق والحقيقة لا يستعقب عقوبة ولا يستتبع مؤاخذة، وأن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم وتوغلوا في غفلتهم واستغرقوا في المعاصي والذنوب زادوا في عيشهم طيبا وفي حياتهم راحة وبين الناس جاها وعزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، ولا خبر عما وراءها وليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد والوعيد وتخبر به النبوة من البعث والحساب والجنة والنار إلا خرافة. فالمراد بغرور الشيطان الانسان بالله اغترار الانسان بما يعامل به الله الانسان على غفلته وظلمه. وربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للانسان وإن قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " تأكيد لقوله: فلا تغرنكم الحياة الدنيا " بتكراره معنى. قوله تعالى: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " الخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله: " ولا يغرنكم بالله الغرور " والمراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الانسان وتحريمه سعادة الحياة وحسن العاقبة، والمراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل وعدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه وتسويلاته ولذلك علل عداوته بقوله: " إنما يدعو حزبه ". فقوله ؟ " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " في مقام تعليل ما تقدمه والحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، واللام في " ليكونوا " للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، والسعير النار المسعرة وهو من أسماء جهنم في القرآن. قوله تعالى: " الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير " هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، وتنكير العذاب للدلاله على التفخيم على أن لهم دركات ومراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم وفسوقهم فالابهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: " مغفرة وأجر ". قوله تعالى: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تقرير وبيان للتقسيم الذي تتضمنه الاية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر
________________________________________
[ 19 ]
له عذاب شديد ومؤمن عامل بالصالحات له مغفرة وأجر كبير والمراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما. فقوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " مبتدء خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، والفاء لتفريع الجملة على معنى الاية السابقة، والاستفهام للانكار، والمراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر ويشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه، والمعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا والذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا. وقوله: " فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " تعليل للانكار السابق في قوله: " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا " أي الكافر الذي شأنه ذلك والمؤمن الذي بخلافه لا يستويان لان الله يضل أحدهما بمشيته وهو الكافر الذي يرى السيئة حسنة ويهدي الاخر بمشيته وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات ويرى السيئة سيئة. وهذا الاضلال إضلال على سبيل المجازاة وليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه. وبالجملة اختلاف الكافر والمؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الالهي بالعذاب والرحمة لاختلافهما بالاضلال والهداية الالهيين واختلافهما بالاضلال والهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة وعدمها. وقوله: " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " الحسرات جمع حسرة وهي الغم لما فات والندم عليه، وهي منصوبة لانه مفعول لاجله والمراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لاجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم. والجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالاضلال والهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك وكفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم ورؤيتهم السيئة حسنة وهو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الامر ولا يفعل بهم إلا الحق ولا يجازيهم إلا بالحق. ومن هنا يظهر أن قوله: " إن الله عليم بما يصنعون " في موضع التعليل لقوله:
________________________________________
[ 20 ]
" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " فلا ينبغي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا وحقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم وهو عليم بما يصنعون. * * * والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور - 9. من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور - 10. والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير - 11. وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 12. يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير - 13. إن تدعوهم لا يسمعوا
________________________________________
[ 21 ]
دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير - 14. (بيان) احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية والارضية التي يتنعم بها الانسان ولا خالق لها ولا مدبر لامرها إلا الله سبحانه، وفيها بعض الاشارة إلى البعث. قوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت " الخ. العناية في المقام بتحقق وقوع الامطار وإنبات النبات بها، ولذلك قال: " الله الذي أرسل الرياح " وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله: " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا " الروم: 48. وقوله: " فتثير سحابا " عطف على " أرسل " والضمير للرياح والاتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والاثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا. وقوله: " فسقناه إلى بلد ميت " أي إلى أرض لانبات فيها " فأحيينا به الارض بعد موتها " وأنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، ونسبة الاحياء إلى الارض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة. ولذلك شبه البعث وإحياء الاموات بعد موتهم بإحياء الارض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال: " كذلك النشور " أي البعث فالنشور بسط الاموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور. وفي قوله: " فسقناه إلى بلد ميت " الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: " والله أرسل " بنعت الغيبة وفي قوله: " فسقناه " الخ. بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: " والله أرسل الرياح " أخذ لنفسه نعت
________________________________________
[ 22 ]
الغيبة ويتبعه فيه الارسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: " فتثير سحابا " على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لان مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. وقوله: " فأحيينا به الارض " ولم يقل: فأحييناه مع كفايته وكذا قوله: " بعد موتها " مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للاخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه. قوله تعالى: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " قال الراغب في المفردات: العزة حالة مانعة للانسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " انتهى. فالصلابة هو الاصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يقهر كقوله تعالى: " يا أيها العزيز مسنا " يوسف: 88. وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: " وعزني في الخطاب " ص: 23 والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال، قال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز " حم السجدة: 41 والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: " عزيز عليه ما عنتم " التوبة: 138 و العزة بمعنى الانفة والحمية قال تعالى: " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " ص: 2 إلى غيرذلك. ثم إن العزة بمعنى كون الشئ قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8. وبذلك يظهر أن قوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالا وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لان العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات. فوضع قوله: " فلله العزة جميعا " في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع
________________________________________
[ 23 ]
المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالايمان والعمل الصالح. قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، وقال في المجمع: والكلم جمع كلمة يقال ؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث، وكل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى. والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس وفلاحها. وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الانسان بالاذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " إبراهيم: 25 وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم. وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الاعلى رفيع الدرجات، وإذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهو من لوازم المعنى. ثم أن الاعتقاد والايمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه، وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والاخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزي إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. فقد تبين بما مر معنى قوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وأن ضمير " إليه " لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، وبصعوده
________________________________________
[ 24 ]
تقربه منه تعالى، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في " يرفعه " ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب. ولهم في الاية أقوال أخر: فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والاثابة عليه كما تقدمت الاشارة إليه، وقيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الايمان والطاعات إلى الله سبحانه، وقيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا. وقيل: إن فاعل " يرفعه " ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: فاعل " يرفعه " ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله. وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والاسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى. قوله تعالى: " والذين يمكرون السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " ذكروا أن " السيآت " وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات، ووضع اسم الاشارة موضع الضمير في " مكر أولئك " للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيآت لهم عذاب شديد ومكر أولئك الماكرين هو يبور ويهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم وعزتهم. وقد بان أن المراد بالسيآت أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، والاية مطلقة، وقيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الاثبات والاخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الاية مطلقة. ووجه اتصال ذيل الاية بصدرها أعني اتصال قوله: " إليه يصعد " إلى آخر الاية بقوله: " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " مريم: 81 فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا وبين تعالى ذلك بأن
________________________________________
[ 25 ]
توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الانسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزا. قوله تعالى: " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا " الخ. يشير تعالى إلى خلق الانسان فابتدء خلقه من تراب وهو المبدء البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدء قريب تتعلق به الخلقة. وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشئ يضاف إلى أصله وقيل: بل المراد خلق آدم نفسه وقيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: ثم من نطفة. والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الاول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة، وفي الثالث المراد خلق كل واحد من الافراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه. ويمكن تأييد القول الاول بقوله تعالى: " خلق الانسان من صلصال كالفخار " الرحمن: 14، والثاني بنحو قوله: " وبدء خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " السجدة: 8، والثالث بقوله: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم " الاعراف: 11 ولكل وجه. وقوله: " ثم جعلكم أزواجا " أي ذكورا وإناثا، وقيل: أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض، وهو كما ترى، وقيل: أي أصنافا وشعوبا. وهو كسابقه. وقوله: " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " من زائدة لتأكيد النفي، والباء في " بعلمه " للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع، والمعنى ما تحمل ولا تضع أنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالا من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page