• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الرحمن : بيئة الجنّات الأربع

 

بيئة الجنّات الأربع

في سورة «الرحمن» ، سردٌ يصف أربع جنّات في بيئة الآخرة على نحو مزدوج: أي جنّتين لكلّ بطل ، و كلّ جنّتين ينتظمهما وصفٌ ـ يتصل بتفصيلات البيئة ـ متميّزٌ عن الآخر ، ممّا يعني أنَّ هذا التميّز له دلالته الخاصة التي ينبغي أن نقف عندها .

و لنقرأ أوّلا سردَ القصة للجنّتين الاُوليين:

﴿وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

﴿ذَواتا أَفْنان

و لنقرأ سرد القصة للجنّتين الاُخريين:

﴿وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ

هذا يعني أنّ هناك جنّتين ذواتي بيئة واحدة في كلّ مفرداتهما: من زرع و ماء و فرش و حور ، بحيث تتماثل هاتان الجنّتان في كلّ مستوياتهما .

و هناك جنّتان غيرهما ، تتماثلان أيضاً في مستوياتهما المتصلة بالزرع ، و الماء ، و الفرش و الحور ، . . . لكنّهما متميّزتان عن الجنّتين الاُوليين .

و السؤال هو: هل إنّ كلاّ من الجنّتين المزدوجتين ، رُسِمَتَا لعنصر بشريّ واحد من حيث موقعه العبادي ؟ أم إنّهما تمثّلان عنصرين أو طبقتين أو موقعين يُفاضل أحدُهما الآخر ، على نحو التفاضل الذي سنلحظه في سورة «الواقعة» مثلا ، عندما نجدها ترسم لـ السابقين موقعاً يفضل على الموقع الذي ترسمه لأصحاب اليمين ؟

و أهمية هذا السؤال تنعكس دون أدنى شك على أهمية الوظيفة الخلافيّة في الأرض ، و انسحابها على الموقع الذي يحتلّه المؤمنون في بيئة الآخرة ، تبعاً لحجم الإيمان الذي مارسوه في الحياة الدنيا .

هذا ما يستدعي التأمّل كما قلنا .

و لنقف إذن ، عند تفصيلات القصة .

* * *

إنّ بعض النصوص المفسّرة ، تدهب إلى أنّ الجنّات الأربعَ ، تظلّ مكافأةً لعنصر بشريٍّ واحد يتنقل من خلالها حيث يشاء . كلّ ما في الأمر أنّ الجنّتين الاُوليين تظلاّن و كأ نّهما مقرٌّ خاصٌّ للشخصية ، . . . و أنّ الجنّتين الاُخريين تقعان على مقربة من موقعه الخاص ينعم بهما حين يشاء .

بيد أنّ هذا التفسير لا يمكن الركون إليه ، لسببين:

أوّلهما: مخالفته لظاهر النص القصصي .

ثانيهما: مخالفته لنصوص مفسّرة اُخرى موثوق بها .

فمن حيث البناء الفنّي للقصة ، لا نتوقّع ـ نحن القرّاء أو السامعين ـ أن تبنيَ القصة هيكلها على أربع جنّات ، كلّ اثنتين منهما متميّزٌ عن الآخر ، دون أن ينسحب هذا التمييز على الأبطال الذين ينعمون بهذه المقاعد ، . . . ممّا يعني ـ بالضرورة ـ أن يكون الأبطالُ أيضاً لهم تميّزُهم و خصوصيتهم .

إنّ الناقدَ القصصي أو المتذوّق الفنّي بعامّة ، ممّن يخبر أساليب رسم البيئة و البطل ، و العلاقة العضوية بينهما ، و دقائق التفصيلات المتصلة برسمهما ، ثمّ مدى التلاحم بين دقائق هذه التفصيلات ، بمقدوره حتّى بعيداً عن النصوص المفسّرة ، أن يستخلص أنّ الجنّتين الاُوليين خُصصتا لطبقة متميّزة عن الطبقة الاُخرى التي لابدّ أن تكون أقلّ درجةً من الطبقة الاُولى ، . . . و إلاّ لانتفى المسوّغُ الفنّي لهذا التقسيم من حيث الهيكل القصصي العام للنص .

و الأهم من ذلك ، أنّ النصوص المفسّرة الموثوق بها ، الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام)تُعزّز مثل هذا التفسير الفنّي الخالص ، ممّا يُضاعف من خطورة السمة الفنّية التي تطبع القصص القرآنية الكريمة .

و لسوف نلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب في تضاعيف دراستنا لهذه القصة الكريمة .

و لكن يعنينا أن نبدأ بدراسة التفصيلات المتصلة ـ أوّلا ـ بالجنّتين الاُوليين . . . ،
و موقعهما من الأبطال الذين ينعمون بمعطياتهما . . . ، وصلة ذلك بالمهمّة العبادية في الأرض ، حيث يتوقّف نمط المصير الذي ترسمه القصة هنا على نمط السلوك الدنيوي الذي تمارسه الشخصيّة في زحمة الصراع بين الشهوة و العقل .

* * *

يبدأ رسمُ البيئة الاُخروية في هذه القصة على النحو الآتي:

﴿وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ

إنّ هذه البداية القصصية لها أهميتُها الجماليّة المُمتعة من حيث هيكل القصة ، و انعكاسه على دلالاتها الفكرية ، و ما يُصاحبها من الفارق بين طبقتين من الشخوص تحتلاّن ـ تبعاً لذلك ـ موقعين متفارقين من بيئة الجنّة .

لقد قالت القصة: هناك جنتان لمِن خاف مقامَ ربّه . و ببساطة ، فإنّ الخوف من اللّه ، أو التقوى بعامّة ، يعنيان: أنّ الشخصية تلتزم بأوامر السماء و نواهيها بالنحو الذي يستاقها إلى الظفر بمكافأة تتناسب مع التزامها .

و هذا الالتزام بمبادئ السماء يتّسم بكونه عالياً ، ورفيعاً ، بالغاً درجته التي تفوق ما دونها من الدرجات التي تتراوح بين الالتزام واللاالتزام . . . ، بين الطاعة و المعصية ، . . . بين التصميم على الشيء و بين التردّد فيه . . . بين الخلوص في الممارسة و بين مزجها برائحة الذات . . .

و النصوص المفسرة ، تُلقي إنارة واضحةً على هذا الجانب ، حين يقول أحدُها عن الإمام الباقر(عليه السلام) :

«إنّ الرجلَ يهجمُ على شهوة من شهوات الدنيا و هي معصية ، فيذكر مقام ربّه ، فيدعها من مخافته . فهذه الآيةُ فيه . فهاتان جنّتان للمؤمنين و السابقين» .

و يقول ولدهُ الإمام الصادق(عليه السلام) ، تعقيباً على الآية المتقدمة الكريمة:

«مَن عَلِمَ أنّ اللّه يراه ويسمع ما يقول ، و يعلم ما يعمله من خير وشرّ ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه» .

هذان النصّان المفسّران ، صريحان في أنّ الجنّتين اللتين رسمتهما القصة ، إنّما تكون من نصيب اُولئك الذين يتركون المعصية مخافةً من اللّه ، أي: فَيَدعها من مخافته . . . اُولئك الذين تحجزهم مخافة اللّه عن ممارسة القبيح من الأعمال ، أي:
فيحجره ذلك عن القبيح من الأعمال .

إذن: الالتزام بمبادئ السماء ، دون أن يصحبها وقوعٌ في المعصية ، هو الذي يسوّغ للأبطال أن يحتلّوا موقعاً في الجنّة ، لا يحتلّه آخرون صدرت المعصية منهم بشكل أو بآخر .

و هذا من حيث الدلالة الفكرية ، لبداية القصة القائلة:

﴿وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ

و أمّا من حيث الدلالة الفنّية لهذه البداية القصصية وصِلتها بالأجزاء اللاحقة التي ستُلقي إنارة تامّة على هذا الجانب ، فيتطلّب وقوفاً مفصّلا نبدأ بتوضيحه .

* * *

قلنا: إنّ القصة بدأت بتعريف الجنّتين بهذا النحو:

﴿وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ

و قلنا أيضاً: إنّ هذه البداية القصصية تكشف عن أنّ هاتين الجنّتين ، تجسّدان موقعاً عُلوياً ما بعده من موقع ، مادام الخوف أو التقوى يحجزان الشخصية عن الوقوع في المعصية ، ممّا يتطلّب مكافأة أعلى و أرفعَ بالقياس لمن يمزج الطاعة بالمعصية ، أو التردّد فيها .

و أمّا من الناحية الفنّية الصرف ، فإنّ هذه البداية القصصية تعلن بوضوح ، بأنّ هاتين الجنّتين خصّصتا للسابقين و للمؤمنين المتّقين بعّامة ، و ليس لمطلق المؤمنين الذين خُصّصت لهم جنّتان اُخراوان أقل درجة من الجنّتين الاُولَيَين .

و يمكننا معرفة هذا الفارق ، من خلال الربط الفنّي بين بداية القصة و نهايتها .

فبداية القصة تقول:

﴿وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ

و أمّا نهاية القصة ، فتقول:

﴿هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلاَّ الإِحْسانُ

و من الواضح ، أنّ الإحسان لا يأخذ دلالته اللغوية إلاّ إذا اقترن بعدم صدور المعصية ، و هو مقام السابقين إلى الإيمان قبل غيرهم ، أو المؤمنين الذين تطبعهم سمة التقوى ، على نحو ما أوضحته النصوص المفسّرة .

و المهم أنّ المبنى الهندسي للقصة من حيث البداية و النهاية ، يكشف عن مثل هذا الترابط بين مخافة اللّه و الإحسان ، ممّا يتواسق مع النصوص المفسّرة في هذا الصدد .

و الآن حين نَدَعُ بداية القصة و نهايتها ، و نتّجه إلى ما يُسمى في لغة الأدب القصصي بــ : الوسط ، و هو المجال الذي تتطوّر من خلاله الأحداث إذا كانت القصة ذات طابع حادثي ، أو الوصف إذا كانت القصة ذات طابع بيئي ، كما هو شأن هذه القصة التي نتناولها بالدراسة ، حينئذ يتطلّب الأمرُ وقوفاً مفصّلا على أبعاد هذه البيئة التي عرّفتنا القصة من خلال بدايتها و نهايتها ملامح أبطالها الذين ظفروا بمثل هاتين الجنّتين العاليتين .

فما هي ملامحُ هذه البيئة ، أو الجنّتين ؟

* * *

تقول القصة عن هذه البيئة ، أو عن تينك الجنّتين ، أنّهما:

1 ـ ﴿ذَواتا أَفْنان .

2 ـ ﴿فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ .

3 ـ ﴿فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَة زَوْجانِ .

4 ـ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُش بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَق وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان .

5 ـ ﴿فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ كَأَ نَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ .

هذه هي أبعاد أو مفردات الجنّتين العاليتين اللتين تمثلان أعلى درجات الجنّة بالقياس إلى درجة دونهما .

و لكي نتعرّف على طبيعة الفارق بين الدرجة الاُولى و الثانية ، إذا صحّ استخدام مثل هذه اللغة ، أقول: لكي نتعرّف على الفارق بين الدرجتين ، يحسن بنا أن نقرأ أيضاً مفردات الجنّتين الاُخرتين .

تقول القصة عن الجنّتين اللتين تمثّلان درجةً أدنى:

﴿وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ

و تقول القصة عنهما ، . . . أ نّهما:

1 ـ ﴿مُدْهامَّتانِ .

2 ـ ﴿فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ .

3 ـ ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ .

4 ـ ﴿فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ .

5 ـ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان .

و قد يبدو من خلال هذه المقارنة أنّ عنصراً مشتركاً بين الجنّات الأربع أو الجنّتين العاليتين و الأدنى منهما ، . . . قد يبدو أنّ عنصراً مشتركاً يطبع كلاّ من الجنّتين .

بيد أنّ التدقيق في ذلك ، يكشف عن وجود فارق بينهما ، يُعزّز من وجهة النظر الذاهبة إلى أنّ كلاّ من الجنّتين ، يمثلان فارقاً بين طبقات الشخوص ، و ليس إلى أنّ الجنّات الأربع ، اثنتان منهما مقرٌّ خاصٌّ و اثنتان على مقربة منهما ، . . . و هذه سمةٌ جديدة من سمات الفنّ العظيم الذي قام عليه هيكلُ القصة ، فيما قلنا: إنّ بناء القصة نفسه يكشف عن هوية الجنّتين و افتراقهما عن الجنّتين الاُخرتين ، حتّى لو كنّا بعيداً عن النصوص المفسّرة .

و تلك سمة ـ كما قلنا ـ من سمات الفنّ القصصي في القرآن الكريم ، حيث سبقتها سمة اُخرى تتصل بالترابط الفنّي بين البداية و النهاية ، ممّا تكشف السمتان معاً عن هذه الدلالة التي أشرنا إليها .

هذا إلى أنّ هناك سمة فنّية ثالثة تتصل بالعلاقة العضوية بين الأبطال المرسومين في القصة و بين بيئاتهم ، قد نتحدّث عنها لاحقاً .

و المهمّ ، نحن الآن حيال جنّتين تفترقان عن جنّتين أقل منهما درجةً ، يتعيّن علينا توضيح الفارق بينهما مادام الأمر متصلا بانعكاس ذلك على سلوكنا في الحياة الدنيا ، في غمرة الصراع بين الشهوة و العقل .

* * *

إنّ العناصر المشتركة في الجنّات الأربع هي خمس عناصر:

1 ـ النبات أو الزرع أو الشجر .

2 ـ الماء أو العيون .

3 ـ الفاكهة .

4 ـ الفُرُش .

5 ـ الحور .

غير أنّ كلاّ من الشجرِ و الماء و الفاكهة و الفُرُشِ و الحور ، يطبعها وصفٌ قد يكون مشتركاً في بعض خطوطه ، لكنه في خطوطه الاُخرى متميّزٌ عن الآخر .

و لنحاول الوقوف عند كلٍّ من هذه العناصر الخمسة ، مع ملاحظة أنّ هذه العناصر الخمسة جاءت متسلسلةً في الوصفين ما عدا الحور و الفُرُش ، حيث جاءت السلسلة على هذا النحو:

أوّلا: النبات . يليه: الماء . يليه: الفاكهة .

و لكن فيما يتصل بالفُرُش ، جاء رقمها رابعاً من السلسلة التي تصف الجنّتين العاليتين ، و جاء الوصف المتصل بالحور خامساً من السلسلة المذكورة . بينما جاء الأمر معكوساً فيما يتصل بالجنّتين اللتين تمثّلان درجة أدنى .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ لكلٍّ من التسلسل في وصف العناصر الخمسة أهميّته الهندسية في هيكل القصة ، . . . الشجر ، فالماء ، فالفاكهة .

كما أنّ لكلٍّ من تقديم الوصف المتّصل بالفُرُش ـ العنصر الرابع من البيئة ـ على الوصف المتّصل بالحور ـ العنصر الخامس من البيئة ـ . . . إنّ لهذا التقديم من حيث التسلسل أهميته الهندسية أيضاً في هيكل القصة ، حينما يكون التقديم خاصاً بالأبطال الذين ظفروا بالجنّتين العاليتين ، بالقياس إلى الأبطال الذين ظفروا بدرجة أدنى ، حيث يتمّ طرح السؤال الآتي:

لماذا جاء الوصف المتّصل بفُرُش الجنّة رقماً رابعاً للأبطال العُلويّين مقدّماً على الحور ، في حين جاء الأمر معكوساً فيما يتصل بالأبطال الأدنى درجة ؟

إنّ طرح مثل هذا السؤال له أهميته الفنّية دون أدنى شك . كما أنّ طرح سائر الأسئلة المتصلة بالفارق بين الطبقتين من أبطال الجنّة له أهميته الكبيرة مادام الأمر متصلا بسلوكنا في الحياة الدنيا و انسحاب هذا السلوك تبعاً لنوع اهتماماتنا الروحية و المادية على المكافأة الاُخروية التي تهيّئ لنا بيئةً تتناسق مع طبيعة اهتمامنا الروحي و المادي الذي نتطبّع عليه في الجنّة أيضاً .

* * *

قلنا: إنّ الجنّات الأربع: العاليَـتَين و الدانيَـتَين تكتنفها خمسة عناصر أو خمس مفردات بيئيّة هي: الزرع ، الماء ، الفاكهة ، الفُرُش ، الحور .

و الآن لِنقف على الفارق بين الجنّتين العاليتين و الجنّتين الدانيتين ، و نبدأ بأوّل العناصر الخمسة و هو: الزرع أو الشجر .

قالت القصة عن الجنّتين العاليتين ، أ نّهما:

﴿ذَواتا أَفْنان

و قالت القصة عن الجنّتين الدانيتين ، أ نّهما:

﴿مُدْهامَّتانِ

من حيث البُعد الجمالي لكلّ من الجنّتين ، فإنّ العاليتين منهما ذواتا أغصان ، و الدانيتين منهما مكثّفتان بالزرع أو شديدتا الرواء و الخُضرة .

و طبيعيّاً ، فإنّ مرأى الأغصان و هي متدلّية ، و مرأى الشجر بعامّة و هو مكثّف كمّاً أو لوناً ، ينطويان على مرأىً أو منظر أو مشهد مُمتع ، و رائع و جميل .

بيد أنّ الفارق بين مرأى الأغصان ، و مرأى كثافة الشجر أو شدّة خضرته واضحٌ من حيث درجة الإمتاع الجمالي لكلٍّ منهما .

و نحن يمكننا إدراك الفارق بينهما من خلال خبراتنا الدنيوية لمشاهد الطبيعة الجميلة ، فكثافة الأشجار أو شدّة خضرتها أقل إمتاعاً ـ دون أدنى شك ـ من بروز الأغصان المتدلّية بنحو لافت ، و منسّق ، . . . و بخاصة أنّ الفنَنَ أو الغصن يقترن بمشاهد حبّات الثمر قبل قطافه ، أو بمشاهد الثمر أوان قطافه . مضافاً لذلك أنّ بروز الأفنان بتفريعاتها المختلفة من الممكن أن يغطّي مساحة الأرض بحيث يعوّض عن الكثافة الكمية أو النوعية التي تتميّز بها الجنّتان الدانيتان ، ممّا يعني أنّ الجنّتين العاليتين تحملان خصّيصة الجنّتين الدانيتين ، و زيادة .

و هذا وحده كاف في تبيين الفارق بينهما .

* * *

العنصر الثاني من العناصر الخمسة التي تضمنتها بيئة الجنّات الأربع هو: الماء .

قالت القصةُ عن الجنّتين العاليتين ، أ نّهما:

﴿فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ

و قالت عن الجنّتين الأدنى منهما:

﴿فِيهِما عَيْنانِ نَضّاخَتانِ

ففي الوصف الأوّل: العينان تجريان و في الوصف الثاني: العينان تفوران مثل النافورة .

و قد يبدو لأوّل وهلة أنّ الماء أو العين النضاخة أشدّ إمتاعاً من العين الجارية و بخاصة إذا أخضعنا الظاهرة لخبراتنا التي يستثيرها مشهد النافورة أكثر من جريان العيون .

غير أنّ التأمّل الدقيق يحملنا على الاستجابة المعاكسة لخبراتنا المألوفة في هذا الصدد . فالعيون الفوارة تستثيرنا عابراً ، إذا قيست باستمرارية الإثارة التي ينطوي عليها جَرَيان الماء أو العين .

إنّ جريان العيون ، على الأقل يأخذ أشكالا متنوّعة تطرد الرتابة التي يخلّفها شكلٌ واحدٌ من حركة المياه ، تبعاً للمنعطفات المختلفة التي ينتظمها جريان العيون في جهاته الأربع أو الست أو الأكثر ، و في تفريعاته المختلفة التي لا تتأتّى في العيون الفوّارة ، حيث تأخذ هذه الأخيرة ـ أي الفوارة ـ شكلا رتيباً ، و إن كان من الممكن أن يخضع أيضاً لنفس طوابع العيون الجارية من تفريع و انعطاف ، لكنه أقلّ إمتاعاً منه من حيث طبيعة الجَرَيان ذاته بما يحمله من حركة تتجانس مع استواء الأرض ، على العكس من الفوران الذي يأخذ حركة فوقية بالقياس إلى استواء الأرض .

فضلا عن ذلك ، فإنّ الإمكانات التي تصاحب العيون الجارية ، لا تتوفّر بالمستوى ذاته في العيون الفوّارة من حيث سهولة و إتاحة التناول للمياه الجارية:
شرباً أو غسلا أو ركوباً .

و بكلمة جديدة فإنّ الظواهر النفعية التي يتيحها الماءُ الجاري ، لا يتيحها الماءُ الفوّارُ عادة .

إذن في الحالات جميعاً تظلّ العيون الجارية أشدّ إمتاعاً و أكثر نفعاً من العيون الفوارة ، و هو ما يميّز الفارقية بين أبطال الجنّة الذين ينعمون بمقاعد عالية ، و بين الأبطال الذين ظفروا بمقاعد أدنى تبعاً للدرجة التي مارسوها في سلوكهم الدنيوي في الصراع بين الشهوة و العقل .

* * *

العنصر الثالث من العناصر الخمسة التي تضمّنتها بيئة الجنّات الأربع ، هو:
الفاكهة .

قالت القصةُ عن الجنّتين العاليتين:

﴿فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَة زَوْجانِ

و قالت عن الجنّتين الدانيتين:

﴿فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ

أيضاً ، لأوّل وهلة يبدو و كأنّ الجنّتين الدانيتين فيهما مضافاً إلى الفاكهة بعامّة ، نخلٌ و رمّان . بينما جاءت الاشارة إلى الجنّتين العاليتين بأ نّهما ذواتا زوجين من كلّ فاكهة .

لكنّ التأمل البسيط يدلّنا على الفارق الكبير بين الوصفين . . . إنّ النخل و الرمّان ـ كما تقول النصوص المفسّرة التي تنقل النص إلى إطاره التأريخي ـ يشكّلان أفضل الفواكه . و القصة حينما تقول عن الجنّتين الدانيتين بأنّ فيهما فاكهة و نخل و رمّان إنّما تقصد من ذلك أنّ في هاتين الجنّتين كلّ أنواع الفواكه بما فيها أفضلها و هو النخل و الرمّان . و هذا يعني باختصار أنّ القصة تريد أن تقول لنا: إنّ في الجنّتين الدانيتين كلّ أنواع الفواكه .

لكننا حين نتّجه إلى الجنّتين العاليتين نجد أ نّهما ينطويان على ما في الجنّتين الدانيتين ، و زيادة .

ففي الجنّتين العاليتين كلّ أنواع الفواكه ، كما هو طابع الجنّتين الدانيتين ، لكن فيهما زيادة على ذلك. إنّ الفواكه زوجان في كلٍّ منها ، فالعنب مثلا يشكّل فاكهة من الفواكه ، و هو متوفّرٌ في كلا الجنّتين العالية و الدانية ، لكنّه في الجنّتين العاليتين نوعان: العنب الرَطب و العنب اليابس ، و كلاهما شهيّ ، و له خصوصيته . بينما هو في الجنّتين الدانيتين نوعٌ واحدٌ فحسب .

إذن الفارق كبير في درجة الإمتاع أو الإشباع الذي تحقّقه السماء لأبطال الجنّة ، فالأبطال العُلويون يتناولون من كلّ فاكهة زوجين ، نوعين . . .

أمّا الأبطال الأقل درجة ، فإنّ سمة الزوجين أو النوعين من الفواكه قد اختفت في جنّتيهما و اكتُفي من ذلك بسمة أنّ فيهما فاكهةً ، بضمنها أشهى الفواكه و هي:
النخل و الرمّان .

و للمرة الجديدة ، فإنّ وجود مثل هذا الفارق بين أبطال الجنّة ، يُداعي أذهاننا إلى الفارق في سلوكنا الدنيوي ، بين شخصيات لا تصدر معصيةٌ منها في صراعها بين الشهوة و العقل ، و بين شخصيات تقع فريسة التردّد بينهما ، أو تضيّع منها فُرصُ الطاعة التي لم تنتهزها في الحياة الدنيا بحيث تحيا بعض الحين ، أو أحياناً كثيرة ، غافلةً عن مجالات الطاعة بما فيها المندوبة ، منعكساً ذلك على المكافأة التي ستحصل عليها في اليوم الآخر .

* * *

لحظنا كيف أنّ كلاّ من العناصر الثلاثة: الشجر ، الماء ، الفاكهة قد رُسمت في بيئة الجنّة بنحو من التفاضل ، بحيث كان الأبطال العُلويون ينعمون من خلاله بحجم أشدّ إمتاعاً من الأبطال الأدنى درجةً منهم .

و يبقى الآن كلٌّ من عنصري الفُرُش و الحور ، فيما يتعيّن ملاحظة رسمهما في بيئة الجنّة ، و مدى افتراق الجنّتين العاليتين عن الجنّتين الدانيتين في الاستمتاع بهما .

أمّا الفُرُش ، فقد قالت القصةُ عنها ، فيما يتصل بشخصيات الجنّتين العاليتين ما يلي:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُش بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَق وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان

و قالت القصة عن الشخصيات الأدنى درجة ما يلي:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان

إنّ أبطال الدرجة الاُولى و الثانية ينعمون من حيث الجلوس و المكان بنحو خاص هو: الإتكاء و ليس مجرّد الجلوس .

غير أنّ الفارق بينهما ، أي الفارق بين الشخصيات التي كانت تخاف مقام ربّها في الحياة الدنيا بحيث لم تصدر عنها معصيةٌ من المعاصي ، و بين الشخصيات الأدنى منها ، هو: أنّ التَرَفَ الذي يُصاحب جلوس الشخصيات العُليا ، بَلَغ من التنوّع و الإمتاع إلى الدرجة التي هُيّأت لهم فرش ذات بطانة و ظهارة يتكئون عليها ، البطانةُ من استبرق . . . من حرير . . . من ديباج . . . و أمّا الظهارة فقد سكت النصُ عنها لأسباب فنّية تتمثّل في أنّ القارئ أو السامع بمقدوره أن يُساهم في عملية الكشف عن استخلاص نوع الظهائر التي ازُيّنَت بها الفُرُش .

مضافاً لذلك ، ثمة سمة فنّية اُخرى تطبع صورة الفُرش المُتّكأ عليها و صورة البطائن و هي من استبرق ، هي أنّ الاستناد أو الاتكاء على فراش بطانتُه من استبرق توحي للقارئ و السامع بمدى ما ينعم الأبطال به من نعومة ، و رقّة ، و تَرَف ، و إمتاع ، و إشباع حين تستند ظهورُهم على كتلة من الديباج ، ليس من حيث مظهره الخارجي ، بل من حيث بطانته .

و إذا كان الأمر كذلك ، فلا حاجة حينئذ ـ من الزاوية الفنّية ـ أن ترسم القصة معالم المظهر الخارجي للفرش ، ما دام التشدّد على المظهر الداخلي يقود السامع و القارئ إلى استنتاج سريع ، بأنّ الظهائر سيطبعها إمتاعٌ مُماثل ، أو أشدّ ، مادام الترف في أعلى مستوياته ، هو الطابع الذي يسم شخصيات الجنّتين العاليتين .

* * *

و حين نتّجه إلى الشخصيات الأدنى درجةً ، أو الجنّتين الأدنى إمتاعاً من الجنّتين العاليتين ، نجد أنّ الاتكاء هو:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان

و الرفرف قد يكون وسادة ، أو قماشاً ، أو رياض الجنّة خاصة ، أو أيّ شيء آخر قد رسمت القصةُ طابع الخُضرة عليه ، مادام هذا اللون واضح الإمتاع بالنسبة للمُشاهد .

و أمّا العبقري فقد يكون بدوره بساطاً أو أيّ شيء آخر خلعت القصة عليه طابع الحُسن زيادة في إمتاع المُشاهد .

و الملاحَظ ـ من وجهة النظر الفنّية ـ أنّ هذه الأوصاف التي خُلعت على بيئةالشخصيات الأقل درجة من سابقتها ، هذه الأوصاف يغلب عليها الترف أو المُتعة الخارجية المتصلة بحاسة الإبصار . فالرفرف خضر الألوان ، و العبقري حسان الأشكال ، أي أ نّنا حيال أشكال حَسَنة و ألوان خضراء لا أ نّنا حيال مادة هذه البُسط و الوسائد و الأقمشة و كونها حريراً أو شيئاً آخر مثلا .

و هذا الفارق بين مُتّكأ الشخصيات العالية ، و الشخصيات الأدنى منها ، ينبغي أن نقف عنده مليّاً حتّى نستخلص معالم الجمال الفنّي للقصة و انعكاسها على الدلالات التي ترسم الفارق بين شخصيات عالية ، و شخصيات أدنى منها درجة .

فالمُلاحَظ و نحن نكرّر الإشارة إلى هذه السمة الفنّية العظيمة في القصة أنّ الشخصيات العُليا قد انصبّ الاهتمامُ بها على المادة الداخلية لفُرُشه التي تتكئ عليها .

أمّا الشخصيات الأدنى فقد انصبّ الاهتمامُ بها على الشكل الخارجي للفرش التي تتكئ عليها و الفارق كبير بين الصورتين: صورة المظهر الداخلي و صورة المظهر الخارجي .

فالمظهر الداخلي حينما يكون استبرقاً بالنسبة إلى الشخصيات العليا ، حينئذ فإنّ المظهر الخارجي يكشف بنفسه عن نفسه ، مادام الداخل من جانب أشدّ أهمّيةً من المظهر الخارجي ، و مادام الداخل من جانب آخر مفصحاً عن المظهر الخارجي .

و هذا على العكس من الصورة التي رُسمت للشخصيات الأدنى درجة ، حيث انصبّت الصورة على المظهر الخارجي فحسب ، و هي أشكالُ الفرش و ألوانُها:
الخُضُر و الحِسانُ ، دون أن يصحبها وصف للمظهر الداخلي .

و من الواضح ـ من حيث السمة الفنّية ـ أنّ رسم المظهر الخارجي لا يكشف بالضرورة عن تماثله للمظهر الداخلي ، و هذا على العكس من رسم المظهر الداخلي الذي يكشف ضرورة على المظهر الخارجي أيضاً .

إذن في نهاية المطاف ، أمكننا أن ندرك مدى الفارق بين مُتّكئات الأبطال العُلويين في الجنّة ، و افتراقها عن مُتّكئات الأبطال الأدنى درجة ، من خلال تينك الصورتين الفنّيتين الجميلتين اللتين شُحنتا بإيحاءات غنيّة ممتعة .

* * *

على أنّ الفارق بين الجنّتين العاليتين ، و الجنّتين الدانيتين ، لم ينحصر في ما ذكرناه ، بل هناك فارق كبير رسمته القصة بوضوح ، حينما أضافت جديداً بالنسبة إلى الشخصيات العليا ، لم تُشر إليه بالنسبة للشخصيات الأدنى منها .

و لنقرأ ـ من جديد ـ كلاّ من الوصفين:

قالت القصة عن أصحاب الجنّتين العاليتين:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُش بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَق وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان

و قالت عن الجنّتين الأدنى منهما:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان

فالمُلاحَظ هنا وجود زيادة في بيئة الشخصيات العليا ، لا أثر لها في بيئة الشخصيات الأدنى درجة .

هذه الزيادة هي:

﴿وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان

فقد اُكتفي برسم الجلوسِ و الاتكاء و أشكاله فيما يتصل بالطبقة الثانية من أصحاب الجنّة ، دون أن يقترن ذلك بعنصر الفاكهة التي ربطتها القصة بنمط الجلوس الذي اُتيح للطبقة الاُولى من أصحاب الجنّة .

إنّ الفاكهة تشكّل عنصراً واحداً من خمسة عناصر في بيئة الجنّة و قد مضى الحديث عنها و عن أنماطها و عن الفارق بين الفاكهة التي يتناولها أبطال الجنّتين العاليتين ، و افتراقها عن الفاكهة التي يتناولها أبطال الدرجة الثانية .

و السؤال هو: لماذا جاءت الفاكهةُ من جديد لِتشكّل مادة لأصحاب الجنّتين العاليتين ؟ ثمّ لماذا نسج النصُّ القصصي صمتاً عن الفاكهة فيما يتصل بالطبقة الثانية من أصحاب الجنّة ؟ إنّ الإجابة على السؤالين تتطلب وقوفاً مليّاً عند جملة من الأسرار الفنّية في القصة ، نبدأ بتوضيحها:

* * *

لحظنا فيما يتصل بعنصر الجلوس ، و الاتكاء على فُرُش الجنّة ، أنّ الطبقة الاُولى تتمتّع بامتيازات لا تملكها الطبقة الثانية من المؤمنين .

مضافاً لذلك قد برز امتيازٌ جديد للشخصيات المذكورة ، هو: أنّ هذه الشخصيات في حال اتكائها على فرش الجنّة ، تظلّ ثمار الجنّة على مقربة من أفواهها:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُش بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَق وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان

أمّا الشخصيات الأدنى درجة في الإيمان ، فلا وجود لمثل هذا الإمتياز لها ، بل تتّـكئ ﴿عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان فحسب .

طبيعيّاً ، من الممكن أن تـتمتّع شخصيات الدرجة الثانية بمثل هذا الامتياز في تناولها للفواكه المخصّصة لها ، و بخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، أ نّه من الممكن أن تكون القصة قد اكتفت برسم شخصيات الدرجة الاُولى مالكةً للامتياز المذكور ، ممّا توحي للقارئ أو السامع بإمكانية ذلك أيضاً لأصحاب الدرجة الثانية ، مادام القصص القرآنية تعتمد التركيز و الاقتصاد في التعبير . بحيث تدع القارئ مستنتجاً ذلك دون الحاجة إلى التكرار .

لكننا مع ذلك نتوقّع أن يظلّ هذا الامتياز من نصيب شخوص الدرجة الاُولى ، و بخاصة أنّ القصة في صدد التفاضل بين درجتين من درجات الإيمان ، . . . فلا نتوقّع أ نّها تخصّ أصحاب الدرجة الاُولى بإمتياز ، ثمّ تحذفه من بيئة الدرجة الثانية اعتماداً على استنتاج القارئ بإمكانية تحقق امتياز مماثل لهم .

نعم ، لو انعكس الأمر ، . . . حينئذ فإنّ السمة الفنّية للقصص القرآنية ، تدلّنا على إمكانية مثل هذا الاستخلاص ، و الاعتماد على القارئ في هذا الصدد .

و هذا ما لحظناه فعلا فيما يتصل بالوصف الذي خلعته القصةُ على فُرُش الطبقة الاُولى حينما لم تـتعرّض للأوصاف الخارجية لهذه الفرش من حيث أشكالُها و ألوانُها ، بل تعرّضت للأوصاف الداخلية ، بقولها:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُش بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَق

في حين أنّ القصة شدّدت على الأوصاف الخارجية فيما يتّصل بأصحاب الدرجة الثانية ، فقالت عنهم:

﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَف خُضْر وَ عَبْقَرِيّ حِسان

ففي مثل هذه الحالة تركت القصةُ الوصفَ الخارجي من لون أخضر أو شكل جميل يسمُ تلك الفُرُش ، . . . معتمدة على القارئ استنتاج ذلك ، لسبب بسيط هو:
أنّ اللون الجميل للفرش مادام من نصيب الدرجة الثانية ، فإنّه ـ بطريق أولى ـ أن يكون من نصيب الطبقة الاُولى أيضاً.

و على أيّة حال ، فإنّ الامتياز الذي وهبته السماء لأصحاب الجنّتين العاليتين ، و نعني به أنّ ثمار الجنّة تظلّ على مقربة من الفم:

﴿وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان

هذا الامتياز يظلّ أمراً لا تردّد فيه ، مادام الأمر متصلا بعملية التفاضل بين درجات المؤمنين .

* * *

هنا يُثار سؤالٌ فنّيّ في غاية الأهمية ، و هو:

إنّ القصة القرآنية الكريمة تتميّز بالدّقة التامّة ، و بالانتقاء ، و بالتركيز في عمليات السرد ، أو العرض للأحداث و الأوصاف ، . . . و حينما تـتحدّث عن أحد العناصر في القصة ، فإنّها لا تقوم بعملية تكرار للعنصر المذكور ، . . . و منه العنصر المتصل بــ الفاكهة .

فقد تحدّثت القصة أوّلا عن عنصر الزرع أو الشجر و قارنت بين درجات المؤمنين في هذا الصدد . ثمّ تحدّثت عن عنصر الماء و قارنت بين درجاتهم أيضاً و بعد ذلك تحدّثت عن عنصر الفاكهة و قامت بعملية مقارنة بين درجات المؤمنين أيضاً . . . و المفروض أ نّه لو كان تمّ تفاضلٌ بين درجات المؤمنين فيما يتصل بعنصر الفاكهة ، و منه هذا الامتياز لأصحاب الجنّتين العاليتين و نعني به: ﴿وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دان من أفواههم ، . . . المفروض فنّياً أن يُرسَمَ هذا الامتياز عند الحديث عن عنصر الفاكهة التي قالت القصة عنها: ﴿فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَة زَوْجانِ . . . فلماذا لم يتمّ هناك عرضُ هذا الامتياز المتصل بجنى الجنّتين ، في حين جاء عرضُه في سياق الحديث عن الفُرش و هو عنصر مستقل له حقله الخاص في القصة ؟

إنّ أهمية الفنّ القصصي في القرآن الكريم ، تـتبدّى بوضوح عبر الإجابة على السؤال المتقدّم ، ممّا يضاعف من حجم الإمتاع الذي نتحسّسه حيال هذا الفنّ العظيم .

إنّ القصة في صدد التفاضل بين الشخصيات العُليا ، و الشخصيات الأدنى منها ، فيما يتصل بعملية الجلوس و الاتكاء و ما يصاحبهما من درجات الترف و أشكالها المتنوّعة .

فمادام الأمر أنّ الترف قد بلغ في حجمه إلى الدرجة التي تظلّ حتّى بطائن الفُرش من الاستبرق ، بحيث لا تحسّس أصحابها أدنى قدر من الخشونة العادية ، بل تظلّ النعومةُ و الرقةُ في أعلى مستوياتهما من نصيب هؤلاء المؤمنين ، ممّا يعني أنّ أدنى جهد ، أو حركة جسمية تتعارض مع طابع النعومة و الرقة ، أمرٌ لا تُكلِّف به السماء أولياءها في الجنّة حتّى تناول الثمر ، حيث يتمّ تناوله من خلال الجلسة المتكئة المترفة ، لا أ نّهم ينهضون بأنفسهم لاجتناء الثمر ، و لا أنّهم ينتظرون دور الخدم مثلا في حالات يتطلّب فيها الترف بُعدَهم عن الجلسة ، أو الاضطجاع أو التفرّد ، . . . بل إنّ الثمار تدنو من أفواههم وهم يتّكئون ، بل في بعض النصوص المفسّرة ـ حتّى و هم يضطجعون ، تدنو الثمارُ من أفواههم لا يكلّفون أنفسهم أدنى حركة . . . و هذا منتهى ما يمكن تصوّره من درجات الترف الذي لاترفَ بعدَه .

* * *

الحور هو العنصر الخامس و الأخير من العناصر الخمسة التي شكّلت مفردات البيئة الاُخروية فيما يتصل بالجنّتين العاليتين ، و بالجنّتين الأدنى منهما درجة .

و خارجاً عن التفاضل الذي طبع الجنّتين العاليتين ، متمثّلا في الوصف الذي خلعته القصة على العنصر المذكور و نعني به الصورة الآتية:

﴿كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ

خارجاً عن هذا الامتياز الذي خُصّص لأصحاب الجنّتين العاليتين ، فيما لم يرد في بيئة الجنّتين الأدنى درجة . . . أقول: خارجاً عن هذا الامتياز الذي يشكّل امتداداً لامتيازات متنوّعة لحظناها مفصّلا عند حديثنا عن عناصر البيئة الاُخروية . . . خارجاً عن هذا الامتياز ، يعنينا من عنصر الحور تشدّدُ القصة على الطابع الأخلاقي للعنصر المذكور ، و إمكان إفادتنا ـ نحن القرّاء ـ في تجاربنا الدنيوية من الطابع الذي شدّدت القصةُ عليه .

فقد وردت أوصاف ثلاثة لأخلاقية هذا العنصر ، واحدٌ منها جاء في سياق الحكاية عن الجنّتين العاليتين ، و هو:

﴿فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ

و إثنان منها قد وَرَدا في سياق الحكاية عن الجنّتين الأدنى ، و هما:

﴿فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ

و

﴿حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ

هذه السمات الثلاثة ، نعني بها قاصرات و خيرات و مقصورات . . . تظلّ واضحة كلّ الوضوح في طابعها الأخلاقي الذي ينبغي أن نشدّد عليه بدورنا في غمار الحديث عن السلوك الدنيوي و انسحابه على المكافأة الاُخروية التي أوحت القصة ـ بطريقة فنّية ـ من خلالها مدى الترابط من جانب بين السلوكين الدنيوي و الاُخروي ، و مدى الإفادة من جانب آخر من تجارب الحياة الدنيا التي وظّفت من أجل هدف واحد ، هو العبادة ، أو الخلافة في الأرض ، و انسحاب ذلك على حياة أبدية وظّفت بدورها من أجل العبادة .

لقد شدّدت قصة الجنّات الأربع على الطابع الأخلاقي للحور ، فرسمت مثلما أشرنا ثلاثة أوصاف هي:

قاصرات ، مقصورات ، خَيرات .

إنّ ما ينبغي لفت الانتباه إليه ، هو: أنّ الفارق بين بيئة الحياة الدنيا و البيئة الاُخروية ، هو انتفاء عنصر الصراع في التركيبة البشرية ، بمعنى أنّ عملية الإشباع الحيوي و النفسي لايسبقها صراع بين الخير و الشرّ ، بين الشهوة و العقل ، بل تتمّ وفق نزوع أحادّي الجانب ، يتّجه إلى تحقيق الإشباع للحاجات النفسية و الحيوية ، بشكله الخيِّر أوالعقلي الصرف .

فالعلاقات الاجتماعية مثلا يسودها في بيئة الجنّة تفاهمٌ تام ، غير مسبوق بعمليات التأجيل لشهوة الحقد ، أو الكبر ، أو السيطرة ، كما هو شأن الشخصيات الخيّرة في الحياة الدنيا التي تؤجّل شهوتها نحو الحقد أو الكبر أو السيطرة ، و تُحكّم بدلا منها نزعة الحبّ و التواضع و الزهد . . .

فعملية التأجيل التي تمارسها الشخصيات الخيّرة في الحياة الدنيا ، تنتفي في الحياة الاُخروية ، إذ لا وجود للنزعة الشرّيرة حتّى تمارس حيالها تأجيلا ، أو حتى تُحكّم بدلا منها نزعة الخير . . .

و الأمر نفسه فيما يتصل بالحاجات الحيوية ، من طعام ، و جنس و نحوهما .
حيث يتمّ إشباع هذه الحاجات دون أن يصاحبها نزوعٌ شرّير .

و إذا كان الأمر كذلك فلماذا نجد القصة القرآنية الكريمة تخلع على الحور سمة:
كونهنّ ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ و كونهنّ ﴿مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ و كونهنّ ﴿خَيْراتٌ ؟

طبيعيّاً أنّ خلع مثل هذه السمات يظلّ من جانب ، واقعاً له محدّداته التي تطبع سائر المعالم الخاصة في بيئة الآخرة .

لكنه من جانب آخر ينطوي على حقيقة فنّية أيضاً . . . ، هدفُها لفت الانتباه إلى سلوكنا الدنيوي ، فيما يتصل بهذا العنصر ، و الطريقة التي ينبغي أن يختطّها العنصر المذكور في تعامله مع العنصر الآخر: الرجل .

* * *

إنّ أوّل صفة خلعتها القصة عند حديثها عن العنصر الخامس من بيئة الجنّتين العاليتين ، هي: صفة ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ حيث بدأت بها قبل أن تبدأ برسم الأوصاف الاُخرى .

كما أنّ أوّل صفة بدأت بها القصةُ عند حديثها عن الجنّتين الأدنى درجة ، هي:
صفة ﴿خَيْراتٌ ، اتبعتها بصفة ﴿مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ، ثمّ تابعت بعد ذلك خلع السمات الاُخرى المتصلة بالجانب الحيوي من الشخصية .

و ممّا لا شك فيه من حيث البُعد الفنّي الخالص أنّ البدء برسم صفة من الصفات قبل غيرها ، يعني أنّ النص القصصي يستهدف التركيز و التشدّد على هذه السمة قبل غيرها ، نظراً للأهمية التي تنطوي الصفةُ المذكورةُ عليها .

و القصة حينما بدأت في الحديث عن الجنّتين العاليتين ، و في الحديث عن الجنّتين الأدنى درجة . . . حينما بدأت في كلا الموقعين بالحديث عن سمات مثل قاصرات ، خيرات مقصورات ، . . . فإنّ ذلك يعني لفت انتباهنا إلى ضرورة توفّر مثل هذه السمات في السلوك الدنيوي .

و يمكننا إدراك هذه الحقائق حينما نتابع مفردات الأوصاف المذكورة ، . . .
و منها سمة ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ التي بدأت القصةُ بها .

فهذه الصفة تعني أنّ العنصر المذكور يقصر عينيه على الزوج فحسب .

كما أنّ الصفة الثانية مقصورات ، تعني أنّهنّ مستورات في الخيام ، محبوسات فيها ، لا أ نّهنّ يتنقلن هنا و هناك بمرأىً من الرجال .

و هذه السمات هي ذاتها التي يُشدّد المشرّعُ الإسلاميُّ عليها في الحياة الدنيا ، حينما تطالب النصوصُ القرآنية الكريمة و النصوصُ الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ،
تطالب المرأةَ بأن لايراها أحدٌ و أن لا ترى أحداً ، و ألاّ تتحدّث مع الآخرين إلاّ لضرورة قصوى ، و أن ينحصر لقاؤها و نظرتُها و حديثُها و تعاملها ، ينحصر ذلك مع زوجها فحسب .

* * *

إنّ إدراك مثل هذه الحقائق يتبلور بوضوح حينما نتعرّف على طبيعة التركيبة الآدمية في الحياة الاُخرى ، و نعود بذاكرتنا إلى ما سبق أن قلناه من أنّ الحياة الاُخروية ينتفي فيها عنصر الشرّ و ما يستتبعه من الصراع .

فإذا كانت الحياة الاُخروية ، و هي خالية من النزعة الشرّيرة و من عمليات الصراع بين الخير و الشرّ ، قد شُدّدَ فيها على ستر المرأة ، و على أن تحبس نظراتها على زوجها فحسب ، و على أن تحصر تحرّكاتها داخل مساحة الخيمة الخاصة بها ، لا خارجها . . . إذا كان الأمر كذلك و هي في بيئة الجنّة الخالية من النزعة الشرّيرة و من عمليات الصراع ، فكيف ببيئة الحياة الدنيا و هي بيئة تـتجاذُبها النزعة الشرّيرة و ما يستتليها من عمليات الصراع ؟

للمرّة الجديدة: القصة تستهدف بطريقة فنّية غير مباشرة لفت الانتباه إلى أن تعدّل المرأةُ من سلوكها في الحياة الدنيا و تقصر تعاملها و نظرتها على زوجها ، و تحصر تحرّكاتها داخل النطاق المرسوم لها ، و لعلّ التوصية الكريمة التي قدّمتها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى المرأة ، من أن لا يراها أحدٌ و لا ترى أحداً ، تظلّ معياراً واضح المعالم فيما يتصل بعلاقتها مع الآخرين .

* * *

مع رسم القصة لعنصر الحوار ، ينتهي العرضُ المتصل بالجنّتين العاليتين اللتين خصّصتا لمن خافَ مقام ربّه ، و لم تصدر معصية منه ، . . . و الجنّتين الأدنى درجة منهما ، فيما خصّصتا لأصحاب الدرجة الثانية من الإيمان . . .

و قد تحدّد لنا خلال دراستنا لهذه القصة نمطُ الطرائق الفنّية المُمتعة التي سلكتها القصة في إيصال الحقائق المتصلة ببيئة الجنّات الأربع ، . . . مثلما وقفنا على طبيعة المبنى الهندسي أو الهيكل الفنّي العام للقصة في فرزها لحقائق الجنّتين العاليتين و افتراقهما عن الجنّتين الأدنى منهما درجة ، فيما لا حاجة إلى التذكير بحقائق السمات الفنّية التي لحظناها مفصّلا في حينه .

بيد أنّ الحاجة تدعونا إلى التذكير من جديد بالدلالات الفكرية للقصة ، مادامت الدلالةُ الفنّيةُ موظّفةً من أجل تعميق الدلالات الفكرية .

فكم حريٌّ بنا أن نفيد من هذه القصص المستقبلية التي ترسم لنا معالم الجنّات الأربع ، و الدرجات المتفاوتة فيها بأن نحدّد من خلالها سلوكنا الدنيوي مادام التلاحم بين البيئتين: الدنيوية و الاُخروية من الوثاقة إلى الدرجة التي يتوقّف مستقبلُ الشخصيّة فيها على ما نمارسه من النشاط العبادي الذي خُلِقنا من أجله و إلاّ تفلت الفرصة في استثمار حتى أقصر لحظة زمنية و توظيفها من أجل الحياة الأبدية في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

ونتّجه الآن إلى قصة اُخرى مجانسة لقصة الجنّات الأربع ، حيث تتناول هذه القصة بيئتين أيضاً من الجنّة بيئة السابقين و بيئة أصحاب اليمين بالإضافة إلى البيئة الخاصة برسم المنحرفين ، وهم أصحاب الشمال .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page