• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

علي والخلفاء

في خلافة أبي بكر كان جهاز الحكم الإداري خاضعاً لإدارة عمر بن الخطاب فهو المخطط لسياسية الدولة، والواضع لبرامجها الداخلية والخارجية قد وثق به أبو بكر، وأسند إليه جميع مهام حكومته، فلم يعقد أي عقد أو يقطع أي عهد إلا عن رأيه، ومشورته، كما لم يوظف أي عامل إلا بعد عرضه عليه.
أما تعيين الولاة على الأقطار والأقاليم الإسلامية، أو إسناد أي منصب حساس من مناصب الجيش فإنّه لا يمنح لأحد إلا بعد إحراز الثقة به والإخلاص منه للحكم القائم والتجاوب مع مخططاته السياسية، فمن كانت له أدنى ميول معاكسة لرغبات الدولة، فإنّه لا يرشح لأي عمل من أعمالها ويقول المؤرخون: إن أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام، لم يكن هناك أي موجب لعزله إلا لأن عمر نبهه على ميوله لعليّ وبيّن له مواقفه يوم السقيفة التي كانت مناهضة لأبي بكر.(1) ولم يعهد أبو بكر بأي عمل أو منصب لأحد من الهاشميين، وقد كشف عمر الغطاء عن سبب حرمانهم في حواره مع ابن عباس من أنه يخشى إذا مات وأحد الهاشميين والياً على قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحب(2).
كما حرم الأنصار من وظائف الدولة، وذلك لميولها الشديد إلى علي (عليه السلام) أما عماله وولاته فقد كان معظمهم من الأسرة الأموية وهم:
أبو سفيان:
استعمله عاملاً له على ما بين آخر حد للحجاز وآخر حد من نجران(3).
يزيد بن أبي سفيان:
استعمل يزيد بن أبي سفيان والياً على الشام(4) ويقول المؤرخون انه خرج مودعاً له إلى خارج يثرب.
عتاب بن أسيد:
عين أبو بكر عتاب بن أسيد بن أبي العاص والياً على مكة(5).
عثمان بن أبي العاص:
جعله والياً على الطائف(6) ومنذ ذلك اليوم علا نجم الأمويين، واستردوا كيانهم بعد أن فقدوه في ظل الإسلام.
وأبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من حرمان بني هاشم من التعيين في وظائف الدولة ومنحها للعنصر الأموي الذي ناهض النبي (صلّى الله عليه وآله) وناجزه في جميع المواقف، يقول العلائلي:
(فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويون وحدهم، لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وآثروا في سياستها، وهم بعيدون عن الحكم كما يحدثنا المقريزي في رسالته (النزاع والتخاصم)(7).
إن القابليات الدبلوماسية والإحاطة بشؤون الإدارة والحكم، والمعرفة بشؤون الدين كانت متوفرة عند الكثيرين من المهاجرين والأنصار من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) فكان الأجدر تعيين هؤلاء في مناصب الدولة، وإبعاد الأسرة الأموية عنها لوقاية المجتمع الإسلامي من مكائدها وشرورها.
أما السياسة المالية التي نهجها أبو بكر ـ والمفروض أن تكون ـ على النهج الإسلامي الذي يستهدف إذابة الفقر، ومكافحة الحرمان وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين، بحيث لا يبقى أي ظل للبؤس والحاجة، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه.
وكان أهم ما يعني به الإسلام إلزام الولاة بالاحتياط في أموال الدولة فلم يجز لهم بأي حال أن يصطفوا منها لأنفسهم شيئاً كما لم يجز لهم أن ينفقوا أيّ شيء منها لتوطيد حكمهم ودعم سلطانهم. الطابع العام لهذه السياسة المساواة بين المسلمين في العطاء فليس لرئيس الدولة أن يميز قوماً على آخرين فإن ذلك يخلق الطبقية، ويوجد الأزمات الحادة في الاقتصاد العام، ويعرض المجتمع إلى كثير من الويلات والخطوب، ويقول المؤرخون إن أبا بكر قد ساوى في العطاء بين المسلمين ولم يشذ عما سنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذا المجال إلا أن بعض البوادر التي ذكرت تجافي ذلك فقد وهب لأبي سفيان ما كان في يده من أموال الصدقة كسباً لعواطفه التي تشترى وتباع بالأموال.(8) كما قام بتوزيع شطر من الأموال على المهاجرين والأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بقسم من المال مع زيد ابن ثابت فأنكرت ذلك وقالت:
ـ ما هذا؟
قسم قسمه أبو بكر للنساء.
أترشونني عن ديني، والله لا أقبل منه شيئاً؟!
وردت المال عليه(9) هذه بعض المؤاخذات التي ذكرها بعض النقاد لسياسته المالية.
ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه وقد صمم على تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة إلا أن ذلك لاقى معارضة الكثيرين من الصحابة فقد انبرى إليه طلحة قائلاً:
(ماذا تقول لربك: وقد وليت علينا فظاً غليظاً؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب)(10).
وسكت أبو بكر فاندفع طلحة يوالي إنكاره عليه قائلاً:
(يا خليفة رسول الله، إنا كنا لا نحتمل شراسته، وأنت حي تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه، وأنت ميت وهو الخليفة..)(11).
وبادر اكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر فقد قالوا له: (تراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا، وأنت لاق الله عزّ وجل فسائلك فما أنت قائل؟
فأجابهم أبو بكر: (لئن سألني الله لأقولن استخلفت عليهم خيرهم في نفسي..)(12) وكان الأجدر به فيما يقول المحققون أن يستجيب لعواطف الأكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحداً إلا بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه أو يستشير أهل الحل والعقد عملاً بقاعدة الشورى إلا انه استجاب لعواطفه الخاصة المترعة بالحب لعمر، وقد طلب من معقيب الدوسي أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له:
(ما يقول الناس في استخلافي عمر؟)
(كرهه قوم ورضيه آخرون.)
(الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟)
(بل الذين كرهوه)(13).
ومع علمه بأن أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم.
وعلى أي حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه خوفاً من التأثير عليه، وكان يعزز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلاً:
(أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله))(14)، وطلب الله أبو بكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر، وكتب عثمان ما أملاه عليه، وهذا نصه:
(هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها. وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغيّر فالخير أردت ولا أعلم الغيب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ..)(15). ووقع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر، وانطلق به يهرول إلى المسجد ليقرأه فانبرى إليه رجل وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلاً:
(ما في الكتاب يا أبا حفص؟)
فنفى عمر عليه بما فيه إلا أنه أكد التزامه بما جاء فيه قائلاً: (لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع..).
فرمقه الرجل، وقد علم واقعه قائلاً:
ولكني والله أدري ما فيه، أمرته عام أول، وأمرك العام..)(16) وانبرى عمر إلى الجامع فقرأه على الناس، وبذلك تم له الأمر بسهولة من دون منازع إلا أن ذلك قد ترك أعمق الأسى في نفس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون يقول (عليه السلام) في خطبته الشقشقية:
(فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا، حتى ما مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان (يعني عمر) بعده، ثم تمثل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها          ويوم حيان أخي جـــــابر

فيا عجباً!! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطر أضرعيها..)(17).
وكشفت هذه الكلمات عن مدى أحزانه وآلامه على ضياع حقه الذي تناهبته الرجال، فقد وضعوه في تيم مرة وفي عدي تارة أخرى، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الإسلام، وماله من المكانة القريبة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وعلى أي حال فقد تناهبت الأمراض جسم أبي بكر، ودفعته إلى النهاية المحتومة التي ينتهي إليها كل إنسان، وقد راح يبدي ندمه وأساه على ما فرط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلاً:
(وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، ولو انهم أغلقوه على الحرب) كما إنه ودّ لو سأل رسول الله عن ميراث العمة وبنت الأخ، وثقل حاله فدخلت عليه ابنته عائشة تعوده فلما رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثل بقول الشاعر:

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى          إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فغضب أبو بكر وقال لها: ولكن قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)(18).
ولم يلبث قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم، وانبرى صاحب عمر إلى القيام بشؤون جنازته، فغسله، وصلى عليه وواراه في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) وألصق لحده بلحده، ويذهب النقاد الشيعة إلى أن هذا البيت كان من تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) فإنه لم يؤثر عنه أنه وهبه لعائشة فلابد أن يكون خاضعاً لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلى هذا الرأي فلا يحل دفنه فيه إلا بعد الإذن منها، ولا موضوعية لإذن عائشة لأنها إنما ترث من البناء لا من الأرض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة وإن كان البيت خاضعاً لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أن الأنبياء لا يورثون أي شيء من متاع الحياة الدنيا وإنما يورثون الكتاب والحكمة، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين، فلابد إذن من إرضاء جماعة المسلمين في دفنه، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة.
وعلى أي حال فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة، وكان من أخطرها فيما يقول المحققون معاملة العترة الطاهرة كأشخاص عاديين قد جرد عنها إطار التقديس والتعظيم الذي أضفاه النبي (صلّى الله عليه وآله) عليها، وقد مُنيت بكثير من الضيم والجهد، فقد كانت ترى أنها أحق بمقام النبي (صلّى الله عليه وآله) وأولى بمكانته من غيرها، وقد أدى نزاعها مع أبي بكر إلى شيوع الاختلاف وإذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين، كما أدى إلى إمعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم، ولعل أقسى ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلاء التي لم ترع فيها أي حق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في عترته وأبنائه.
ومهد أبو بكر الخلافة من عبده إلى عمر فتولاها بسهولة ويسر من غير أن يلاقي أي جهد أو عناء وقد قبض على الحكم بيد من حديد، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين حتى تحاشى لقاءه أكابر الصحابة فإن درته ـ كما يقولون ـ كانت أهيب من سيف الحجاج حتى أن ابن عباس مع ماله من المكانة المرموقة والصلات الوثيقة به لم يستطع أن يجاهر برأيه في حلية المتعة إلا بعد وفاته وقد خافه وهابه حتى عياله، وأبنائه، فلم يستطع أي واحد منهم أن يفرض إرادته عليه، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض مناهج سياسته: فقد اتفقت مصادر التاريخ الإسلامي على أن عمر عدل في سياسته عن منهج أبي بكر فلم يساو بين المسلمين في العطاء وإنما ميز بعضهم على بعض وكان قد أشار على أبي بكر في أيام خلافته العدول عن سياسته فلم يقبل وقال: (إن الله لم يفضل أحداً على أحد ولكنه قال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ولم يخص قوماً دون آخرين)(19)، ولما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان قد أشار به على أبي بكر، وقال: (إن أبا بكر رأى في هذا الحال رأياً ولي فيه رأي آخر لا أجعل من قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كمن قاتل معه) وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً خمسة آلاف، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدراً أربعة آلاف وفرض لأزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، إلا صفية وجويرية فقد فرض لهما ستة آلاف فأبتا أن يقيدا بذلك وفرض للعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك وقال: (يا أبت لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، وكان له ما لم يكن لي..).
فقال له عمر: (إن أبا أسامة كان أحب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبيك.
وكان أسامة أحب إلى رسول الله منك..)(20).
وقد فضل عمر العرب على العجم، والصريح على المولى(21) وقد أدت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين، كما استدعت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم وأصولهم فنشط النسابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب أصولها(22) ممّا أدى إلى حنق الموالي على العرب، وكراهيتهم لهم، والتفتيش عن مثالهم، ظهور النعرات الشعوبية والقومية في حين أن الإسلام قد أمات هذه الظاهرة وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، والزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم حتى لا تحدث ثغرة في صفوف المجتمع.
وقد اثارت هذه السياسة موجة الإنكار عند الكثيرين من المحققين، وفيما يلي بعضهم:
يقول الدكتور عبد الله سلام: (لست أدري كيف اتخذ عمر هذا الإجراء؟ ولماذا اتخذه؟ إنه إجراء أوجد تفاوتاً اجتماعياً واقتصادياً، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين)(23).
وممن أنكر هذه السياسة الدكتور محمد مصطفى هدارة يقول: (وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثر تأثيراً خطيراً في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية إذ خلق شيئاً فشيئاً طبقة أرستقراطية غنية يأتيها رزقها رغداً دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال. ذلك أن فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين القرابة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والسابقة في الإسلام ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك المقابل الذي لا بد أن تأخذه الدولة في صورة عمل وجهاد)(24).
وأنكر ذلك الشيخ العلائلي بقوله: (هذا التنظيم المالي أوجد تمايزاً كبيراً، وأقام المجتمع العربي على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سوءا في نظر القانون (الشرعية) فقد أوجد أرستقراطية وشعباً وعامة)(25).
هؤلاء بعض الناقدين للسياسة المالية التي أنتهجها عمر، وهي حسب مقررات الاقتصاد الإسلامي لا تحمل أي طابع من التوازن الاقتصادي فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة وتضخمت الأموال الهائلة عندهم ممّا أوجب تغيير الحياة الإسلامية، وسيطرة الرأسماليين على سياسة الدولة. وتسخير أجهزتها لمصالحهم، وقيامهم بدور المعارضة لكل حركة إصلاحية أو سياسية عادلة في البلاد، وقد اشتدت تلك الزمرة في معارضة حكومة عليّ (عليه السلام) وزجت بجميع ما تملك من الوسائل الاقتصادية وغيرها لإسقاط حكمه لأن سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات ومصادرة ثرواتهم التي ابتزوها بغير حق.
وجهد عمر على فرض سلطانه بالقوة والعنف، فخافه القريب والبعيد وبلغ من عظيم خوفهم أن امرأة جاءت تسأله عن أمر، وكانت حاملاً، ولشدة خوفها منه أجهضت حملها(26) وكان شديداً بالغ الشدة، خصوصاً مع من كان يعتد بنفسه،يقول الرواة، إنه كان يقسم مالاً بين المسلمين ذات يوم، وقد ازدحم الناس عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص، وبلاؤه معروف في فتح فارس، فزاحم الناس حتى خلص إلى عمر، فلما رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرة، وقال: (لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك)، وقصته مع جبلة تدل على مدى صرامته وشدته، فقد أسلم جبلة وأسلم من كان معه، وفرح المسلمون بذلك، وحضر جبلة الموسم، وبينما يطوف حول البيت إذ وطأ إزاره رجل من فزاره فحله فأنف جبلة وسارع إلى الفزاري فلطمه، فبلغ ذلك عمر فاستدعى الفزاري وأمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك غاية التضييق، فارتد جبلة وخرج عن الإسلام وولى إلى هرقل فاحتفى به وأضفى عليه النعم، إلا أن جبلة كان يبكي أمر البكاء على ما فاته من شرف الإسلام وقد أعرب عن حزنه واساه بقوله:

تنصــرت الأشــراف من أجل لطمة          وما كـان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منـــــها لجـــــاج ونخــــوة          وبعــث لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمـــي لـــم تلـــدني وليتني          رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخـــــاض بقفره          وكنـــــت أسيراً في ربيعة أو مضر

وقد أراد عمر أن يقوده بأول بادرة تبدو منه ببرة(27) محاولاً بذلك إذلاله ويحدثنا ابن أبي الحديد عن شدة عمر مع أهله فيقول: كان إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعض على يده عضاً شديداً فيدميها)(28).
وعرض عثمان إلى شدة عمر حينما نقم عليه المسلمون، واشتدوا في معارضته فأخذ يذكرهم بغلظته وقسوته لعلهم ينتهون عنه قائلاً: (لقد وطئكم ابن الخطاب برجله، وضربكم بيده،وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم به...)(29).
ووصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد حفنة من السنين سياسة عمر ومدى محنة الناس فيها بقوله:
(فصيرها ـ يعني أبا بكر في توليته لعمر ـ في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض..)(30).
وتتجافى هذه السياسة عن سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسياسته، فقد سار بين الناس بالرفق واللين، وساسهم بالرأفة والرحمة، وكان لهم كالأب الرؤوف، وكان يشجب جميع مظاهر الرعب التي تبدو ومن بعض الناس تجاهه فقد جاءه رجل، وقد أخذته الرهبة منه، فنهره (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وقد سار (صلّى الله عليه وآله) بين أصحابه سيرة الصديق مع صديقه والأخ مع أخيه من دون أن يشعرهم بأن له أية مزية أو تفوق عليهم، وقد مدح الله تعالى معالي أخلاقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
ويقول المؤرخون: إن عمر فرض الحصار على صحابة الرسول، ولم يسمح لهم بمغادرة يثرب، فكانوا لا يخرجون إلا بإذن خاص منه، وقد خالف بهذا الإجراء ما آثر عن الإسلام في منحه الحريات العامة للناس جميعاً، فقد منحهم حرية الرأي والقول، وحرية العقيدة، وحرية العمل وجعلها من الحقوق الذاتية للإنسان، وألزم الدولة بحمايتها، ورعايتها وتوفيرها وليس للسلطة أن تقف موقفاً معاكساً أو مجافياً لها، شريطة أن لا يستغلها الإنسان في الإضرار بالغير أو يحدث فساداً في الأرض.
وسلك عمر ما سلكه أبو بكر في إبعاد الأسرة الهاشمية عن جهاز الحكم، فلم يجعل لها أي نصيب فيه، وإنما عهد إلى من ولاهم أبو بكر، فأقرهم في مناصبهم، ومن الغريب أنه لم يعين أي واحد من الصحابة النابهين أمثال طلحة والزبير، وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص، وفلاناً وفلاناً من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة؟!! فقال: أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء النفر من قريش، فإني أخاف أن ينشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد، وعلق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله:
(فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساويين في الشورى، مرشحين للخلافة! وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا..)(31).
______________________________
1 - شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج1، ص135.
2 - مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير ج5، ص135.
3 - فتوح البلدان للبلاذري، ص103.
4 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
5 - الإصابة، ج2، ص444.
6 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
7 - الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص119.
8 - تاريخ الطبري، ج2، ص202.
9 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص133.
10 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص55.
11 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج6، ص343، دار إحياء الكتب العربية.
12 - الإمامة والسياسة، ج1، ص19.
13 - الآداب الشرعية والمنح المرعية، ج1، ص49.
14 - تاريخ الطبري، ج4، ص52.
15 - الإمامة والسياسة، ج1، ص19، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري.
16 - الإمامة والسياسة، ج1، ص20.
17 - مروج الذهب، ج2، ص195.
18 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص290.
19 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج8، ص111.
20 - الخراج، ص242.
21 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 8، ص111.
22 - العصبية القبلية، ص190.
23 - الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية، ص251.
24 - اتجاهات الشعر العربي، ص108.
25 - الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص232.
26 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص74.
27 - البرة: حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود فيربق بها جبل يقاد به.
28 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 6، ص342.
29 - حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، باقر القرشي، ج1، ص175.
30 - النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص162.
31 - نهج البلاغة، ج9، ص29، 30.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page