• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مشكلات الإمام علي (عليه السلام)

أذكر فيما يلي بعضاً من هذه المشاكل، بصورة سريعة، ومجملة، لكي أصل إلى مشكلة المشاكل، وكبرى المعضلات التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي مشكلة الخوارج(1) فأفصّل الكلام فيها بعض الشيء.
1ـ مشكلة مقتل عثمان (مشكلة النفاق):
إن أولى المشاكل التي وقعت، والتي قال علي (عليه السلام) بشأنها أن هناك مستقبلاً مظلماً ينتظر المسلمين وهي ذيول حادثة مقتل عثمان، حيث استلم علي (عليه السلام) الخلافة، في وضع غير عادي، فقد قتل الثوار الغاضبون، الخليفة السابق، ولم يسمحوا حتى بدفنه(2)، ثم انضم الثوار إلى صف علي (عليه السلام)، فماذا كان رأي بقية المسلمين؟
بالطبع لم يكن عامة الناس يفكرون كما يفكر الثوار...
كما أن عليا (عليه السلام) نفسه، لم يكن تفكيره ينسجم، لا مع الثوار ولا مع مخالفيهم ولا مع عامة الناس...
فكانت النتيجة أن نفذ الثوار تهديدهم، دون أن يكون لعلي يد في ذلك(3). إن عليا (عليه السلام)، كان يعلم أن مقتل عثمان سوف يصبح مسألة توجب إثارة الفتنة(4)، خصوصاً عند الالتفات إلى نكتة مهمة كشف عنها مؤخراً علماء الاجتماع، والمؤرخون المحققون الذين طالعوا تاريخ الإسلام بدقة وتمعن، ونلاحظ أن نهج البلاغة ـ أيضاً ـ قد أشار إلى هذه المسألة، وهي أن بعض المؤيدين لعثمان كان لهم ـ أيضاً ـ يد في قتله(5)، فكانوا يريدون أن يقتل عثمان لكي تقوم فتنة في عالم الإسلام، فيصطادون صيدهم في المياه العكرة.
وكان لمعاوية على الخصوص يد قوية في مقتل عثمان، فعمل في الخفاء على أن تستعر نار هذه الفتنة، ليستفيد هو بالتالي، من قتل الخليفة في تحقيق أطماعه ومآربه.
وهنا أريد أن أركز على نقطة هامة في هذه المشكلة التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي أنه نجد تفاوتاً واضحاً بين مخالفيه، ومخالفي النبي (صلّى الله عليه وآله) في زمانه: فالنبي (صلّى الله عليه وآله) كان يواجه مجموعة من الكفار وعبدة الأوثان، وكانوا يحاربونه تحت شعار الوثنية، فكانوا ينكرون الله والتوحيد علناً، وكان أبو سفيان يصرّ على شعار (اعلُ هبل!)(6) فسهل على الرسول (صلّى الله عليه وآله) مواجهتهم ومقاومتهم بهذا الشعار الواضح (الله أعلى وأجل).
أما علي (عليه السلام) فكان يواجه طبقة من العلماء المنافقين(7)، يتظاهرون بالإسلام ولكنهم لم يكونوا في الحقيقة مسلمين، فكانت شعاراتهم شعارات إسلامية: وأهدافهم ضد الإسلام.
وكان معاوية بن أبي سفيان مثل أبيه، يملك الروح السفيانية نفسها، والأهداف الشيطانية ذاتها، ولكن تحت شعار الآية القرآنية: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)(8).
صحيح أن هذا الشعار، شعار جميل، ولكن ألاّ يوجد من يسأل معاوية: من هو ولي الدم الشرعي بالنسبة لعثمان؟ إن نسب معاوية لا يتصل بنسب عثمان، إلا بأربعة أظهر صاعدة، أي أنهما يشتركان في الجد الرابع في حين أن عثمان له أولاد وأرحام أقرب إليه من معاوية، فكيف يتخطاهم معاوية جميعاً، وينصب نفسه ولياً للدم؟ ثم ما هي علاقة علي (عليه السلام) بمقتل عثمان؟ ليس لعلي (عليه السلام) أي يد في قتله ولكن شخصاً مخادعاً، مخاتلاً، مثل معاوية، لا يهمه كل ذلك، إنه يريد فقط أن يستغل الحادثة لصالحه، بأي صورة كانت.
وكان معاوية قد أوعز في وقت سابق إلى عيونه وجواسيسه، الذين بثهم حول عثمان، بأن يرسلوا إليه فوراً ثوب الخليفة الملطخ بالدم عندما يسقط صريعاً.
وفعلاً ما إن قتل عثمان، حتى قاموا بتنفيذ الأمر، قبل أن يجف دم القتيل وبعثوا بالثوب الملطخ مع أصابع امرأة عثمان إلى معاوية على جناح السرعة. وما أن استلم معاوية ثوب الخليفة، والأصابع المقطوعة، حتى بدأ يلعب لعبته، فأمر أن تعلق أصابع امرأة عثمان إلى جانب منبره، وشرع في الصباح: (يا أهل الشام، قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، ألّب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه...)(9) وجلس هناك يصرخ ويبكي على الخليفة المظلوم! وظل مدة في الشام على هذا الحال، يقرأ التعازي على روح عثمان، ويستدر دموع الناس عليه، كما يعبئهم للمطالبة بدمه.
فيا ترى، ممن يزعمون أن يطلبوا بدم عثمان؟!
إن مؤامرة معاوية تقضي بأن يطلبوا دم عثمان من علي (عليه السلام)، لأنه بزعمهم شريك للقتلة في دم الخليفة، والدليل على ذلك، أن الثوار الذين هجموا على بيت عثمان، وقتلوه، يقفون الآن في صف علي، ويؤلفون قسماً من جيشه وعساكره!!
هذه هي المشكلة المفتعلة التي اتخذت من قبل أشخاص مغرضين ذريعة لإشعال نار حربين عظيمتين: (الجمل) و(صفين).
2ـ التشدد في إجراء العدالة:
وهناك مشكلة أخرى واجهها علي (عليه السلام)، تتعلق من جهة بأسلوبه في الحكم، ومن جهة أخرى بالتغيير الذي تعرض له المجتمع الإسلامي إبان خلافة (الثلاثة): وهي أنه (عليه السلام)، كان رجلاً صلباً، لا يلين في تطبيق أحكام الإسلام.
فبعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولسنوات عديدة، تعود المسلمون شيئاً فشيئاً على مسألة إعطاء الامتيازات للأفراد المقربين من الخليفة، والسلطة الحاكمة، ولكن عليّاً (عليه السلام)، أبدى تصلباً شديداً إزاء هذه المسائل، وكان يقول: (... فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق)(10)، حتى إن أصحابه جاءوا إليه يوماً وقد عاتبوه على التسوية في العطاء، فقال لهم: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير)(11). أي تطلبون مني أن أسعى لتحقيق أهدافي بالظلم، وغمط حقوق الناس؟ كلا لن يكون مني هذا أبداً، وإن طال الزمان.
3ـ الصراحة والصدق في السياسة:
والمشكلة الثالثة التي واجهها علي (عليه السلام)، في عهد خلافته، هي مسألة صدقه وصراحته في مجال الحكم والسياسة، ولم يستحسن ذلك أيضاً بعض أصحابه، وقالوا في ذلك: إنّ هذا غير معقول، لأن السياسة لا تتطلب هذا القدر من الصراحة والعفوية، ولا بد أن يشوبها شيء من المراوغة، والدّهاء لأن ذلك بمثابة ملح السياسة حتى أن بعضهم قالوا: إنّ عليّاً ليس عنده سياسة أصلاً، على العكس من معاوية الذي هو في نظرهم سياسي داهية، فكان علي (عليه السلام) يقول: (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية القدر، لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)(12).
فالتقوى هي التي حالت بينه (عليه السلام)، وبين أن يخوض مع الخائضين في المؤامرات والألاعيب السياسية الماكرة، ودفعته إلى الالتزام بالصدق، والاستقامة في كل مجالات الحياة، حتى في السياسة والحكم.
وقد يفهم من العبارة الأخيرة: (ولكل غادر لواء) أن الإمام يقصد تحذير الناس من الانخداع والسير، وراء الحاكم الغادر الفاجر، وإلا حشدوا تحت لوائه يوم القيامة، ويا له من مصير سيئ!
4ـ الخوارج(13): مشكلة علي (عليه السلام) الرئيسية:
الخوارج الذين انفصلوا عن خط الإمام علي (عليه السلام) وخرجوا عليه في صفين، وأصبحوا فرقة تدعى بالخوارج(14).
ثم إنهم عملوا ما في وسعهم لإيذاء الإمام والإساءة إليه، ولكن الأمير (عليه السلام) استعمل أقصى حد ممكن من المواراة معهم. ما دام أنهم لم يشهروا السيف، حتى أنه لم يقطع حقوقهم في بيت المال، ولم يقيد حرياتهم. وكانوا يأتون إليه أمام الناس، ويتجاوزون بحضرته إلى حدّ توجيه الإهانات الوقحة، ولكنه (عليه السلام) كان يعتصم بالحلم، ولا يرد عليهم.
فمثلاً بينما كان الإمام (عليه السلام) يوماً على المنبر يخطب، كان أحد هؤلاء يثير الصخب والضجيج ويصدر أصواتاً غير مهذبة.
وفي يوم آخر سأله أحد الناس مسألة، فأجابه بجواب بليغ أثار تعجب الحاضرين واستحسانهم، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، ولكن خارجياً كان بينهم فقال: (قاتله الله ما أفقهه!) فأراد أصحاب علي (عليه السلام) أن ينقضوا عليه، فقال لهم الإمام: رويدكم، ماذا تريدون منه؟ إنه سبني ولكم فقط أن تردوا عليه سبابه لا أكثر. اتركوه وشأنه.
وفي يوم ثالث، كان علي (عليه السلام) منشغلاً بالصلاة، والناس يصلون خلفه (طبعاً لم يكن الخوارج يقتدون به، لأنهم سبق أن أفتوا بكفره)، وبينما كان يقرأ الحمد والسورة جاء أحدهم، ويدعى (ابن الكوا) وأخذ يقرأ هذه الآية بصوت عال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(15).
فكان يريد أن يقول: يا عليّ، نحن نقر بأنك أول من دخل في الإسلام، ونعترف بأن لك سوابق عظيمة، وخدمات جليلة للدين، وأنك من المجتهدين في العبادة... ولكن لأنك كفرت، وجعلت لله شريكاً (إشارة إلى مسألة التحكيم) لقد حبط عملك، وليس لك أجر عند الله!!
فماذا كان من علي (عليه السلام)؟ إنه ما إن بدأ الخارجي بتلاوة هذه الآية حتى توقف الإمام (عليه السلام) عن القراءة، عملاً بالآية الكريمة: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(16). ولما انتهى من التلاوة، عاد الإمام إلى قراءته، وهكذا ظل الخارجي يكرر الآية، وفي كل مرة، كان الإمام (عليه السلام) يسكت وينصت، ثم كان يعود ويواصل.
وفـــي المرة الرابعـــة: واصل الإمام صلاته، ولم يلتـــفت، وقــــرأ هذه الآية، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ)(17).
هل اقتنع الخوارج بهذا القدر من الإيذاء؟ كلا، ولو كانوا فعلوا لما كانوا مشكلة كبيرة بالنسبة إلى علي (عليه السلام). ولكننا نراهم أخذوا يتجمعون شيئاً فشيئاً، حول بعضهم، وشكلوا حزباً، بل فرقة إسلامية منشقة (عندما أقول إسلامية، لا أعني أنهم في الواقع جزء من المسلمين، فهم في نظرنا كفار خرجوا عن الدين)(18)، وابتدعوا مذهباً جديداً في الإسلام، واصطنعوا لمذهبهم أصولاً وفروعاً.
وأخذ أمر الخوارج يستفحل أكثر فأكثر، إلى أن وجد الإمام (عليه السلام) نفسه مضطراً إلى أن يضرب معسكراً في مقابلهم، وكان عددهم قد بلغ حوالي اثني عشر ألفاً، وأصبحوا يشكلون خطراً جدياً، بحيث لا تجوز المهادنة معهم، وإرخاء الحبل لهم، أكثر من ذلك.
وأرسل إليهم ابن عباس مندوباً عنه، يناقشهم ويفاوضهم، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئاً معهم، وعاد خالي الوفاض(19).
فذهب إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه، وكان حديثه معهم مؤثراً، بحيث أن كثيراً منهم ندموا على عملهم، وطلبوا قبول توبتهم، فأمر علي (عليه السلام) بنصب راية أمام معسكره، وأعلن أن كل من يأوي من الخوارج إلى هذه الراية، فهو في أمان. وكان الذين رجعوا، وتجمعوا تحت راية الأمان، ثمانية آلاف رجلاً منهم، أما الأربعة آلاف الباقون، فأصروا على موقفهم، وأعلنوا استحالة رجوعهم عن عقيدتهم.
وعند ذاك شنّ عليهم الإمام بجيشه هجوماً عنيفاً، وأعمل فيهم السيف، برغم كونهم من العابدين والزاهدين، والمصلين الخاشعين، الذين كثرت الثفنات والقروح في أيديهم، وجباههم، من كثرة السجود وظل يضرب منهم الرقاب إلى أن أتى عليهم جميعاً، ولم ينجُ منهم إلا أقل من عشرة أشخاص، بينهم عبد الرحمن بن ملجم.
وهنا لابدّ من وقفة نتأمل فيها هذا الموقف الخطير الذي اتخذه الإمام تجاه هذه الفرقة الضالة، وهل أن اتخاذ مثل هذا الموقف، أمر ميسور لشخص آخر غير الإمام علي (عليه السلام)؟
إن عامة المسلمين آنذاك، وخصوصاً الذين كانوا يقاتلون تحت لواء علي (عليه السلام) كانوا ينظرون إلى أفراد هذه الفرقة على أنهم من المسلمين وإن اختلافهم مع القيادة لا يخرجهم من حظيرة الإسلام، سيما وأنهم أهل عبادة، وزهادة وآثار القداسة بادية على محاياهم، وهم يحرمون على أنفسهم حتى الصغائر ويتعصبون للدين بشكل يصعب على أي أحد ليس عنده بصيرة حادة، وبصر نافذ، أن يحكم عليهم بالكفر، ويجوز قتلهم.
وفي الواقع لا يمكن أن يتجرّأ أحد على قتل أفراد مسلمين متدينين، لا يفارق ذكر الله، وقراءة القرآن، شفاههم، إلا نوعان من الناس:
النوع الأول: أناس لا يعتقدون بالله واليوم الآخر، ولا بالإسلام، مثل جماعة يزيد، الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
النوع الثاني: أناس يملكون من العلم والبصيرة، ما يتمكنون به من اختراق ستار القداسة والجلالة، ليصلوا إلى الجوهر الخبيث الكافر.
هذا النوع ينحصر في فرد واحد، وهو شخص الإمام علي (عليه السلام).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في نهج البلاغة: (أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليه أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها...)(20).
يقول (عليه السلام) بافتخار: أنا الذي وجهت ضربة قاصمة للخوارج، ولم يكن أحد غيري يملك الجرأة على تصفية أولئك المنشقين، وإخماد فتنتهم، وقد تمّ هذا الأمر كما يقول الإمام (عليه السلام): (بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها..).
والشق الأول من هذه العبارة: يشير فيه إلى ظلمات الشبهات والشكوك التي ترسل أمواجها بين المسلمين لتغمرهم، وتجعل هذا الأمر ملتبساً عليهم، بحيث لا يتمكنون أن يخرجوا من دائرة الحيرة والتردد في أمر هؤلاء.
والشق الثاني: يشير فيه إلى إشعار هذه الفتنة، وقابليتها الكبيرة للانتشار بين المسلمين، باحتكاكهم مع هؤلاء، تماماً مثل انتشار مرض الكلب بين الذين يحتكون مع الكلاب المسعورة.
فكما أن كل من يرى كلباً مسعوراً، يعطي لنفسه الحق بأن يقتله، حتى لا يعض الآخرين ويسعرهم، فإن الإمام (عليه السلام) يقول:
لقد رأيت هؤلاء الكلاب المسعورة، فأدركت خطرهم على الإسلام، والمسلمين حالياً، وعلى مرّ العصور والأجيال، ورأيت أن لا مفر من إعدامهم وإلا فإنهم سرعان ما ينقلون مرضهم إلى غيرهم، ومن ثم يغرقون المجتمع الإسلامي في بحار الحماقة والجهل، والجمود، والتحجر الفكري.
5ـ مشكلة الفساد المالي والإداري والحقوقي
تسلّم الإمام (عليه السلام) الحكم في مجتمع ورث الفساد وكانت تنتظره مشاكل معقدة كثيرة على مختلف الأصعدة، فعمل الإمام (عليه السلام) بسياسته الثورية الجديدة التي قرر أن يتبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها.
وقد تناولت سياسته الثورية ثلاثة ميادين هي:
1ـ الميدان الحقوقي.
2ـ الميدان المالي.
3ـ الميدان الإداري.
وقد أثيرت ـ مع الأسف ـ حول سياسة الإمام (عليه السلام) وإصلاحاته الكثير من الشكوك والأحكام المرتجلة(21).. ففي:
الميدان الحقوقي:
تناولت إصلاحاته في المجال الحقوقي إلغاء مبدأ التفاضل في العطاء، وإعلان مبدأ المساواة الذي يساوي فيه كل المسلمين ويعتبرهم سواء في الحقوق والواجبات.
فجاء قوله (عليه السلام): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه)(22).
الميدان المالي:
وركز من خلاله على نقطتين مهمّتين:
أولاً: الثروات غير المشروعة التي تكونت أيام عثمان.
ثانياً: أسلوب توزيع العطاء التفضيلي.
حتى أن الإمام (عليه السلام) صادر جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الأرستقراطيين، وعالنهم بسياسته في توزيع المال بقوله: (أيها الناس إني رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمره، إلا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك الإماء وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق)(23).
ولعل قادة الطبقة الثرية فكرت في مساومة الإمام علي (عليه السلام) على بذل طاعتهم له على أن يغض عما سلف منهم، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معطي، وقال له: (يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً ونحن أخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المــــال أيام عثمان وأن تقــــتل قتلته وإنا إن خفــــناك تركناك فالتحقنا بالشــــام)(24).
أما الإمام علي (عليه السلام) فأكد لهم في خطبة له بكل وضوح على عزمه في مواصلة تطبيق المنهج الذي بدأ به فقال: (فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثره، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلما، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء(25).
وأما في الميدان الإداري:
فقد باشر الإمام (عليه السلام) سياسته الإدارية بعملين:
1ـ بعزل ولاة عثمان على الأمصار قائلاً: ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ)(26).
فقد قرب عثمان ممن طردهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو أقصاهم، لقد رد عمه الحكم ابن أمية إلى المدينة بعد أن طرده الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصبح يسمى طريد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وآوى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) قد أهدر دمه وولاه عثمان مصر كما ولى عبد الله بن عامر البصرة فأحدث فيها من الأحداث ما جعل المؤمنين ينقمون عليه وعلى عثمان(27).
2ـ إسناد ولايتها إلى رجال من أهل الدين والفقه والحزم، وذلك لأنه (عليه السلام) وجد أن أكبر عناصر الشكوى، وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة فبادر (عليه السلام) إلى تغيير التعيينات القديمة فأصدر أمره بتولية عثمان بن حنيف على البصرة وسهل بن حنيف على الشام وقيس بن سعد بن عبادة على مصر وأبي موسى الأشعري على الكوفة وهي الأمصار الكبرى آنذاك.
وقد كلمه الكثيرون ومنهم المغيرة بن شعبة بشأن ولاة عثمان فأشار عليه بأن يثبت هؤلاء الولاة على أعمالهم، ولكنه أبى عليه ذلك وعزلهم، وهكذا فعل مع طلحة والزبير بشأن ولاية الكوفة والبصرة وردهما رداً رفيقاً ممّا حملهما للضغط على الإمام علي (عليه السلام) والتشكيك بقيادته ونكث بيعتهما له والمجاهرة بمطالبته بدم عثمان، متناسيين أنهما كانا من بين المحضرين على الثورة على عثمان، بل وطالبوا بإعادة طرح أمر الخلافة شورى بين المسلمين وزعما أنهما بايعا عليّاً عن إكراه وأن بيعتهما لهذا لا تجوز(28).
وبينما الإمام علي (عليه السلام) يحث الخطى لصياغة نظم الدولة الإسلامية من الجذر، وأيضا تطبيق القوانين واللوائح الدستورية في كافة مرافق الدولة، أعلنت في غضون ذلك الطبقة البرجوازية، ـ كما كان متوقعاً ـ عن تمردها وعدم ارتياحها للتحولات الحاصلة في مجمل جوانب المجتمع منذ تسلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مقاليد الحكم، وخاصة ذلك التحول الذي خلط فيه أوراق الأغنياء وأصحاب الثروة.. فجاء طلحة والزبير يطلبان الإذن من الإمام علي (عليه السلام) للعمرة، فأعطى الإمام (عليه السلام) الإذن لهما، مع كونه على يقين تام بأن الهدف لم يكن العمرة وإنما هو قيادة حركة التمرد السياسي ضد الإمام علي (عليه السلام) وجاء الزبير وطلحة إلى مكة المكرمة وتحديداً إلى بيت عائشة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله) وراح الزبير وطلحة يحرّضان عائشة على الخروج لحرب الإمام علي (عليه السلام)، هذا مع أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد حذرها من أن تكون هي المرأة التي تنبح في وجهها كلاب الحوأب.. غير أن التحريض والتشجيع والدفع الذي لقيته من طلحة والزبير ومروان وغيرهم ساق بها للمضي في قيادة جيش التمرد والإعلان عن الحرب ضد حاكم الدولة الإسلامية أمير المؤمنين ووصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي (عليه السلام).
.. وفي يوم 20 جمادي الأول سنة 36هـ ـ أي بعد خمسة أشهر وواحد وعشرين يوماً من خلافة الإمام علي (عليه السلام) ـ وصلت كتيبة عسكرية تتقدمها ناقة تركبها عائشة وعلى جانبيها طلحة والزبير، فأقدمت الكتيبة على مشارف البصرة.
وصل الخبر إلى الإمام علي (عليه السلام) فجاء على راس جيش إلى حيث الموقع الذي حطّت به كتيبة عائشة، وبدأ الإمام (عليه السلام) يبث نصائحه وإرشاداته في أفراد جيش التمرد للتخلي عن قرار الحرب.. إلا أن القوم أبّوا إلا إشعال نارها، وحينما لم يصغ هؤلاء المتمردون للسان الحق، لم يكن أمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خيار آخر سوى مواجهة جيش التمرد، فبدأ الحملات العسكرية من الطرفين التي استمرت إلى يوم واحد وانتهت بهزيمة المتمردين، ثم قام الإمام علي (عليه السلام) بإرجاع عائشة إلى مكة المكرمة وأصحب معها أربعين فارساً ملثماً وكانوا من النساء... وعاد الإمام علي (عليه السلام) إلى الكوفة واستأنف مراحل المشروع الإصلاحي في الدولة الإسلامية إضافة إلى القيام بتسوية الخلافات العالقة خلال فترة غيابه إلى جانب الخلافات الموروثة من العهد السابق... غير أن حركة التمرد بقيادة طلحة والزبير ومروان بن الحكم وغيرهم لم تنطفئ نارها بعد، بل تأججت واستعرت ثم سرت إلى مناطق أخرى.
وقام قادة التمرد بتحريك جبهة الشام الواقعة تحت سيطرة معاوية.. وجبهة الشام هذه كما نعلم جميعاً لم تدن في يوم ما للنظام الإسلامي تماماً كما هو الحال عند معاوية الذي احتسب الشام مملكة اموية غير خاضعة للنظام الإسلامي ولذلك: ظل معاوية والياً على الشام والأردن طيلة خلافة عمر يتصرف حيثما يشاء، قد استأثر بالأموال فشرى بها الضمائر، وأحاط نفسه بالأتباع من دون أن تكون لأي أحد عليه رقابة، ولم توجه له أيّ مسؤولية، وإنما كان يرى التسديد والمديح والرضا بما يعمل، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله، وزاد في رقعة سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن بن علقمة الكناني كما ضم إليه حمص بعد أن استعفاه عاملها عمير بن سعد الأنصاري، وبذلك خلصت أرض الشام كلها، وأصبح من أعظم الولاة قوة ومن أكثرهم نفوذاً، وأصبح قطره من أهم الأقطار الإسلامية وأمنعها وأكثرها هدوءاً واستقراراً(29).
وصل كل من الزبير وطلحة ومروان إلى الشام، وعقدوا على الفور اجتماعاً مغلقاً وعاجلاً في قصر معاوية بحضور عمرو بن العاص وآخرين من المقربين للبيت الأموي.. كانت المباحثات تدور في هذا الاجتماع حول التخطيط لشن حرب جديدة ضد الإمام علي (عليه السلام)، فانتهى الاجتماع بمقررات تجمع على قرار شن الحرب على الدولة الإسلامية من الجبهة الغربية.
تحركت جيوش الشام نحو الشرق وتمركزت عند الحدود العراقية، فوصل خبرها إلى الإمام علي (عليه السلام) وأعلن التعبئة العسكرية العامة في صفوف الشعب، فلبى جمع هائل من المسلمين نداء الإمام (عليه السلام) وتوجه هذا الجمع إلى معسكرات الجيش استعداداً لخوض المعركة مع جيش الشام.
وصل جيش الإمام علي (عليه السلام) منطقة صفين في مقابل جيش الشام وكعادته (عليه السلام) شرع في إسداء النصيحة وإلقاء الحجة على القوم للحيلولة دون اشتعال نار الحرب ولحفظ الدماء، غير أنّ قادة التمرد بزعامة معاوية هذه المرة كانوا في شوق إلى الدماء وزج أفراد الجيش في محرقة الأحقاد في أتون حرب قذرة يكون الرابح فيها ـ حال الانتصار ـ تلك الطبقة المصلحية التي تطمح إلى استرجاع سابق عهدها في عيش البذخ والترف والإثارة.
وفي اليوم الخامس من شهر شوال سنة 36هـ ـ أي بعد أربعة أشهر ونصف من حرب الجمل ـ انقدحت شرارة حرب صفين والتي استمرت مائة وعشرة أيام، تكبد خلالها جيش الشام خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، وقدرت بعض الإحصاءات التاريخية أن تسعين ألفاً من جيش الشام لقوا حتفهم في هذه الحرب بينما استشهد عشرون ألفاً من جيش الإمام علي (عليه السلام).. وكان من أشد معارك هذه الحرب الطويلة، هي التي جرت في ليلة الهرير حيث لم يسمع فيها إلا اصطكاك السيوف وقراع الأسنة وقعقعة الخيل وتساقط الأيدي والأرجل ولا يرى فيها سوى الغبار المتصاعد إلى عنان الفضاء، حتى بلغ الحال بجيش الشام إلى حد التقهقر والانهيار وبانت عليه علامات الهزيمة والتراجع... هنا سارع عمرو بن العاص لإنقاذ الجيش من الهزيمة المنكرة التي ستقع عليها فطلب من معاوية أن ترفع المصاحف على الأسنة إيذاناً بإيقاف الحرب والرغبة في المفاوضات.. وكانت هذه خدعة استخدمها عمرو بن العاص ومعاوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تحل الهزيمة بدارهما فتتعرض سلطة بني العاص وبني أمية إلى الانهيار في منطقة الشام.
وللأسف فلقد انطلقت هذه المؤامرة الأموية على قطاع كبيرة من جيش الإمام علي (عليه السلام)، فهذا الأشعث بن قيس أحد الواجهات البارزة في جيش الإمام (عليه السلام) يأتي ويقول للإمام (عليه السلام): (إنا لك اليوم ما كنا عليه أمس ولسنا ندري ما يكون غداً وقد والله فلّ الحديد وكلت البصائر...) ثم جاء بعده آخرون وتكلموا بأكثر من ذلك، فرد الإمام علي (عليه السلام) على هذه التبريرات والأعذار قائلاً: (ويحكم إنهم ما رفعوها لأنكم تعلمونها ولا يعلمون، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاءاً ومكيدة) فقالوا له: (إنه ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله) فقال (عليه السلام): (ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه فامضوا على حقكم وقصدكم وخذوا في قتال عدوكم فإن معاوية، وابن العاص، وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن النايفة وعدداً غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالاً ورجالاً، فهم شر أطفال ورجال)(30) ولمّا رأى الإمام علي (عليه السلام) إصرار الجيش على قضية التحكيم والقبول بالمفاوضات ولما لم يجد (عليه السلام) حيلة لثني الجيش عن قناعته، سوى اضطرار القبول بالواقع المفروض خارج إرادته.. ثم أقدم الطرفان على تنفيذ خطوات عملية في موضوع المفاوضات (التحكيم) فكان الاتفاق مبدئياً على أن يخرج رجل من جيش الإمام علي (عليه السلام) وآخر من جيش الشام لبدء المفاوضات وإنهاء النزاع سلمياً.
وقد اختار معاوية ممثلاً عنه وهو عمرو بن العاص، أما بالنسبة لجيش الإمام علي (عليه السلام) فقد قام الأشعث وطلب من الإمام تعيين أبي موسى الأشعري، فرفض الإمام (عليه السلام) وقال: (قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن إني لا أرى أن أولّي أبا موسى الأشعري، فقال الأشعث ومن معه لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري، قال: (ويحكم هو ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس مني.. ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنته لكن هذا عبد الله بن عباس أولّيه ذلك فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فينا مضريان، قال علي (عليه السلام): فالأشتر، قالوا: وهل هاج هذا الأمر إلا الأشتر. فقال الإمام (عليه السلام): فاصنعوا الآن ما أردتم وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة وقيل لأبي موسى: إن الناس قد اصطلحوا، فقال: الحمد لله، قيل: وقد جعلوك حكماً، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون(31).
وليس ثمة شك في أن انعكاسات الموقف الخاسر الذي اتخذه القطاع الأكبر في جيش الإمام علي (عليه السلام) إزاء إيقاف الحرب من جهة ثم مسألة التحكيم من جهة ثانية، خلفت آثاراً خطيرة للغاية على الأوضاع السياسية والاجتماعية، حيث أن هذا الموقف أحدث انعطافة خطيرة في مسيرة الدولة الإسلامية، كما أربكت موازين القوى إذ بدأ العد التنازلي في مؤشر السلطة السياسية للإمام (عليه السلام) لا سيما وأن مصدر هذه المخاطر والأزمات من قضية مركزية ومحورية في موضوع النظام والمجتمع، وهي مسألة طاعة القيادة والتي ألغيت من راس خلال لحظات معدودة وفي أمر من أشد الأمور حساسية وخطورة وهو الحرب.
ولكن الذي جرى هو صدور قرارات بعيدة كل البعد عن قناعة أو شرعية القيادة الإسلامية، وإنما خروج على حكم الإمام (عليه السلام) المفترض الطاعة، ولعل من سخريات القدر أن عمرو بن العاص يتدخل في مصير المسلمين حينما سفّه أحلام أبي موسى الأشعري بعد أن طلب منه خلع صاحبه أي الإمام علي (عليه السلام) فيقوم ابن العاص ليعلن تثبيت صاحبه معاوية على الحكم..
ومهما يكن فإن الهدنة بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش الشام قد حصلت على أساس إجراء مفاوضات مباشرة وثنائية بصورة مستمرة لإنهاء موضوع التحكيم، وإن كان قد حصل نزاع على أصول التحكيم.. ورجع الإمام علي (عليه السلام) من صفين إلى الكوفة وقد اعتصره الألم وعلته سحابة من الكآبة والحزن بسبب ما أبداه أصحابه من عصيان وتراخي نفسي قبال حرب معسكر الشام... والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين كانوا قد أكرهوا الإمام علي (عليه السلام) للقبول بقضية التحكيم، هم اليوم يرفعوا لواء المعارضة ضد الإمام علي (عليه السلام) لقبوله التحكيم، فخرج اثنا عشر ألفاً منهم إلى حروراء (قرية من قرى الكوفة) للإعلان عن حركة معارضة جديدة.
وبعد عودة الإمام علي (عليه السلام) إلى الكوفة اجتمع هؤلاء في المسجد وكان (عليه السلام) على المنبر فنادوه: جزعت من البلية ورضيت بالقضية وقبلت الدنية لا حكم إلا لله. فرد عليهم:حكم أنتظر فيكم وقال (عليه السلام) حينما سمع قول هؤلاء الخوارج (لا حكم إلا لله) كلمة حق يراد بها باطل! نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير برّاً وفاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، فيبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع به الغي ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر(32).
وبهذه الكلمة يكون الإمام (عليه السلام) قد كشف عن الخواء الفكري والمرتكزات العقائدية الباطلة التي كانت عند الخوارج، وأظهر حقيقة الأهداف التي يسعى الخوارج إلى تحقيقها ـ كما ذكرنا سابقاً.
ولكن الواقع انه بعد حرب صفين أصبحت الأوضاع السياسية في تدهور مستمر فلم تهدأ جبهة الشام حتى أشعل الخوارج حرباً جديدة فجاءت حرب النهروان سنة 38 هجرية فخرج الإمام (عليه السلام) لصدّ الخوارج وقتالهم، ثم بعد أن اشتد أوار الحرب واقترب جيش الإمام (عليه السلام) من مرحلة النصر قام الإمام (عليه السلام) خطيباً في جيشه يستحثه على مواصلة الحملات العسكرية قائلاً: (إن الله قد أحسن إليكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. فقالوا: يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا ونفذت نبالنا ونصلت أسنة رماحنا فدعنا نستعد بأحسن عدتنا.
ولم تكن هذه الأعذار والمبررات تعبر سوى عن حالة التململ والتداعي والانهيار في أوساط جيش الإمام (عليه السلام) من الحرب، ممّا جعل الجنود ينسلون من الجبهات والعودة إلى المدن، حتى لم يصمد مع الإمام (عليه السلام) إلا الطليعة الرسالية القليلة العدد، والتي هي غير قادرة على تعبئة الفراغ الهائل في الساحة والذي نجم عن نكوص الجيش وتمرده على قرارات قيادته والتي لم تورث هذه الحالة سوى هزائم متتابعة ومتواصلة.
فلم يكن زمن النزاع العسكري بن النظام الإسلامي وجيش الشام محدوداً بإيقاف حرب صفين وإعلان التحكيم، بل أن حملات عسكرية شكلت امتداداً لحرب صفين قادها جيش الشام على المناطق الواقعة تحت سلطة الدولة الإسلامية. فهذا بسر بن ارطأة يبعث به معاوية إلى الحجاز واليمن ليقوم بمجزرة رهيبة في أوساط المسلمين والمسؤولين في الدولة الإسلامية من أتباع الإمام (عليه السلام) فحينما دخل بسر اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس عامل الإمام علي (عليه السلام)، ارتكب بسر أبشع الجرائم من قتل ونهب وسلب حتى هرب منها عبيد الله بن العباس، ثم جاء بسر إلى المدينة فأثار الرعب في أهلها وحتى الصالحين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يسلموا من بطش بسر، بينما هرب قسم منهم مثل جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري كما هرب جمع كبير من النساء والشيوخ والأطفال الذين لم يجدوا ملجأً من جرائم الطاغية بسر إلا الهروب، وفيما لقي بسر ابني عبد الله بن العباس ذبحهما أمام أعين الناس، وكان يدخل بيوت المدينة وينتزع الطفل من أمه ويرمي به إلى الحائط فيصطبغ بالدم ويلتصق به أجزاء من مخ هذا الطفل البريء كما هدم دوراً كثيرة في المدينة بعد أن استباحها أياماً.
وهو بسر الذي هجم على حمدان وسبى نساءها كُنَّ أول مسلمات يسبين في الإسلام والمجزرة الرهيبة في أحياء بني سعد.
وعندما وصل خبر بسر إلى الإمام علي (عليه السلام) اغتاظ كثيراً وقام في الناس خاطباً وقال: (أنبئت بسراً، قد اطّلع من اليمن وإني والله لأظن أنّ هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته..) وقال (عليه السلام) أيضاً بعد هذه الحادثة: (اللّهم إني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبد لهم بي شراً مني، اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم: هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم.
وهناك حادث آخر في مصر حيث كان محمد بن أبي بكر والياً عليها من قبل الإمام علي (عليه السلام) فأرسل معاوية جيشاً من أهل الشام بقيادة عمرو بن العاص لحرب محمد بن أبي بكر فتقابل الجيشان واندلعت نار الحرب بينهما، غير أن جيش مصر خذل والي الإمام علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر، فدخل عمرو بن العاص مصر وارتكب جريمة بشعة حيث أدخل محمد بن أبي بكر في جوف حمار ثم أحرقه وهو في داخله، فوصل خبره إلى الإمام علي (عليه السلام) فبكى لشهادته وترحم عليه، ثم بعث بعده مالك الأشتر فوصل الخبر إلى معاوية فدسّ إليه السّم فاستشهد مالك وقال معاوية آنذاك: (إن لله جنوداً من عسل).
شعر الإمام (عليه السلام) آنذاك بخطورة الموقف خاصة وأن الطليعة الرسالية التي كان يعتمد عليها في كثير من المسؤوليات تتعرض اليوم إلى عملية تصفية بشعة.. فلقد قتل بالأمس عمار بن ياسر وهاشم المرقال في صفين، ومات حذيفة بن اليمان بالمرض كما قتل ابناءه في صفين وغيرهم، واليوم يستشهد محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر، ولذلك وجد الإمام علي (عليه السلام) نفسه وحيداً في ساحة المواجهة مع العدو... ومن هنا بدأت تحاك خيوط المؤامرة من قبل المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، خاصة وقد تقطعت أوصال الدولة الإسلامية أثر الحروب الداخلية والخارجية.
وكان للتداعي الهائل من أفراد الأمة للضغوطات التي تسببت من جراء سلسلة الحروب المفروضة عليها أثراً بارزاً وجرحاً عميقاً أنهك كاهل الدولة وأوقع هزيمة نفسية في أوساط المجتمع الإسلامي، فتعرضت الطليعة الرسالية لمؤامرة التصفية والاغتيالات الجسدية، بحيث كشفت الحزام الأمني الذي كان يشكله الطليعة حاجزاً بين العدو ومركز القيادة، فلمّا تساقط أفراد الطليعة شهداء في معركة الكرامة أو في المهام الرسالية انفرط عقد الحزام ولم يبق أمام العدو سوى شخص القيادة الإسلامية المتمثلة في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقرر العدو تنفيذ مخطط اغتيال القيادة.
وكانت هذه من أخطر انعكاسات الهزيمة النفسية في الأمة، والتي يكون فيها المجال سانحاً لمثل هذه المخططات الحساسة والتي لا تتم سوى في حالة وصول الصراع إلى ذروته القصوى أو في حال تساوي موازين القوى بين النظام الحاكم والمعارضة، أو في حالة الفوضى وعدم استقرار الأوضاع الداخلية أو غيرها من الأسباب سواء بصورة منفصلة أو مجتمعة.
وفي التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين هجرية وقعت الجريمة العظمى عبد الرحمن بن ملجم ونفذ عملية الاغتيال، حينما كان الإمام علي (عليه السلام) في محراب المسجد أثناء انشغاله بالصلاة فجرد عدو الله ورسوله سيف البغي، ثم هوى به على هامة الإمام (عليه السلام) فسقط (عليه السلام) مضرجاً بدمه ونادى (فزت ورب الكعبة، قتلني ابن اليهودية)(33).
وبقي الإمام علي (عليه السلام) ثلاث ليال يكابد ألم الضربة الحاقدة التي أصابت رأس العدل وهوّت ركن الحق وأسقطت علم التقى وقلعة الإيمان وغيبت روح الإسلام ولسان الصدق وسلوك الرسالة...
وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين هجرية ارتجت الكوفة بأهلها فلقد استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فنادى جبرائيل في السماء (تهدمت والله أركان الهدى قتل عليٌ المرتضى، قتله أشقى الأشقياء..) فبكى عليه الملأ الأعلى كما بكى عليه أهل الأرض.
تلك كانت إطلالة عاجلة على التاريخ الإسلامي في سبيل إعداد رؤية تمهيدية للفترة القادمة التي نبدأ فيها الحديث. بتركيز كبير ـ عن عهد الإمام الحسن (عليه السلام).
ولأن بعض الاستنتاجات التي نرى بأنها موضوعية فيما يرتبط بثمة قضايا وقعت خلال عهد الإمام المجتبى (عليه السلام) فوجدنا أن مخاطبة التاريخ وربط وقائعه وأحداثه الماضية والحاضرة والمستقبلية تجعلنا أكثر قدرة على معايشة الواقع التاريخي بروح موضوعية ومتجردة، وربما تفيدنا هذه الطريقة في التوصل إلى نتائج جديدة لم نوفق نحن للوصول إليها والاستفادة منها في فصول البحث.
______________________________
1 - انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
2 - راجع مروج الذهب، ج3، ص90.
3 - قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (... والله لقد دافعت عنه (يعني عثمان) حتى أني خشيت أن أكون آثماً). المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص84، الخطبة 240.
4 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان: (... وإني أنشدك الله ألا تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يُقتل في هذه الأمة إمام، يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبث الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكون لمروان سيقه، يسوقك حيث شاء...) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص57.
5 - (... إن عثمان قتل ومعه في الدار ثمانية عشر رجلاً من بني أمية، منهم مروان بن الحكم) مروج الذهب: ج3، ص91.
6 - راجع الكامل لابن الأثير: ج2، ص160.
7 - انظر ـ تعليقة ـ رقم 5، حول قول الإمام علي (عليه السلام) لجماعته بعد رفع المصاحف، في قسم التعليقات.
8 - سورة الإسراء،الآية:33.
9 - راجع جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت: ج1، ص327، تاريخ ابن الأثير: ج3، ص277.
10 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص19.
11 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص46.
12 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص75.
13 - انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
14 - نفس المصدر.
15 - سورة الزمر: 65.
16 - سورة الأعراف: 204.
17 - سورة الروم: 60. راجع الطبري: ج5، ص73.
18 - من حياة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، الأستاذ مرتضى المطهري، ص32.
19 - تاريخ الطبري، ج5، ص73.
20 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص 36.
21 - راجع كتاب الأئمة الاثنا عشر دراسة وتحليل، عادل الأديب، ص69.
22 - نهج البلاغة، ج1، ص217.
23 - نهج البلاغة، ج1، ص59، وشرح النهج جزء 1 ص269، 270.
24 - شرح نهج البلاغة، ج7، ص37، 39، 40.
25 - نفس المصدر.
26 - نهج البلاغة، ج7.
27 - النظم الإسلامية نشأتها وتطورها. رسول الله (صلّى الله عليه وآله). صبحي الصالح، ص91.
28 - اليمين واليسار في الإسلام، احمد عباس صالح 118, 119.
29 - حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، للقرشي: ج1، ص269.
30 - مروج الذهب: ج2.
31 - مروج الذهب: ج2، ص404.
32 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص82.
33 - انظر ـ التعليقة رقم 6 ـ حول استشهاد الإمام علي (عليه السلام) في قسم التعليقات.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page