.. بالأمس خسرت الأمة الإسلامية سيد المسلمين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ولم تعرف الأمة كيف تحافظ على قيادتها، وبذلك تعثرت في حركتها، وغارت في غياهب الخنوع والهزيمة، في وقت كانت تمتلك فرصة ذهبية بوجود الإمام علي (عليه السلام)، في أن تشيد حضارة إسلامية شامخة تستند على ركائز العدل والحرية والرفاه والأمن...
غير أن الأمة حينما تستسلم للضغوطات الداخلية أو الخارجية وتخضع لرياح المؤامرات فيغزوها الوهن ويخبطها الضعف، فإن النتيجة هي الوقوع تحت نير القوى الطاغوتية.
عاد الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه من تشييع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبره الطاهر، فخرج ابن عباس إلى الناس وقال: (إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد) فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.
فخرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقد لبس ثوب السواد وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه؛ ولقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران (عليه السلام)، ورفع فيها عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنزل القرآن، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله)(1). أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي، وأنا بن الوصي، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بإذنه، وأنا ابن السراج المنير... وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيّه: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(2)، (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا)(3) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت..).
بعد أن انتهى الإمام (عليه السلام) من خطبته، قام عبد الله بن العباس يستحث الناس لمبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه) وفي الناس إلى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، على إمامته بعد أبيه.
فقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة فأقبل الناس واجتمعوا على الإمام (عليه السلام) يبايعونه بالخلافة ويسلمونه زمام أمورهم...
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه (عليه السلام) سنة أربعين للهجرة(4).
وهكذا وفقت الكوفة لأن تضع الثقة الإسلامية في نصابها المفروض لها، من الله عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته ـ معها ـ البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم (جارية بن قدامة)، وفارس على يد عاملها (زياد بن عبيد)، وبايعه ـ إلى ذلك ـ من بقى في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والأنصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته ـ فيما نعلم ـ إلا معاوية ومن إليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن (عليه السلام) مجراه مع أبيه بالأمس. وتخلف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.
ويعود الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن أخذت البيعة له ـ فينفتح عهده الجديد، بخطابه التاريخي والبليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الأمر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات وأخطار..
فيقول (عليه السلام) وهذا بعض خطابه:
(نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله في أمته، ثاني كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: ولو (ردّوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله: (وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدوٌ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) فتلقون إلى الرماح أزراً، وللسيوف جزراً وللعمد حطماً(5)، وللسهام غرضاً ثم (لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمر الأمراء ونظر في الأمور)(6).
______________________________
1 - تاريخ اليعقوبي، ج2، ص190، ابن الأثير ج3، ص16، ومقاتل الطالبين.
2 - سورة الشورى: 23.
3 - سورة الشورى: 23.
4 - يرجع فيما ذكرناه هنا إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، ج4، ص11 وذكر غيره مكان عبيد الله أخاه عبد الله. وسنشير فيما بعد إلى أن عبد الله لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن (عليه السلام).
5 - روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: إنها بعض خطبته بعد البيعة له بالأمر، البحار، ج10، ص99 والمسعودي.
6 - وروى هذا النص أكثر المؤرخين.
عهد الإمام الحسن (عليه السلام) ـ البيعة العامة
- الزيارات: 2935