وجمعهم الحسين (عليه السّلام) ، وقام فيهم خطيباً ، وقال : (( أما بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، فلقد بررتم وعاونتم .
ألا وإنّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء الأعداء إلاّ غداً ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي , ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري )) .
فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً .
وتكلّم إخوته وجميع أهل بيته فقالوا : يا بن رسول الله , فما يقول لنا الناس ؟ وماذا نقول لهم ؟ نقول : إنّا تركنا شيخنا وكبيرنا ، وابن بنت نبيّنا لم نرمِ معه بسهم ، ولم نطعن معه برمح ، ولم نضرب معه بسيف ؟ لا والله يا بن رسول الله لا نفارقك أبداً ، ولكن نقيك بأنفسنا حتّى نُقتل بين يديك ، ونرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك .
ثمّ قام مسلم بن عوسجة وقال : نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك ، وقد أحاط بك هذا العدو ؟! لا والله لا يراني الله وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولا اُفارقك حتّى أموت معك .
وقام سعد بن عبد الله الحنفي فقال : لا والله يا بن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمد . ولو علمت أنّي أُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ أُحرق حيّاً ، ثمّ أُذرى ، ويُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟!
ثمّ قام زهير بن القين فقال : والله يا بن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وإنّ الله قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك .
وقام الأصحاب وتكلّموا بما تكلّموا ، فلمّا رأى الحسين ذلك منهم قال لهم : (( إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم )) .
فكشف لهم الغطاء ـ بإذن الله ـ ورأوا منازلهم ، وحورهم وقصورهم ، فقال لهم الحسين : (( يا قوم ، إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلكم معي ، ولا يبقى منكم واحد )) .
فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك . أو لا ترضى أن نكون في درجتك يا بن رسول الله ؟
فقال : (( جزاكم الله خيراً )) .
فقال له القاسم بن الإمام الحسن المجتبى : وأنا في مَن يُقتل ؟ فأشفق عليه الحسين (عليه السّلام) وقال : (( يا بُني , كيف الموت عندك ؟ )) .
قال : يا عمّ ، فيك أحلى من العسل .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إي والله فداك عمّك ، إنّك لأحدُ مَنْ يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو بلاءً حسناً ، ويُقتل ابني عبد الله )) .
فقال : يا عمّ , ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل وهو رضيع ؟
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أحمله لأدنيه من فمي ، فيرميه فاسق فينحره )) .
ثمّ قال الحسين : (( ألا ومَنْ كان في رَحْلهِ امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد )) .
فقام علي بن مظاهر وقال : لماذا يا سيدي ؟
فقال : (( إنّ نسائي تُسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي )) .
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته واستقبلته ، وتبسّمت في وجهه ، فقال لها : دَعيني والتبسّم ، فقالت : يابن مظاهر ، إنّي سمعتُ غريب فاطمة خطب فيكم خطبة ، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمتُ ما يقول .
قال : يا هذه ، إنّ الحسين قال لنا : (( ألا ومَنْ كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني أسد ؛ لأنّي غداً أُقتل , ونسائي تُسبى )) .
فقالت : وما أنت صانع ؟
قال : قومي حتّى ألحقك ببني عمّك .
فقامت ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت : والله ما أنصفتني يا بن مظاهر !أيسرّك أن تُسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟! أيسرّك أن يبيّض وجهك عند رسول الله ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء ؟! والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء .
فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين وهو يبكي ، فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ما يبكيك ؟ )) .
قال : يا سيدي , أبتِ الأسدية إلاّ مواساتكم . فبكى الحسين (عليه السّلام) وقال : (( جُزيتم منّا خيراً )) .
خطاب الإمام الحسين (عليه السّلام) في أصحابه
- الزيارات: 10599