في العدل الإلهي :
يُعتبر العدل أحد اُصول الدين عند الشّيعة ، ويُعتبر أيضاً من اُصول المعتزلة ؛ وعليه فإنّ الإماميّة ومَن سار بعدها من المعتزلة ، يرون الحكمة وراء كلّ أفعال الله ويقولون بحسنها , والله لا يفعل القبيح من قبيل الظلم ؛ إذ إنّ الله ليس ظلاّماً للعبيد , وكلّ القبائح الموجودة هي من أفعال العباد , بينما يتنزّه الله عن ذلك . وخالفت الأشعرية إلى رأي آخر , فترى أنّ أفعال الله تعالى حكمة وحسنه , وأنّ القبيح هو أيضاً صادر عن الله , وذلك لا يتنافى مع عدله .
كما ترى الأشاعرة : إنّ الله يقضي بالكفر والظلم وكلّ القبائح(2) . وترى أيضاً : إنّ الله يفعل الأشياء من دون مصلحة وغرض حكيم ، ويعذّب العبد من دون مصلحة , وقد يخلق خلقاً في النّار من غير معصية اقترفوها . ويرون : أنّ الله قد يضلّ العباد ويغويهم ـ تعالى عن ذلك ـ , وقد يدخل إلى الجنّة مَن عبده ويدخل النّار مَن عصاه , وأنّ الله قد أمر بكثير ممّا كرهه ونهى عمّا أراده(3) . وهم بذلك يخالفون الشّيعة ومَن سار خلفهم من المعتزلة ؛ إذ يرى الشّيعة : إنّ الله لا يجوز في حقّه معاقبة العبد على فعل إنّما هو أجبره عليه , وبأنّ الله لا يفعل الأشياء عبثاً من دون مصلحة وغرض , ولا يجوز في حقّ الله ـ وبمقتضى العدل الإلهي ـ أن يعذّب المطيع ويدخل الجنّة العاصي , وبأنّ الله لم يكلّف أحداً فوق طاقته , كما ترى الأشعرية .
نحن نقول للأشاعرة : بأنّه إذا كان الله لا يتنزّه عن تعذيب المطيع وإثابة العاصي خلافاً للعدل , بمقتضى أنّ الله مريد في ملكه لا يلزمه شيء . نريد أنّ نقول : إنّ الأشاعرة بذلك أثبتوا قشريتهم ، وتجزيئيتهم ، فالله في وحيه وعد بعقاب الكافرين ومجازات المؤمنين , فإذا لم يف بوعده , يتناقض ذلك مع صفة الوفاء والصدق الإلهيين , وإذا كان بمجرّد أن يكون الله قادراً على كلّ شيء يفعله فيكون عدلاً ، فلماذا يرد بالاستحالة أن يكون له ولد .
الواقع أنّ الأشاعرة جعلوا الأفعال هي مقياس العدل ، وليس العدل هو مقياس الأفعال , فضلّوا وأضلّوا .
إذا كان الله يفعل الشيء من دون غرض ، وأنّه أجبر الخلائق على الفعل ، وأنّ أبا نؤاس يشرب الخمر لأنّ الله أراد له ذلك , فلماذا يبعث رسله وأنبياءه لهداية النّاس وتوفير الحجّة على النّاس ، وبهذا تظهر سخافة القائلين : إنّ الأشعرية كانوا أكثر فهماً للتوحيد .
ولمّا قال الأشاعرة بـ : أنّ الإنسان مسيّر وليس مخيّراً وأنّه يكتسب ولا يفعل . وخالفهم المعتزلة إلى أنّ الإنسان مخيّر غير مسيّر ، وأنّه يفعل ولا يكتسب . قالت الشّيعة : إنّما الأمر بين أمرين ، فقال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين )) . وبذلك نفهم أنّ الله ليس بظلاّماً للعبيد بجبرهم على المعصية ثمّ معاقبتهم على ذلك , وأنّ الإنسان مسؤول عن أفعاله , وبالتالي يستحقّ العقاب , فيكون عقابه عدلاً .
ولعلّ الثغرة التي وقع فيها الفريقان , هو أنّ المعتزلة تتطرّف في العقل , وتتجاوز بذلك كلّ نصّ , ومنهجها العقلي لا يعدو أن يكون منهج الأقيسة المنطقية الإغريقية ، فيما تكمن الثغرة عند الأشاعرة في أنّهم يلفّقون بين بعض طرق الكلام المعتزلي ـ الذي ورثه أبو الحسن الأشعري من فترة اعتزاله ـ مع بعض الآراء السّطحية والتجزيئية , والجمود على بعض آراء أهل الحديث ، بينما الشّيعة كانوا لا يتجاوزون بالعقل حدود النّصّ , ولا يعارضون بالنّصّ حدود العقل, ويوازنون بين المعقول والمنقول, ولم يكتفوا بنفي القبح عن فعل الله عقلاً فحسب ، وإنّما استندوا مباشرة إلى ظاهر النّصوص القرآنية :
ـ ( وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ )(4) .
ـ ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )(5) .
ـ ( وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ )(6) .
ـ ( وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )(7) .
ـ ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ )(8) .
ـ ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ )(9) .
وانطلاقاً من روح القرآن نستلهم حقيقة العدل الإلهي ، وبأنّ الوجود قائم عليه ، بخلاف ما ذهب إليه الأشاعرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مرتضى المطهري ، في رحاب نهج البلاغة / 63 ، ترجمة هادي اليوسفي ، الطبعة الثانية , دار التعارف للمطبوعات , بيروت .
(2) شرح العقائد ، الملل والنحل .
(3) التغير الكبير ، الفصل لابن حزم .
(4) سورة الزمر / 7 .
(5) سورة فصلت / 46 .
(6) سورة البقرة / 205 .
(7) سورة الكهف / 49 .
(8) سورة هود / 117 .
(9) سورة الأعراف / 28 .