المجلس الخامس والتسعون
روى الشيخ الطوسي في الأمالي بإسناده عن المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين (عليهما السّلام) منصرفي من مكّة ، فقال : (( يا منهال ، ما صنع حرملة بن كاهلة ؟ )) . فقلت : تركته حيّاً بالكوفة . فرفع يدَيه جميعاً ثمّ قال : (( اللهمَّ ، أذقه حرّ الحديد . اللهمَّ ، أذقه حرّ النّار )) . فقدمت الكوفة وقد ظهر المختار بن عبيدة الثقفي ، وكان لي صديقاً ، فكنت في منزلي أياماً حتّى انقطع النّاس عنّي وركبت إليه فلقيته خارجاً من داره ، فقال : يا منهال ، لمْ تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تهنّئناها ، ولمْ تشركنا فيها ! فأعلمته أنّي كنت بمكّة وأنّي قد جئت الآن .
وسايرته ونحن نتحدث حتّى أتى الكناس ( وهي الساحة التي يجتمع فيها النّاس بالكوفة ) فوقف كأنّه ينتظر شيئاً ، وقد كان اُخبر بمكان حرملة بن كاهلة فوجّه في طلبه ، فلمْ يلبث أنْ جاء قوم يركضون وقوم يشتدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير البشارة ، قد اُخذ حرملة بن كاهلة . فما لبثنا أنْ جيء به ، فلمّا نظر إليه قال لحرملة : الحمد لله الذي أمكنني منك . ثمّ قال : الجزّار الجزّار . فاُتي بجزّار ، فقال له : اقطع يدَيه . فقُطعتا ، ثمّ قال : النّار النّار . فاُتي بنار وقصب فاُلقي إليه فأشعل فيه النّار ، فقلت : سبحان الله ! فقال لي : يا منهال ، إنّ التسبيح لحسن ، ففيم سبّحت ؟ فقلت : أيّها الأمير ، دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على علي بن الحسين (عليهما السّلام) ، فقال لي : (( يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي ؟ )) . فقلت : تركته حيّاً بالكوفة . فرفع يدَيه جميعاً فقال : (( اللهمَّ ، أذقه حرّ الحديد . اللهمَّ ، أذقه حرّ النّار )) . فقال لي : أسمعت علي بن الحسين يقول هذا ؟ فقلت : والله ، لقد سمعته . قال : فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين فأطال السجود ثمّ قام فركب ، وقد احترق حرملة .
وركبت معه وسرنا ، فحاذيت داري فقلت : أيّها الأمير ، إنْ رأيت أنْ تشرّفني وتكرمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي . فقال : يا منهال ، تُعلمني أنّ علي بن الحسين (عليهما السّلام) دعا بأربع دعوات فأجابه الله على يدَي ، ثمّ تأمرني أنْ كلّ ؟! هذا يوم صوم شكراً لله عزّ وجلّ على ما فعلته بتوفيقه .
وحرملة هذا رمى يوم الطفّ ثلاثة من آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ أحدهم أبو بكر بن الحسن ، فإنّه خرج إلى الحرب وقاتل حتّى قُتل ، رماه حرملة هذا بسهم فقتله ، والثاني عبد الله الرضيع ، وذلك لمّا
أخذه أبوه الحسين (عليه السّلام) وأجلسه في حجره وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهلة بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال (عليه السّلام) لزينب : (( خذيه )) . ثمّ تلقّى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ، ثمّ قال : (( هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله )) .
والثالث عبد الله بن الحسن ، فإنّه خرج من عند النّساء وهو غلام ، فلحقته زينب وامتنع امتناعاً شديداً ، وجاء يشتد إلى عمّه الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف إلى جنبه وقال : لا اُفارق عمّي . فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (عليه السّلام) بالسيف ، فقال الغلام : ويلك يابن الخبيثة ! أتقتل عمّي ؟! فضربه بحر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه ! ـ أو يا اُمّاه ! ـ فأخذه الحسين (عليه السّلام) فضمّه إلى صدره وقال : (( يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ؛ برسول الله وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله عليهم أجمعين )) . فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه ، فرفع الحسين (عليه السّلام) يدَيه وقال : (( اللهمَّ ، امسك عنهم قطر السّماء ، وامنعهم بركات الأرض . اللهمَّ ، فإنْ متّعتهم إلى حين ، ففرّقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض الولاة منهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا )) .
هَـبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُ فما بالُ أطفال تُقاسي نبالَها
وليكن هذا آخر الجزء الأول من كتاب المجالسُ السَّنيّة في ذكرى مناقب ومصائب العترة النبويّة ، ويليه الجزء الثاني .
ووافق الفراغ منه أولاً ضحى يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي القعدة الحرام ، عام ألف وثلاثمئة واثنين وأربعين من الهجرة بمدينة دمشق الشام ، صانها الله تعالى عن طوارق الحدثان . ووافق الفراغ من إعادة النظر فيه ثانياً ، عند إرادة تمثيله للطبع للمرّة الثانية وتغيير بعض ترتيبه والزيادة عليه والإنقاص منه ، ضحى يوم الجمعة الخامس عشر من شهر ذي الحجّة الحرام عام الف وثلثمئة وخمسين من الهجرة بقرية شقراء من جبل عامل ، حماه الله من الغوائل . ووافق الفراغ من إعادة النظر فيه ثالثاً ، عند إرادة تمثيله للطبع هذه المرّة ، في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1364 من الهجرة بمنزلي في دمشق الشام ، وقاها الله من حوادث الأيام ، في شارع الأمين حماه الله من كلّ ما يضرّ ويشين .
وكتب بيده الفانية مؤلّفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي ، نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيّئاته حامداً مصلّياً مسلّماً ، وكان الفراغ من تجديده وإعادة طبعه للمرّة الخامسة على يد حسن الأمين ، ولد المؤلف ، في الثامن من ذي الحجّة عام 1382 في بيروت .
والحمد لله رب العالمين
المجلس الخامس والتسعون
- الزيارات: 1365