المجلس المئة
قال الله تعالى : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ . . . لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلى أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مبِينٍ )(1) .
روي : أنّه لمّا ولد يوسف أحبّه يعقوب حُبّاً شديداً , فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه ، ثُمّ إنّ يوسف رأى في منامه أحد عشر كوكباً والشّمس والقمر تسجد له , فقصّها على أبيه , فقال له أبوه : ( يَا بُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً )(2) . فسمعت امرأة يعقوب ذلك , فلمّا أقبل أولاد يعقوب , أخبرتهم بالرؤيا فازدادوا حسداً , وقالوا : ما عني بالشّمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا , إنّ ابن راحيل يريد أنْ يتملّك علينا . فتآمروا بينهم أنْ يفرّقوا بينه وبين أبيه , وقالوا : ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً ) : أي في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه ( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) : تنصرف محبته لكم ويحنّ عليكم ( وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ) : وهو يهوذا ، وكان أفضلهم وأعقلهم : ( لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ ) : أي في قعر البئر ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ ) : يأخذه بعض مارّة الطّريق المُسافرين ( إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) . وأخذ عليهم العهود أنّهم لا يقتلونه , فأجمعوا عند ذلك أنْ يدخلوا على يعقوب ويُكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية : ( قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً ) إلى الصّحراء ( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) : جماعة ( إِنّا إِذاً لَخَاسِرُونَ )(3) . فاطمأنّ يعقوب إليهم ، فأرسله معهم فأخرجوه وهم يكرمونه . فلمّا وصلوا إلى الصّحراء أظهروا له العداوة , وجعل يضربه بعض إخوته فيستغيث بالآخر فيضربه , فضربوه حتّى كادوا يقتلونه ، وجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب ! لو تعلم ما يُصنع بابنك بنو الإماء . فقال لهم يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أنْ لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجُبّ , ( فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ ) : أدنوه من رأس الجُبّ ، فقالوا له : انزع قميصك . فبكى وقال : يا إخوتي لا تجردوني . فسلّ واحدٌ منهم عليه السّكين ، وقال : لئن لم تنزعه لأقتُلنّك . فنزعه , فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلّق بشفير البئر , فربطوا يديه وهو يقول : يا إخوتاه لا تفعلوا ! ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجُبّ . فيقولون : ادعُ الشّمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك . فدلّوه في الجُبّ , فلمّا بلغ نصفه ، ألقوه إرادة أنْ يموت .
وكان في البئر ماء فسقط فيه , ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها ، فنادوه ، فظنّ أنّهم رحموه فأجابهم , فأرادوا أنْ يرضخوه بالحجارة , فمنعهم يهوذا ، ( وأوحينا إليه لَتُنَبّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا ) : لتخبرنّهم بفعلهم بعد هذا الوقت ، وهو قوله : ( هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ) ؟ ( وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) إنّك يوسف .
( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ ) : عادوا إلى أبيهم عشاء يبكون ، فلمّا سمع بكاءهم فزع وقال : ما بالكم ؟ ( قَالُوا يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) : نتراكض ونترامى بالسّهام لنعرف أيُّنا السّابق ( وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ) : بمصدق لنا ( وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )(3) . قيل
: إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميصه ولم يُمزّقوه , ولم يخطر ببالهم أنّ الذّئب إذا أكل إنساناً مزّق ثوبه . فقال لهم : أروني القميص . فلمّا رأى القميص صحيحاً , قال : يا بَنيَّ ، والله , ما عهدت كاليوم ذئباً أحلم من هذا , أكل ابني ولم يُمزّق ثوبه ! ثمّ بكى بُكاءً طويلاً , ثمّ أخذ القميص يُقبّله ويشمّه .
هذا يعقوب مع أنّه نبيّ ابن أنبياء ، بكى لمّا رأى قميص ولده حتّى غُشي عليه ، وهو لم يتحقق موته . ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) الذي رأى ولده عليّاً الأكبر , شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بخلقه وخُلقه , مُقطّعاً بالسّيوف , مُجرّحاً بالرّماح والسّهام , نادى : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُني , ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول ! على الدّنيا بعدك العفا )) :
كنتَ السّوادَ لناظري فعليك يبكي النّاظرُ
مَن شاءِ بعدَك فليمُتْ فعليك كنتُ اُحاذرُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يوسف / 4 ـ 8 .
(2) سورة يوسف / 5 .
(3) سورة يوسف / 9 ـ 14 .
(4) سورة يوسف / 15 ـ 18 .