المجلس التّاسع والعشرون بعد المئة
لمّا كانت غزاة تبوك ظهر من أقوال المنافقين وأفعالهم ما لم يظهر في غيرها ، منها : أنّه تخلّف عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) كثير من المنافقين ، ونزلت فيهم آيات كثيرة مثل قوله تعالى : ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ )(1) . وقوله تعالى : ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُوا لَكَ الاُمور حَتّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ )(2) . وقوله تعالى : ( فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ) إلى قوله ( وَقَالُوا لاَتَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً )(3) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التّي في سورة براءة .
ومنها ، قولهم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّما خلّف عليّاً (عليه السّلام) على المدينة استثقالاً له ، فكذّبهم الله تعالى على لسان نبيه (صلّى الله عليه وآله) , فقال له : (( إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ؛ أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي ؟ )) .
ومنها
: أنّها ضلّت ناقة النّبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال بعض المنافقين : إنّ محمّداً يخبركم الخبر من السّماء ، ولا يدري أين ناقته ! فقال : (( إنّي والله , لا أعلم إلاّ ما علّمني الله عزّ وجل , وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها )) . فوجدوها كما قال (صلّى الله عليه وآله) .
وقدم رسول الله المدينة , وكان إذا قدم من سفر استُقبل بالحسن والحسين (عليهما السّلام) , وحفّ به المسلمون حتّى يدخل على فاطمة (عليها السّلام) ويقعدون بالباب , فإذا خرج , مشوا معه حتّى يدخل منزله فيتفرّقون عنه .
بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! كنت إذا قدمت من سفر استقبلك المسلمون بولديك الحسنين (عليهما السّلام) ؛ وما ذاك إلاّ لعلم المسلمين بأنّ ولديك الحسنين (عليهما السّلام) أحبّ الخلق إليك وأشرفهم منزلة عند الله , وكنت أوّل مَن تبدأ بزيارته بضعتك فاطمة الزّهراء (عليها السّلام) ؛ لأنّها أحب النّاس إليك وأعزّهم عليك .
اُخبرك يا رسول الله بما جرى بعدك على بضعتك الزّهراء وريحانتيك الحسنين
(عليهم السّلام) ؟ أمّا بضعتك الزّهراء (عليها السّلام) ، فلم تزل بعدك ناحلة الجسم ، معصبة الرّأس ، حزينة كئيبة باكية حتّى تأذّى ببكائها أهل المدينة , فبنى لها علي (عليه السّلام) بيتاً في البقيع يُسمّى بيت الأحزان , فكانت تخرج إليه وتقضي وطرها من البكاء حتّى لحقت بربّها ؛ وأمّا ولدك الحسن (عليه السّلام) ، فجرّعوه الغصص حتّى جرحوه في فخذه بمعول في ساباط المدائن حينما كان متوجّهاً إلى حرب معاوية , وكاتبوا عدوّه سرّاً وخلّوه حتّى اضطرّ أنْ يُصالح معاوية ؛ حفظاً لدمه وابقاء على شيعته ، وكانت عاقبة أمره أنْ مات شهيداً بالسّم حتّى تقيّأ كبده قطعة قطعة .
وأمّا ولدك الحسين (عليه السّلام) ، فغصبوه حقّه وأخافوه حتّى خرج من حرمك خائفاً يترقّب إلى حرم الله , ثُمّ من حرم الله إلى الكوفة , وجهّز ابن زياد إليه الجيوش بأمر يزيد , فأحاطوا به ومنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة , ومنعوه من شرب الماء هو وعياله وأطفاله حتّى قتلوه عطشان غريباً وحيداً فريداً لا ناصر له ولا مُعين , وليتهم اكتفوا بذلك ! لا والله , لم يكتفوا بهذا حتّى أمر ابن سعد ـ تنفيذا لأمر ابن زياد ـ أنْ يُداس بدنه الشّريف بحوافر الخيل , وحمل رأسه ورؤوس أصحابه على الرّماح وطاف بها في البلدان , وساق بناتك ونساء أولادك كما تُساق السّبايا من كربلاء إلى الكوفة , ومن الكوفة إلى يزيد بالشّام .
تتهادى بهـا النّيـاقُ بلا حا مٍ ولا عينُ كافلٍ تـرعاهَا
لابن مرجانة الدّعيِّ وطوراً لابن هندٍ تُهدى بذلِّ سباهَا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 42 .
(2) سورة التوبة / 48 ـ 49 .
(3) سورة التوبة / 81 .