• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

إقتراحُ أبي طالب :

إقتراحُ أبي طالب :
لقد دفع وضع (محمّد) المعيشي الصعب «أبا طالب» سيد قريش وزعيمها الذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة، وعلو الطبع، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.
ومن هنا اقترح على ابن أخيه «محمّد» العمل والتجارة بأموال «خديجة بنت خُويلد» التي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم، ومال كثير، تستأجر الرجال في مالها أو تضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه.
فقد قال أبو طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله : يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثرُ الناس وهي تبحث عن رجل أمين، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت اليك، وفضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك.
ولكن إباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلوّ طبيعته، منعاه من الإقدام
بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعمّه : فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.
فبلغ «خديجة» بنت خويلد، ما دار بين النبيّ وعمه «أبي طالب»، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني الى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا اعطيك ضعف ما اُعطي رجلاً من قومك وابعثُ معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر.
فاخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عمّه بذلك فقال له ابو طالب : «إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّه إليك»(1).
هل عمِل النبيُ أجيراً لخديجة :
وهنا لا بدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي :
هل عمل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أجيراً في أموال خديجة، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة، وذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة ؟
انّ مكانة البيت الهاشميّ، وإباء النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه وآله، ومناعة طبعه، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمّ بالصُورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، وتؤيّد هذا المطلب امور هي :
أولاً : انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل وقال : «امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتى نسألها ان تعطي محمّداً مالاً يتجر به»(2).
ثانياً : ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط(1).
ثالثاً : ان الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة» بأن «خديجة» كانت تضاربُ الرجال في مالها، بشيء تجعله لهم منه (اي من ذلك المال او من ربحه)(2).
* * *
تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر الى الشام، وفيها أموال «خديجة» أيضاً، في هذه الاثناء جعلت «خديجة» بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (اي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله) وامرت غلاميها (ميسرة وناصحاً) اللذين قررت ان يرافقاه صلّى اللّه عليه وآله، بان يمتثلا أوامره، ويطيعاه، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، ولا يخالفاه في شيء(3).
وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً، إلا أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ربح اكثر من الجميع، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق «تهامة».
ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى «مكة» بعد ذلك المكسب الكبير، والحصول على الربح الوفير.
ولقد تسنّى لفتى قريش «محمّد» أن يمرّ - للمرة الثانية في هذه السفرة - على ديار عاد وثمود.
وقد حمله الصمتُ الكبير الذي كان يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية الى العوالم الاُخرى اكثر فاكثر، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الاُولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه «ابي طالب» هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها، وما كان يحظى
(3) قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي وأنّه أمير قريش وسيّدها، فلا يدٌ على يده، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر وليكُن كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه، بحار الأنوار : ج 16 ص 29.
فيها من عمه من الحدب والعناية.
وعندما اقتربت قافلة قريش إلى «مكة»، وصارت عند مشارفها، التفت «ميسرة» غلامُ خديجة، الى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وقال : «يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة، فاستقبل بخديجة وأبشرها بربحنا» فأخذ النبي باقتراح ميسرة، وسبق القافلة العائدة في الدخول الى مكة، وتوجه نحو بيت «خديجة» بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلما رأت النبي مقبلاً عليها، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته، وأدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بما ربحوا، ببيان جميل، وكلام بليغ، فسرت «خديجة» بذلك سروراً عظيماً، ثم قدم «ميسرة» في الأثر، ودخل عليها، وأخبرها بكل ما رآه وشاهد من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في تلك السفرة من الكرامة والخير، والخُلق العظيم، والخصال الكريمة، ومن الاُمور التي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلّى اللّه عليه وآله، وسمو خصاله(1)، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : ما حلفتُ بهما قط، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما(2).
وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحا فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة - : «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال : «هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة»(3).
خديجة زوجةُ الرّسول الاُولى :
حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه «أبي طالب» المالية، ولم يكن شغله على النحو الذي يكفي لضمان نفقاته، من جانب، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة، من جانب آخر.
ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة، معروفة في قريش (أعني خديجة) ساعدت والى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.
ولقد اعجبت «خديجة» بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه، ومقدرته التجارية حتى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه، تقديراً له، واعجاباً به، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه «أبي طالب» وقدّم كل ما أخذه من «خديجة» الى عمه «أبي طالب» ليوسّع به على أهله.
ففرح «أبو طالب» بما عاين من ابن اخيه، وبقية أبيه «عبد المطلب»، وأخيه «عبد اللّه» وأغرورقت عيناه بالدموع، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر، وراحلتين يُصلح بهما شأنه، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.
في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن اُسرة، ولكن كيف وقع الاختيار على «خديجة» التي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج التي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل «عقبة بن أبي معيط»، و«أبي جهل» و«أبي سفيان» للزواج بها ؟؟!، وماذا كانت العلل التي جمعت هذين الشخصين غير المشابهين، من حيث مستوى الحياة، والثراء ؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة، والاُلفة والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ
«خديجة» سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله لينفقها في نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الحق، وإرساء قواعد التوحيد، وبث الدين الجديد، وأصبحت تلك الدار المفخمة التي كانت تزينها الكراسي المرصّعة، والستر المطرّزة، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية، والإيرانية، ملجأ للمسلمين، وملتقى لانصار الرسالة ؟!!
لا بدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة «خديجة» نفسها، فان من المسلّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.
إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان «خديجة» بتقوى عزيز قريش وفتاها الامين «محمّد» وطهره، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه، ولهذا قال النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله في حقها :
«أفضل نساء الجنة أربع : خديجة...»(1).
إنها أول إمرأة آمنت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فقد قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته التي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة :
«لم يجمع بيتٌ واحِدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسُول اللّه وخديجة وأنا ثالِثُهما»(2).
ويكتب «إبن الأثير» قائلاً : إنّ عفيفاً الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام الحج فرأى رجلاً قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امرأةٌ تصلّي معه، ثم خرج غلامٌ فقام يصلي معه، فمضى يسأل العباس عمَّ النبيّ عن هؤلاء، وعن هذا الدين، فقال العباس :
هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة(1).
وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلاً لهذه الدراسة.




______________________________
(1) خصال الصدوق : ج 1 ص 96 وغيره.
(2) الكامل : ج 2 ص 37، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي : ج 13 ص 197 - 201.
(3) بحار الأنوار : ج 16 ص 22، السيرة الحلبية ج 1 ص 132 و133، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 24.
(4) بحار الأنوار : ج 16 ص 22.
(5) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 21.
(6) بحار الأنوار ج 16 ص 9 نقلاً عن معالم العترة.
(7) الخرايج : ص 186، بحار الأنوار : ج 16 ص 5.
(8) الطبقات الكبرى : ج 1 ص 130 وفي بحار الأنوار : ج 16 ص 18 : انه صلّى اللّه عليه وآله قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليّ من هذه الكلمة.
(9) بحار الأنوار : ج 16 ص 18، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 130، الكامل لابن الأثير : ج 2 ص 24 و25.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page