• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الهجرة الثانية الى الحبشة :

الهجرة الثانية الى الحبشة :
ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اُخرى، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة «جعفر بن أبي، طالب»، ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).
هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم، والا كان العددُ اكثر من هذا الرقم.
ولقد وجَد المسلمون المهاجرون ارضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهم : منطقة عامرة، وبيئة آمنة حرّة، تصلح لأن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.
تقول «اُم سلمة» التي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في ما بعد، عن تلك الارض : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه.
كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، انهم أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.
ونحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوّلة أنشأها «عبد اللّه بن الحارث» في هذا الصدد :
يا راكباً بلِّغن عنّي مُغلغلة(1)***من كان يرجُو بلاغ اللّه والدّينِ
كلَّ امرئ مِن عِباد اللّه مضطهدٍ***ببطنِ مكّة مقهور ومفتونِ
أنّا وجدنا بِلاد اللّه واسعةً***تُنجِي مِن الذُّلِّ والمخزاة والهون
فلا تُقيموا على ذُلِّ الحياة وخز***ي في المماتِ وعيب غير مأمون(2)
ويقول ابن الاثير : وكان مسيرهم (الى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم الى النبي صلّى اللّه عليه وآله انه بلغهم ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قوم وتخلّف قوم(3).
هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام(4).
قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين :
عندما بلغ قريشاً وزعماء «مكة» ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم، وتوجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم، ويُميّلوا قلبه نحو الإسلام، ويكسبوا تاييده للمسلمين، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية، وعندها تكون الكارثة.
فاجتمع أقطابُ «دار الندوة» مرة اُخرى للتشاور في الأمر، فإستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده هدايا
مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهموهم عنده بالسفاهة والجهل، وابتداع دين جديد منكر، والإرتداد عن دين الآباء والاجداد !!
ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما : «عمرو بن العاص»، و«عبد اللّه بن ابي ربيعة» وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار : إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
فخرج موفدا قريش حتى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.
وهناك في الحبشة دفعا الى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه ووزرائه هديته، وقالا لكل بطريق منهم :
إنه قد ضوى(5) إلى بلد الملك منّا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم، وقد بعثنا الى المَلِك لنكلّمه في أمرهم أشرافُ قومهم ليردّهم اليهم فاذا كلّمنا الملكُ فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، ولا يكلّمهم، فان قومهم أبصر بهم، واعلم بما عابوا عليهم.
فابدى اُولئك البطارقة والقادة والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.
ولما كان من غد دخلا على النجاشي وقدما هداياهما اليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له :
أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم
يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم اليهم، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلا وقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك، قومُهم أبصرُ بهم، وأعلمُ بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليرداهم الى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشيّ وكان رجلا حكيماً عادلاً وقال : لاها اللّه، إذن لا اُسلمهم إليهما، ولا يُكادُ قوم جاورُوني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما، ورددتُهم الى قومهم، وان كانوا على غير ذلك منعتُهم منهما واحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.
ثم ارسل الى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المهاجرين الى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم، فحضروا عنده، وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم : «جعفر بن أبي طالب» وقد قلِق بعضُ المسلمين لما قد سيقوله «جعفر» عند الملك، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر : أقول واللّه ما علّمنا، وما امرنا به نبيُنا صلّى اللّه عليه وآله كائناً في ذلك ما هو كائن.
فالتفت النجاشيُ الى «جعفر» وسأله قائلاً :
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا (به) في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل ؟
فقال جعفر بن أبي طالب :
«أيُها الملك، كنّا قوماً أهلَ جاهلية نعبُدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الارحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه الينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا الى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه، ونخلعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من
الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد اللّه وحده، لا نشركُ به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك ايها الملك».
فأثّرت كلمات جعفر البليغة، وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع، وقال لجعفر: هل معك ممّا جاء به عن اللّه من شيء ؟
فقال جعفر : نعم فقال له النجاشيّ : فاقرأهُ عليَّ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم، واستمرّ في قراءته، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى «مريم» عليها السّلام وطهارة جيبها، والى مكانة المسيح عليه السّلام، وعظمة شأنه، وجليل مقامه، فبكى النجاشيُ حتى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت اساقفتُه(6) حتى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهما السّلام.
وبعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي :
«إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة» وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحد.
ثم التفت الى موفدي قريش وقال لهما بنبرة قوية : انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون، فخرجا من عنده.
وعند المساء تكلم «عمرو بن العاص» - وكان إمرأً خدّاعاً ماكراً - مع رفيقه «عبد اللّه بن ربيعة» في الامر، وقال له : واللّه لآتينّه غداً عنهم بما استأصل به حضراءهم (وهو يعني أنه سيأتي بحيلةٍ تقضي على جذور المهاجرين بالمرة) ولاُخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. (أي على خلاف ما يعتقد النصارى في المسيح).
فنهاه «عبد اللّه» عن ذلك وقال : لا تفعل، فانّ لهم أرحاماً، وان كانوا خالفونا، ولم ينفع نهي عبد اللّه له.
ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشيّ مرة اُخرى فقال له «عمرو» متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي دين الملك واهله، ومنتقداً رأي المسلمين:
أيها الملك، إنهم يقولون في «عيسى بن مريم» قولاً عظيماً، فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.
فارسل النجاشي اليهم ليسألهم عنه، وهو الملك المحنّك الذي لا يأخذ الاُمور على ظواهرها، ومن غير تحقيق ودراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السّلام فاتفقوا أن يكون «جعفر» متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال : أقول واللّه ما قال اللّه، وما جاءنا به نبيُّنا.
فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب : ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟
فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى اللّه عليه وآله : هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها الى مريم العذراء البتول.
فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به وقال : هذا واللّه هو الحق، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ.
ولكنّ حاشيته لم ترضَ بهذا الكلام ولم تقبل بما قاله الملكُ، ولكنّه لم يعبأ بهم، وأيّد مقالة المسلمين، ومنحهم الحرية الكاملة، والأمان الكامل قائلاً لهم :
اذهبوا فانتم آمنوان في أرضي من سبّكم غُرمَ، من سبّكم غُرم، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلاً منكم.
وردّ على موفدي قريش هداياهما قائلاً لهما : «ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فاُطيعهم فيه».
فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به يجرّان اذيال الخيبة(7).
* * *
وينبغي ان نسجّل هنا موقفاً آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين، ونصرة الدين الحنيف.
فقد أرسل «أبو طالب» أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي :
ألا ليتَ شِعري كيف في النأي جعفر***وعمرو واعداء العدو : الأقاربُ ؟
وهل نالت افعال(8) النجاشيّ جعفراً***وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ ؟
تعلّم، أبيتَ اللعنَ، انك ماجد***كريم فلا يشقى لديك المجانبُ
تعلّم بان اللّه زادك بسطةً***وأسباب خير كلّها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة***ينالُ الاُعادي نفعُها والاقارب(9)





______________________________
(1) المُغلغلَة : الرسالة ترسل من بلد الى بلد.
(2) السيرة النبوية : ج 1 ص 351 - 353.
(3) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 52 و53.
(4) السيرة النبوية : ج 1 ص 354 - 362.
(5) ضوى أيّ لجأ وأتى ليلاً.
(6) الاساقفه، جمع اسقف : علماء النصارى.
(7) السيرة النبوية : ج 1 ص 338، إمتاع الاسماع : ص 21 بحار الأنوار : ج 18 ص 414 و415.
(8) إحسان.
(9) السيرة النبوية : ج 1 ص 333 و334.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page