• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المدخل

زفت البشرى إلى عبد المطلّب ـ شريف مكة ـ بميلاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) فأشرق وجهه وتهلّل فرحاً لهذا النبأ لأنّه وجد في هذا الوليد الجديد خلفاً لابنه الفقيد عبدالله الذي ملأ قلب أبيه أسىً وألماً . وهبّ الشيخ الكريم إلى بيت اليتيم ليستقبل وديعة ولده الفقيد ، وكان أول واجب أدّاه الرّجل الحنون هو تسميته بـ « محمد » ، ومنحت آمنة وليدها كلّ رقّة وحنان حتى أصبح في عمر يستحق بعثه إلى المراضع في البادية كما هي العادة التي يتّبعها الآباء لتربية أبنائهم تربية ينهضون على أساسها بأعباء الحياة القاسية التي يحياها إنسان الصّحراء من فروسية وركوب خيل وحمل سلاح وغير ذلك.
وأرسل عبدالمطلب الحنون وديعته إلى البادية حيث تولّت حليمة السّعدية تربيته ، ويترعرع محمد ( صلى الله عليه وآله ) في حضن مربّيته الجديدة ويعمّ الخصب كلّ الحي الذي نشأ فيه فضلاً عن البيت الذي تولّى مسؤولية رعايته وتنشئته.
وتمضي الأيام وتنتهي الفترة التي أُعدت لتربية الطفل اليتيم ، ويعود إلى أمُه ليحظى من جديد بحنانها وإخلاصها المنقطع النظير ، وليتفيّأ تحت ظلالها الوارفة ، ولكن لفترة قصيرة ، إذ تعاجله يد المنون فتخطف أُمّه وتسلّمه ليتم جديد ، بل لتعمّق آثار اليتم وتؤصّلها في نفسه ، وتتسلّمه يد عبد المطلب الأمينة لتواصل رعايته بعيداً عن آثار اليتم وذكريات الماضي ، وتفيّأ الصبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) من ظلال جدّه الحنون ، ولكنّ الموت عاجله فغيب شخص جدّه عبد المطلب عنه ، فعادت أشباح اليتم بضراوتها لتخيّم على محمد ( صلى الله عليه وآله ) من جديد.
ويسرع أبو طالب عمُّه الكريم ليسد الثغرة التي حدثت في حياة ابن أخيه ، وليؤدّ وصيّة أبيه بشأن حبيبه محمد حيث ورّثه وصيّة خالدة ما دامت السماوات والارض :
« اُنظر ـ يا أبا طالب ـ أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولم يذق شفقة أُمه ، اُنظر أن يكون ـ من جسدك ـ بمنزلة كبدك .. فإني قد تركت بنيّ كلّهم وخصصتك به لأنّك من أُمّ أبيه... ».
وينتقل محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت عمّه أبي طالب ليجد الرّحمة والحنان ترفرف فوق رأسه لتنسيه آلام حزنه وكآبته التي نالته بعد فقد أُمه وجدّه بعد أبيه ، ويترعرع محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو يتذوق طعم الحنان بأجلى صوره فهو يتمتع بشفقة الأُبوة متمثّلة بشخص عمّه أبي طالب ، وبحدب الاُمومة متمثّلاً بشخص زوجة عمه فاطمة بنت أسد التي وجد فيها الاُمّ الرؤوم التي احتضنته كما احتضنت وليدها عليّاً ( عليه السلام ) وإلى جانب هذه اللذّة التي ذاق محمد طعمها وجد لذة الإلفة والإنسجام الروحي بينه وبين ابن عمّه علي ( عليه السلام ) حيث وجد فيه خير صفيّ له في فتوته ، ويسخّر أبو طالب كلّ طاقاته المعنويّة والماديّة لأجل محمد وديعة أبيه العزيز ، فوجد محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عمّه هالةً من العاطفة الخيّرة تجاهه حتى صحبه في اسفاره إلى بلاد الشام.
وترعرع الفتى في بيت عمّه وراح ينفرد عن قومه في لون حياته الخاصة والعامة ، فالصدق والأمانة والوفاء وحسن الخلق وجفاء الأصنام والعقائد السائدة ، كلّ ذلك كان ديدنه ( صلى الله عليه وآله ) حتى اعتادت قريش أن تسمّيه « الصادق الأمين » وقد احتكمت لديه في رفع الحجر الاسود عند بناء البيت فحلّ خصومتهم بإحضاره ثوباً وضع في وسطه الحجر الأسود وأمر كلّ قبيلة أن ترفع طرفاً من أطراف الثوب ، وعند وصوله إلى المكان المعد له أنزله من الثوب . وقضى بذلك بينهم قضاءً حقن لهم دماءهم مما جعل صيته تتحدث به أندية مكّة وغيرها ، وبلغ صيته النساء القرشّيات فاُعجبن ومن بين النساء اللواتي طرق سمعها حديث محمد ( صلى الله عليه وآله ) خديجة بنت خويلد الإمرأة القرشيّة التي عرفت بثروتها وشرفها وعفّتها ، وكانت قد فقدت زوجها واختزلت من عمرها زمناً دون زواج.
سمعت هذه المرأة الثرية عن محمد ( صلى الله عليه وآله ) الشيء الكثير وراحت تستقصي أنباءه كلّ حين ، وبلغها يوماً أنّ محمداً يفتش عن مال ينطلق به مع القافلة إلى بلاد الشام للمتاجرة هناك حيث اعتاد عرب الحجاز ـ يومذاك ـ أن يتاجروا مع بلاد الشام أو الحبشة حيث كانت مكة سوقاً عالميّة ومفترق طرق التجارة بين الشمال والجنوب ، وتجد خديجة هوىً في نفسها لمدّ محمد بما يحتاج إليه من مال شريطة أن يكون لها نصيب من الرّبح الذي يكسبه ، وبعثت لذلك غلامها « ميسرة » بغية التفاوض مع محمد.
وعلى الفور يتّفق الطرفان ويسافر محمد وميسرة في تجارتها إلى الشام ، وما هي إلاّ ايام ويعودان وهما يصحبان ربحاً وفيراً ، ويسرع ميسرة إلى سيدته ليبشرها بنتائح الرحلة ، ولكنها لم تكترث للمال ، بل راحت تستفسر عن سلوك محمد ، خلال الرّحلة ، وراح ميسرة يوضّح ما رآه عن محمد ، فما كان من خديجة إلاّ أن يشرق وجهها بالبشر والأمل ، الأمل الكثير الذي تنتظره ، وهنا تزداد ثقة مما سمعته من الأنباء المثيرة عنه ، وهنا تتحدّى خديجة التقليد الذي اعتاد عليه الناس يومذاك ـ حيث تبعث أُختها هالة أو نفيسة بنت منبه ـ على قول ـ لتتصل بمحمد ، فتعرض عليه رغبتها في الزواج منه ، فيجد محمد ( صلى الله عليه وآله ) هوىً في نفسه للفكرة ، التي عرضت عليه ، فيتّصل بأعمامه ليشرح لهم ما جرى بينه وبين ممثلة خديجة ، فيستقبل أبو طالب وهو زعيم مكة وشريف العرب ـ يومذاك ـ هذا العرض بكلّ رحابة صدر واطمئنان ، ويتّصل بذوي خديجة ليخطبها منهم مفتتحاً حديثه بالكلمة القصيرة الآتية :
« الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على النّاس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن به ثم إنّ ابن اخي محمد بن عبدالله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس بأحد إلا عظم عنه ، وإن كان في المال قُلّ ، فإنّ المال رزق حائل وظلٌّ زائل ، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي وله ـ والله ـ خطب « عظيم ، ونبأ شائع ».
وبعد مناقشات مع عمّها عمرو بن أسد ، قبل العرض وزوج ابنة أخيه إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعانق قلب محمد ( صلى الله عليه وآله ) قلب خديجة وتنسجم روحاهما في وقت كان محمد ( صلى الله عليه وآله ) يبلغ الخامسة والعشرين سنة من عمره ، ويبلغ عمر خديجة الأربعين سنة.
وتمر الأيام سريعة يعيش فيها محمد وخديجة عيشة هانئة نديّة ، يقضي فيها محمد أكثر أوقاته بعيداً عن غوغاء الجاهلية وضجيجها في « غار حراء » خارج مكة متأملاً في أوضاع قومه المتردية ، متفكراً في ملكوت الله سبحانه ، وخديجة تشاركه أحاسيسه ومشاعره بقلب يفيض بالحبّ والوفاء ، وهي في داخل بيتها ، ويبلغ محمد ( صلى الله عليه وآله ) الأربعين من عمره ، ويطالعه الوحي ليكلّفه مسؤولية حمل رسالة الإسلام ـ رسالة السّماء ـ وتبليغها للمجموعة البشريّة ، فيستمع إلى أول بيان إلهي ليتحمّل أعباء الرسالة :
« إقرأ باسم ربّك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربُّك الأكرم الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لَم يعلم .... ».
ويعود محمد وهو يحمل نبأ تكليفه بحمل الهداية إلى الإنسانيّة ، يعود من « حراء » إلى بيته فتستقبله خديجة الوفية ، فيبشرها بما رأى ، فتصدّقه وتؤمن به ، ويصدّقه علي ( عليه السلام ) حيث كان يافعاً وقد ربّاه محمد في بيته بعد أن أملق عمّه أبو طالب ، وتنشأ أول نواة في الأرض لخلق « خير أُمّة أُخرجت للنّاس ... ».
ويحس محمد ( صلى الله عليه وآله ) بدوّار وتعب فيطلب لخديجة أن تدثّره لينام قليلاً ولكنّه فوجىء ببيان السّماء للنُّهوض بأعباء الدعوة وأن يضم إلى جانب حمل الرسالة حمل الدعوة لها :
« يا أيها المُدثر قم فأنذر ، وربك فكبّر ، وثيابك فطهّر ، والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ؛ ولربّك فاصبر » ...
ونهض لينفذ نداء السّماء ، فيتّصل بأصدقائه وممن يثقون بصدقه وأمانته سابقاً ، فصدّقه بعضهم . واستمر الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) يدعو بصورة فرديّة لأنّ الظروف يومئذ لا تسمح إلاّ بسرية الدعوة ، واستمر يعمل طبقاً لهذا المنهاج ثلاث سنين لتثقيف أتباعه في دار الأرقم المخزومي ، ولكنّ هذه الفترة من عمر الدّعوة لم يكسب فيها غير زهاء الأربعين شخصاً ، أكثرهم من الفتيان والفقراء ، وفي أحد الأيّام تلقّى محمد ( صلى الله عليه وآله ) بياناً كلّفه بالإنتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل الدعوة المباركة : « وأنذر عشيرتك الاقربين ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ».
وبهذا النّداء الإلهي القويم يدخل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مرحلة جديدة : ـ مرحلة إنذار عشيرته ـ وكان ذلك بسبب الحياة القبليّة التي يعتمد عليها المجتمع المكّي ـ بل الحجازي ـ يومذاك.
ويدعو محمد ( صلى الله عليه وآله ) عمومته وأبناء عشيرته من بني هاشم ليتناولوا وليمة أقامها لهم في بيته ، ويعلن لهم : أنّه مرسل من الله ، وأنهم مطالبون بتصديقه واتّباعه ، لكنّه فوجىء باستهزاء عمّه عبد العزى ابن عبد المطلب المعروف بأبي لهب ، فعرقل مسيرته بكلمته الهوجاء مخاطباً بني هاشم : « خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه قتلتم وإن تركتموه ذللتم ».ولكنّ أبا طالب ـ الرّجل المؤمن الفذ ردّ أبا لهب ردّاً عنيفاً بقوله :
« يا عورة ، والله لننصرنّه ثم لنعيننّه . يا ابن أخي ، إذا أردت ، أن تدعو إلى ربّك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح .. ».
وتتحدث أندية مكة بخبر محمد ( صلى الله عليه وآله ) ويؤلف أبو لهب حزباً لمقاومة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فكان يخرج إلى أحياء مكة واسواقها بحثاً عن محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وكلّما وجده مع قوم أفسد عليه أمره ومنعه من تبليغ رسالته ووقفت قريش في وجه محمد وأصحابه آخذة بمبدأ أبي لهب ـ العدوّ اللدود الطليعي ـ لله ورسالته ورسوله ، وكان أوّل ما فكرت به قريش هو اتباع الطريقة السلميّة في مواجهة الدعوة عن طريق مفاوضات تطفح بالمساومات والإغراء بالمال والجاه والسلطان.
وكان يمثل محمداً في هذه المفاوضات عمّه الوفيّ أبو طالب ، وكانت قريش تأمل أن يتنازل محمد عن دعوته تحت مطارق إغرائه بالمال وغيره ، ولكنّه صرّح بكلمة عنيفة وضح فيها تصميمه الثابت على دعوته لأنّها دعوة الله ، فلا تخضع للمساومات والإغراء :
« يا عمُّ ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي : على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه .... ».
وبهذه الكلمة الصّريحة الخالدة قطع محمد ( صلى الله عليه وآله ) هذه المفاوضات فارتدت قريش على أدبارها مهزومة ، وكان لا بدّ لها من تبرير لهزيمتها الفظيعة ، ففكرت باتّباع سياسة التنكيل والتشريد لأتباع محمد ( صلى الله عليه وآله ) حتى ينفضوا فتموت الدّعوة في مهدها ، ونفذ هذا المخطط بحذافيره ، فكانت أسواق مكّة تضج بهتاف الدّعاة الأبرار وهم يهتفون : أحد ، أحد وكان ضحية هذه الخطة الهوجاء ياسر وسمية حتى فارقا الحياة.
ويمر محمد على مسرح التّعذيب فيثير حماس الصّابرين بقوله : « صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنّة ».
فيزداد هتافهم لله حتّى تصعد أرواحهم إليه راضية مرضيّة ، ولم يقف التنكيل على أشخاص الصّحابة الأبرار وإنّما تعدّى إلى شخص الرّسول القائد نفسه حيث كان أبو لهب وزبانيته يلقون عليه الأحجار ويضعون الشّوك في طريقه ليلاً ، فكم كانت الدّماء تسيل من أعضائه الطاهرة ولكنّه يستقبلها بكلمته الهادئة : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ».


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page