كانت الزهراء عليها السلام نعم الزوجة لاَمير المؤمنين عليه السلام ما عصت له أمراً وما خالفته في شيء ولا خرجت بغير إذنه ، وكانت تعينه على طاعة الله تعالى ، وتؤثره على نفسها ، وتدخل عليه البهجة والسرور ، حتى إنّه إذا نظر إليها انكشفت عنه الهموم والأحزان .
جاء في روضة الواعظين أن الزهراء عليها السلام قالت في مرض موتها لاَمير المؤمنين عليه السلام : « يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » فقال عليه السلام : « معاذ الله! أنتِ أعلم بالله ، وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي » (1) .
وبالمقابل كان أمير المؤمنين عليه السلام نعم البعل للزهراء عليها السلام يغدق عليها من فيض حبّه وعطفه ، ويشعرها باخلاصه وودّه لها ، وما كان يغضبها ولا يكرهها على شيء قطّ ، وإن أرجف المرجفون على هذا البيت الطاهر بأراجيف شتى .
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « والله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزَّ وجلَّ . ولا أغضبتني ، ولا عصيت لي أمراً ، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان » (2) .
وضربت الزهراء عليها السلام أروع الأمثلة في الصبر على ألم المعاناة من العمل في داخل المنزل حتى إنّها كانت تغزل جزة الصوف بثلاثة آصع من شعير .
عن تفسير الثعلبي : أن عليّاً عليه السلام انطلق إلى يهودي يعالج الصوف ، فقال له :
« هل لك أن تعطيني جزةً من صوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة آصع من شعير؟ » قال : نعم . فأعطاه الصوف والشعير . فقبلت فاطمة عليها السلام وأطاعت ، وقامت إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص (3) .
وعن أنس ، قال : إنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « ماحبسك؟ » فقال : مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي ، فقلت لها : إن شئت كفيتك الرحا وكفيتني الصبي ، وان شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحال . فقالت : « أنا أرفق بابني منك » فذاك حبسني . قال : « رحمتها رحمك الله » (4) .
وفي مثل هذه الظروف القاهرة كانت عليها السلام لا تخرج منها غير كلمة الطاعة ، فحينما سألها أمير المؤمنين عليه السلام إطعام المسكين الذي طرق بيت الزهراء عليها السلام قالت :
« أمرك سمعٌ يابن عمّ وطاعة ما بي من لؤمٍ ولا وضاعة » (5)
ولا تتوانى ابنة الرسالة عن أداء مهامها في البيت طاعةً لزوجها على الرغم من حالة الفقر التي كانت تلفّ حياتها في بيت الزوجية ، حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام رقّ لحالها من شدّة ما تعانيه من أتعاب منزلية .
أخرج السيوطي في مسند فاطمة عليها السلام عن هبيرة ، عن علي عليه السلام ، قال :
« قلت لفاطمة عليها السلام : لو أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأليه خادماً ، فإنّه قد جهدك الطحن والعمل . . ؟ » (6) .
وعن الحسين بن علي ، عن أبيه علي عليهما السلام ، أنّه قال لفاطمة عليها السلام : « اذهبي إلى أبيك صلى الله عليه وآله وسلم ، فسليه يعطيك خادماً ، يقيك الرحى وحرّ التنور . . » (7) .
وعن علي بن أعبد ، قال : قال لي علي عليه السلام : « ألا أُحدّثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت من أحبّ أهله إليه؟ » قلت : بلى .
قال عليه السلام : « إنّها جرّت بالرحى حتى أثّرت في يدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها ، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها ، وأوقدتالقدرحتىدكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرّ ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خدمٌ ، فقلت : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً ، فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحيت فرجعت ، فأتاها من الغد ، فقال : ما كان حاجتك ؟ فسكتت ، فقلت : أُحدّثك يا رسول الله ، جرّت ندي عندي بالرحى حتى أثّرت في يدها ، وحملت بالقربة حتى أثّرت في نحرها ، وكسحت البيت حتى أغبرّت ثيابها ، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها ، فلمّا جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حرّ ما هي فيه .
قال : اتقي الله يا فاطمة ، وأدّي فريضة ربك ، وأعملي عمل أهلك ، إن أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين ، وأحمدي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم . فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، ولم يُخدمها » (8) .
____________
1) بحار الأنوار 43 : 191 | 20 .
2) كشف الغمة | الاربلي 1 : 363 . وبحار الأنوار 43 : 134 . ومناقب الخوارزمي : 247 .
3) إحقاق الحق | الشهيد التستري 10 : 264 مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، عن تفسير الثعلبي .
4) مسند أحمد 3 : 150 . ومجمع الزوائد 10 : 316 . وتاريخ دمشق 10 : 332 ـ دمشق . ومجموعة ورّام 2 : 230 .
5) تفسير فرات : 521 ـ طهران 1410 هـ . ومناقب ابن شهر آشوب 3 : 374 . وتذكرة الخواص 314 . وتفسير القرطبي 19 : 132 . واتحاف السائل : 105 .
6) مسند فاطمة عليها السلام | السيوطي : 102 عن ابن جرير .
7) مسند فاطمة عليها السلام | السيوطي : 103 عن أبي نعيم .
8) مسند فاطمة عليها السلام | السيوطي : 110 عن أبي داود ، والعسكري في المواعظ ، وأبي نعيم ، وعبدالله بن أحمد بن حنبل .
1 ـ الطاعة وحسن المعاشرة
- الزيارات: 1117