أما مازن، فإنه جاءني بعد عدة أيام، وهو يلعن اليوم الذي تعرف فيه الى نبيل، سألته:
ــ " لماذا؟ ".
قال:
ــ " إنه قد رحل ".
فانتفضتُ متعجباً:
ــ " رحل وسافر؟! ".
ــ " أجل، لقد رحل وإنك لتعلم.. كيف لمثلنا أن يرحل! إلاّ أن ما الومه عليه هو إنّه لِمَ لَم يخبرني، أين ذهبت الصداقة؟ وأية أُخوة هذه! وأية مودة؟ ".
فقلت له، ومن بعد صمت طويل، وبعد أن وجدته، قد أفرغ كُلّ ما كان في جعبته:
ــ " هذا مقصود كلامي، بل مصداق حديثي.. ".
ــ " أي حديث؟ ".
ــ " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدواً ".
ــ " ماذا تعني؟ ".
ــ " أعني.. ابن علاقتك مع اللّه وحده، لأنّ اللّه حي لا يموت، لأنّ اللّه،وحينما يعدل يفي بوعده، وهو لا يكذب، ولا يخون بالعهد، ولا يلبسك الخزي أبداً طالما كنت معه تنصره! وهذا لا يعني أن لا تصادق ولكن حاول أن تصادق في اللّه ".
ــ " تقول مثل هذا،.. لأنّ نبيل.. ".
قاطعته وأنا أقول:
ــ " لا.. ولكن نبيل، كان مصداقاً مصّغراً لآية المودة.. فكما نعرض عن مودة من أمرنا اللّه بمودتهم، فإنّه ليضعنا وجهاً لوجه مع آثار هذه الأعمال ونتائجها السيئة.. وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ".
ثُمّ رجع، وهو يتساءل:
ــ " أنت قلت: آية المودة؟ ".
ــ " أجل وهي: { قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى }. أما بقية الآية فهي: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }.
ــ " وما هي الآية التي تليها ".
ــ " وهي: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } ".
ــ " في أي سورة تقع؟ ".
ــ " إنها في سورة الشورى، الآية 23 ـ 24 ".
ــ " إنك قد صرفتني عن موضوع كنّا نتداوله؟ ".
ــ " نبيل! تقصد نبيل؟ ".
بعد دقائق كان مازن قد انصرف عنّي، وأنا اسمعه يردد:
ــ " لا يمكنك أن تستغل مثل هذه الأوضاع، لا يمكنك.. لا يمكنك أبداً فتضرب ضربتك.. وتضغط على الوتر الحسّاس! أنا لا أدري مع من تكون.. فهل أنت شيعي أم سني.. وإن أنا سألتك، قلت لي: إنّي أنا منصف.. لقد تأكّد لي أنك لا تريد سوى ايذائي، وجرح مشاعري، أووه!.. لعلك أنت الذي اضطررت نبيل إلى المغادرة، لأ نّه لم يطق تحمل تكاليف الحياة الى جانبك، وجانب أمثالك.. ثُمّ طوى مسيره، ولم يلتفت، بل قفل عائداً من حيث أتي، ولم أره بعد اليوم، لأ نّه هو الآخر، كان قد قرر الرحيل من غير عودة.. إلى حيث لا أدري ".
في حين تداعت إلى ذهني ذكريات حب فاشل، كنت قد عشتها في أيام المدرسة الاعدادية، حينما كنت أرفل بين مطاوي سنوات المراهقة الغضة.. ولربما ما كان فاشلاً، لأ نّه كُلّما كان للإنسان أن يعبّ من تجارب الحياة، كُلّما كان له أن يكسب حظوظاً أعظم! لأ نّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى حتّى ولو لم يحالفه النجاح، فإنّ سعيه هو خير شاهد ودليل على عظيم عمله.. فعسى أن نحب شيئاً وهو شرٌّ لنا، وعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا!.. فما كنتُ لأجد اللّه إلاّ حيث تستلفتني رغباتي حتّى كنت أجد من المحتم عليه أن ينصرني، ولا يدع الفرصة تذهب من يدي.. فأنال بغيتي واسعد بمن أحب وأهوى، فأتزوجها! إلاّ أن الأوضاع المادية، كان لها أن تخونني حتّى جاء اليوم الذي فصمت فيه اضراس الدهر عروة مثل هذه العلاقة المحرمة الشائكة. ولا أدري، كيف لي أن استذكر طعم تلك الأيام، وأنا ما أزال اجتر مآسيها، مع أ نّي جعلت أنساها اليوم، فلا أفكر فيها، إلاّ كما أفكر بماض ذهب.. وأن يعد، فإنّه ما كان له أن يعود كما كان أبداً. ولا أمر عليها إلاّ كما أمر على ذكريات اليتم! وربما أضحت في بعض الأحيان ذكريات سعيدة! لأ نّها تعود بي إلى الأمس البعيد.. وهذا الأخير بوسعه أن يورثني مزيداً من الصحة والعافية.. ربما ذقت مرارتها أخيراً، فوجدتها الواناً من الكذب، وذلك حالما فطنت إلى حقيقة مفادها أن اللّه لو ارجعني إلى مثل تلك الأيام، فهل كنت سأشعر آنذاك بسعادة غامرة، أو إنّي سأحسد نفسي على حظها غير العاثر، أو إنّي سأطلب من اللّه أن يحملني ثانية إلى المستقبل.. وينتشلني من وهدات هذا الماضي البائس بأضوائه الخافتة والباهتة.
كما أن قاسماً ما كان ليتوانى في عقد تلك المناظرات التي كنا قد اتفقنا على عقدها والتي ما كانت لتتناول سوى ما كنت قد صادرت عليه مسبقاً.. وهذا هو نفسه كان قد أثار عقلية قاسم هو بالذات، وهو الذي كان يجدني أكثر صرامة من غيري من إخواننا أهل السنة. بل إنّه كان يتطلع اليّ، كما لو كان يتطلع إلى أحد الشيعة المخلصين! وفي ذات يوم، ومن بعد أن أشعرني بأنّ العلاقة التي تربط بينه وبين خطيبته التي خلّفها في أرض الوطن هناك.. ما زالت قائمة! إلاّ انّه لا يطمح إلى سياسة الاستنزاف التي ربما استنزفت عمر الفتاة من دون أن تترك أيّما طائل تحتها.. لذلك، فإنه كان يجدّ في التفكير، لاجل الخروج إلى صورة حل ترضي اللّه ورسوله.. سعى إلى الاقدام على العمل بها، حالما تتوافر له الظروف المؤاتية.. كنت قد صرت إلى الحديث و.. فقلت له:
ــ " إني كنت قد تشيّعت منذ زمان بعيد.. إلاّ أ نّي ما كنت لاجسر على انتزاع هذا الجلد الذي يحيط بجسدي، أو أن أخرج من شرنقتي، فانسل منها دون أيّما أذي، أو ألم ربما أورثني في عقبه آلاماً مبرّحة، لا تنطوي معضلاتها مدى الأيام.. كمن لا يستأصل جسماً ما حتّى يضحي بعضو منه.. وذلك كيما يتيسر له اطلاقه من أسره! ولقد فضلت الأُخرى، وهي أن أنجو بنفسي، بكُلّ ذكرياتي، وكامل أيامي، وكافة لحظات عمري الماضية والقادمة، فلا أضحّي بأيّ منها حتّى السقيم منها.. أدّخرته، كيما أوظفه لسعادة النهارات التي انتظرها في ساعات الغد. صدّقني ما كنت لأجسر على التصريح بذلك حتّى استيقظت في ذات يوم، لاجدني كحال الذي شهد الجريمة، وهو لا يرغب في الإدلاء بشهاته التي لها أن تنقذ بريئاً من حبل المشنقة. بل وجدتني كحال الذي ما كان يجد المتهم سوى أخيه أو أحد المقربين له من أهليه. فايهما يختار، رضى اللّه، أم رضى العبد المقرب، أم ابتياع مودة اللّه ورسوله وأهل بيته، أم مودة أهل بيته والمقربين من عشيرته.. حتّى استفقت من كابوسي، وأنا أردد: اللّه ورسوله أحق أن ترضوه!! شعرت عندها بأني أسمع أصوات وتغاريد الملائكة، وهي تسبّح للّه، وتطلب منه أن يكتب لي نفس ثواب تسابيحها وابتهالاتها! ".
عندها كنت أشعر بأن أوهام عمري كان لها أن تتقضّى وبالتتابع وعلى شكل مراحل تمهيدية، كنت قد أحسست معها أن عمري قد جعل يصير ينشق عبيراً جديداً حتى بدا لي أن أنفاسه ما عادت تحكي لي إلاّ ما جعلت تنفثه في الهواء الطلق وهي تتنفّس الصعداء:
ــ " وانقضت أوهام العمر! ".
تمّت الرواية بعونه تعالى.
الفصل الثلاثون مازن ما بين افتقاده لمودة الصديق وافتقاده لآية المودة
- الزيارات: 1516