• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

كيف كانت البداية


كان البحث عن المنهج والفكر الناضج والثقافة المسؤولة صعباً، وكانت المرحلة مريرة، رغم أن بحثي كان بصورة عفوية وفطرية، ففي أثناء حياتي الطبيعية كنت أسأل وأناقش وغير ذلك، ولم يكن هناك تفرغ للبحث والمثابرة.
وبعد الغزو الوهابي العنيف على السودان، واشتداد المناظرات والمناقشات، وازدياد الحركة الدينية، انكشفت كثير من الحقائق، وظهرت كثير من الاختلافات والمفارقات التاريخية والعقائدية والفقهية، وبدأت عملية تفكير بعض الفرق وإخراجها من ربقة الإسلام، مما أدى إلى التمذهب وتباين الخطوط.
ورغم مرارة ما حدث، فقد وجدت بغيتي وازداد بحثي، وأصبحت أشعر بواقعية تلك الأسئلة العفوية التي كانت تراود ذهني.
فكثر اهتمامي بالوهابية، متابعاً لمناظراتهم ندواتهم التي كانت تشدني، وأهم ما تعلمته منهم فيتلك المرحلة، هي الجرأة وتحدي الواقع ومخالفته، فلقد كنت أعتقد أن الواقع مقدس لا يمكن التهجم عليه أو التعرض له، رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه التي غالباً ما كنت استشفها من جداني وفطرتي، فكنت أتحفظ على كثير من أفعال وممارسات المجتمع الديني.
فواصلت معهم المسير، ودار بيني وبينهم كثير من المناقشات، التي كانت في الواقع عبارة عن تلك الأسئلة التي كانت حائرة في ذهني، فوجدت لبعضها أجوبة أرضتني في تلك المرحلة، وأسئلة لم أجد لها أجوبة عندهم، فكان هذا كفيلاً بالنسبة لي أن أتعاطف معهم، وأشد أزرهم، مع بقاء بعض الملاحظات التي كانت حائلاً بيني وبين أن ألتزم تماماً بالمنهج الوهابي، أولها وأهمها أنني لم أجد عندهم ما يكفيني ويلبي طموحاتي الرسالية..، وكان الوسواس يأخذني أحياناً بقوله: إن الذي تفكر فيه وتبحث عنه شيء مثالي لا واقع له، وأن الوهابية أقرب نموذج للإسلام ولا بديل غيرها..
فكنت أنساق لهذا الوسواس وأصدقه، لعدم معرفتي بالأفكار والمدارس الأخرى، ولكن سرعان ما انتبه إلى أن الذي صنع جمال الدين لا يمكن أن يكون هذا الفكر الوهابي، فكنت أصرح: إن الوهابية هي أقرب الطرق إلى الإسلام ـ لما يقيمونه من أدلة ونصوص على صدق مذهبهم لم أشهدها في الطوائف الأخرى في السودان ـ ولكن مشكلتهم أن هذا المذهب الذي يتبنونه أشبه بقوانين الرياضيات، فهو عبارة عن قواعد وقوانين جامدة، تطبق من غير أن تكون لها انعكاسات حضارية واضحة في حياة الإنسان، وفي فن تعامله مع هذه الدنيا في شتى الأصعدة الفردية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية..، وحتى في كيفية العلاقة مع الله تعالى. بل العكس تماماً فكثيراً ما تجعل الإنسان متوحشاً في عزلة عن المجتمع بما يحمله من صكوك التكفير لكل قطاعاته، فلا يستطيع الواحد منهم أن يتعايش مع المجتمع فيتميز عنهم بلباسه وتصرفاته وفي كل جزئية من حياته، ولا يتآلف إلا مع أقرانه، فكنت أحس منهم الغرور والكبر والأنفة لأنهم ينظرون إلى الناس من شاهق عال، لا يتفاعلون معهم ولا يشاركونهم في حياتهم.
وكيف يشاركونهم؟!، وكل ما يفعله المجتمع بدعة وضلال.
وأنا أذكر جيداً عندما دخل المد الوهابي إلى قريتنا، ففي مدة قليلة ومن غير دراسة ووعي، انضمت مجموعة كبيرة من الشباب على الخط الوهابي، ثم لم يستمر الزمن كثيراً حتى تخلّوا عنه جميعاً، وكان هذا توقعي، لأن المذهب الجديد منعهم من مخالطة المجتمع وحرّم عليهم كثيراً من العادات التي تربوا عليها، وهي في الواقع لا تخالف الدين.
ومن الطريف أن أذكر، أن من الأشياء التي كان يعاني منها الشباب المنضمون إلى المذهب الوهابي، أنه كان من العادة في قريتنا أن الشباب في ليالي القمر يجلسون على الرمال الصافية ويتسامرون ويقضون أوقاتهم، وهي ساعة اللقاء الوحيدة لشباب القرية الذين يعملون طوال النهار في مزارعهم وأشغالهم المتعددة فكان شيخهم يمنعهم من ذلك ويحرّمه عليهم بحجة أن رسول الله (ص) حرَّمَ الجلوس في الطرقات، رغم أن هذه الأماكن لا تعتبر طرقات، وثانياً وهي مشكلة كل الوهابية، أن الواحد منهم بزمن قليل من تدينه وبقليل من العلم، يصبح مجتهداً يحق له أن يفتي في أي مسالة، وأذكر يوماً أن أحدهم كان جالساً معي أناقشه في كثير من الأمور، وفي أثناء النقاش انتفض قائماً بعدما سمع صوت أذان المغرب في مسجدهم، قلت له مهلاً نكمل حديثنا. قال: لا حديث، قد حان وقت الصلاة، هيا لنصلي في المسجد، قلت له: أنا أصلي في بيتي ـ رغم التزامي بالصلاة معهم ـ قال صارخاً: باطلة صلاتك. انذهلت من هذا القول.. وقبل أن استفسر أدار ظهره ليذهب. قلت له: مكانك، ما هو سبب بطلان صلاتي في البيت؟
قال (بكل افتخار وعجب): قال رسول الله (ص): لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. قلت له: لا خلاف في أفضلية صلاة الجماعة في المسجد، ولكن هذا لا يعني سلب صحة الصلاة في غير هذا الموضع، والحديث ناظر لتأكيد هذه الأفضلية لا لتبيين حكم الصلاة في البيت، والدليل على ذلك أننا لم نر في الفقه أن من مبطلات الصلاة الصلاة في البيت، ولم يفت أحد من الفقهاء في هذه المسألة، ثم ثانياً بأي حق تصدر هذه الأحكام؟! هل أنت فقيه؟!.. ومن الصعب جداً أن يفتي الإنسان ويبين حكماً لموضوع معين، فالفقيه يقم بدراسة كل النصوص في مثل هذا المورد، ويتعرف على دلالة الأمر والنهي في النص.. هل يدل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب، والنهي هل يدل على الحرمة أم الكراهة.. فهذا الدين عميق فأوغل فيه برفق.
بدا الانكسار في وجهه، وعبس وبسر ثم قال: أنت تؤول الحديث، والتأويل حرام.. وذهب..

فاحتسبت أمري لله من هذا الأحمق الذي لا يفهم شيئاً.

    الصفحة 17     
هذه العقلية المتحجرة، كانت هي السبب الثاني الذي حال بيني وبين أن أكون وهابياً، رغم أنني تأثرت بكثير من أفكارهم، فكنت أتبناها وأدافع عنها.

وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن تائهاً لا قرار لي ولا اتجاه، اقترب من الوهابية حيناً وأتبعد عنها حيناً آخر، ورأيت أن الحل الوحيد أمامي ـ بدلاً من الكلية العسكرية ـ ان أدرس في كلية أو جامعة إسلامية حتى أواصل بحثي بطريقة أكثر دقة وإمعاناً. وبعد امتحاني للجامعة، كانت هناك ستة رغبات من الجامعات والمعاهد التي رغب الطال في دراستها، فلم اختر غير الجامعات والكليات الإسلامية، وبالفعل تم قبولي في احد الكليات الإسلامية (وهي كلية الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة وادي النيل في السودان). فطرت بها فرحاً، وأعددت العدة لهذه المرحلة الجديدة في حياتي، وبعد أداء التدريب العسكري (الدفاع الشعبي) الذي لا يمكن دخول الجامعة إلا بعد الفراغ منه، بدأت الوفود من مختلف أنحاء السودان بالمجئ إلى الجامعة وكنت أنا من أولهم، وأثناء المقابلة سألني مدير الكلية عن شخصية أعجبت بها في حياتي؟ قلت له: جمال الدين الأفغاني، وأوضحت له سر إعجابي به..، فأبدى ارتياحه من كلامي، وبعد كثير من الأسئلة تمّ قبولي رسمياً في الكلية. وبعدها انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسعات الضخمة فأصبحت ملازماً لها، ولكن المشكلة التي واجهتني هي من أين أبدأ؟ وأي شيء أقرأ؟

وبقيت على هذا الحال، انتقل من كتاب إلى آخر.. وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً، فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهماً في البحث والتنقيب، وهو دراسة التاريخ وتتبع المذاهب الإسلامية لمعرفة الحق من بينها، وكان هذا الفتح توفيقاً إلهياً لم يكن في حسباني، عندما التقيت بقريبي عبد المنعم ـ وهو
    الصفحة 18     
خرّيج كلية القانون ـ في منزل ابن عمي في مدينة عطبرة، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد (من الأخوان المسلمين) الذي كان ضيفاً في البيت، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان.. وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش وهو في الأمور الدينية، فجلست بالقرب منهم أراقب تطورات المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التام رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجمه، لم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم: الشيعة كفّار وزنادقة...!!

هنا انتبهت، وأمعنت النظر، ودار في ذهني استفهام حائر..

من هم الشيعة؟ ولماذا هم كفّار؟

وهل عبد المنعم شيعي؟

وما يقوله من غريب الحديث، هل هو كلام الشيعة؟!

وللإنصاف إن عبد المنعم افحم خصمه في كل مسألة طُرحت في النقاش، بالإضافة إلى لباقة منطقه وقوة حجته.

وبعد الانتهاء من الحوار، وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم، وسألته بكل احترام: هل أنت شيعي؟.. ومن هم الشيعة؟ ومن أين تعرفت عليهم؟

قال: مهلاً. مهلاً.. سؤال بعد سؤال.

قلت له: عفواً، أنا ما زلت مذهولاً مما سمعته منك.

قال: هذا بحث طويل، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب مع الأسف لم تكن النتيجة متوقعة.

فقاطعته: أي نتيجة هذه؟.

قال: ركانُ من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل، هل ما عندنا من دين هو مراد الله تعالى، وهو
    الصفحة 19     
الإسلام؟ وبعد البحث اتضح أن الحق كان مع أبعد الطرق تصوراً في نظري وهم الشيعة.

قلت له: لعلك تعجلتَ... أو اشتبهت...!..

فابتسم في وجهي قائلاً: لماذا لا تبحث أنت بتأمل وصبر؟ وخاصة أن لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.

قلت (متعجباً): مكتبتنا سنية، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟!..

قال: من دلائل صدق التشيع أنه يستدل على صحته من كتب وروايات علماء السنة فإن فيها ما يظهر حقهم بأجلى الصور.

قلت: إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة؟!

قال: لا، فإن للشيعة مصادر خاصة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة كلها مروية عن أهل البيت عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم لا يحتجون على أهل السنة بروايات مصادرهم، لأنها غير ملزمة لهم فلا بدأن يحتجوا عليهم بما يثقون به، أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرني كلامه وزاد تفاعلي للبحث، قلت له: إذن كيف أبدأ؟

قال: هل يوجد في مكتبتكم ـ صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ـ؟

قلت: نعم، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.

قال: من هذه ابدأ، ثم تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التاريخ فإن في هذه الكتب أحاديث دالة على وجوب أتباع مدرسة أهل البيت.

وبدأ يسرد لي أمثلة منها، مع ذكر المصدر ورقم المجلد والصفحة....

توقفت حائراً، أستمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل مما جعلني أشك في أنها موجودة في كتب السنة.....ولكن سرعان ما قطع عني
    الصفحة 20     
هذا الشك، بقوله: سجل هذه الأحاديث عندك، ثم ابحثها في المكتبة ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page