• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الأول نظرية عدالة الصحابة عند الخلفاء وشيعتهم

عوامل نشأة النظرية ووظيفتها

نظرية عدالة الصحابة، في المعنى الذي استقر نهائياً في أذهان العامة والخاصة، من أهل السنة، نظرية غريبة عن الإسلام تماماً. وهي من اختراعات الخلفاء وأوليائهم عبر التاريخ، فقد سخر هؤلاء موارد دولة الخلافة التاريخية وإعلامها الضخم حتى حشوها في الأذهان، ثم ورثتها العامة كما ورثت بقية المعتقدات، وكذلك فعل الذين من بعدهم واعتبروها مسلمات، فوق مستوى العقل، وخارج نطاق عمله، لأنهم ورثوها أولئك العمالقة الذين فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها، وإعمال العقل في تلك الموروثات يشكل - برأيهم - سوء ظن بأولئك العظماء، ومحاولة لاتباع سبل غير سبيلهم! ونظراً لتعمق هذه القناعة في نفوس العامة واختلاطها إلى درجة الالتحام مع الدين الحنيف بفعل التراكمات التاريخية، فإننا نحتاج إلى جهد هائل لتصحيحها. ومن هنا كان لزاماً علينا أن نربط نشأة هذه النظرية ربطاً محكماً بالوقائع التاريخية والسنة النبوية العملية، وبالروح العامة للدين الحنيف وبالصراعات السياسية التي عصفت بالمجتمعات العربية عند ظهور النبي، وخلال مرحلتي الدعوة والدولة النبويتين، والتي كشرت عن نابها واشتدت والنبي على فراش الموت، ثم هاجت وماجت، وألقت أجرانها بعد موت النبي، ثم فرض المنتصرون رؤاهم وبناهم الفكرية والعقيدية على المحكومين بنفوذ الدولة وقوتها وإعلامها، وسنعالج هذا الارتباط الوثيق من خلال البحوث التالية:

مصطلح صحابة وصحابي

الصحابة جمع صحابي، واللفظان من مشتقات الكلمة الأصلية (أصحب) وتعني، لغة، عاشر، أو رافق، أو جالس أو شايع (1) والقرآن الكريم، في وجه من وجوهه هو المرجع اليقيني الأوثق للغة. وباستقراء الآيات القرآنية التي وردت فيها مشتقات الكلمة الأصلية (صحب أو صاحب) تجد أنها قد غطت بالكامل المعاني اللغوية التي أشرنا إليها، وقد تكررت هذه المشتقات في القرآن الكريم 97 مرة، وهي حصراً (تصاحبني، وصاحبهما، وصاحبته وأصحاب، وأصحابهم، وصاحبه...) ومن المثير للدهشة أن القرآن الكريم قد خلا من لفظي (صحابي وصحابة) (2).
وقد استعمل لفظ (أصحاب محمد) للدلالة على الذين سبقوا باعتناق الإسلام، أو تظاهروا بهذا الاعتناق، وكانوا يشكلون قلة وسط محيط عربي مجاهر بالشرك ومعارض لمحمد ولدينه. وهذه القلة هي التي سبقت الناس إلى الدخول في الإسلام والتي قامت دولة النبي بسواعدها، والتي تحملت أعباء المواجهة الأولى مع بطون قريش ومن والاها. لقد عرفت هذه القلة بأصحاب محمد أو بأصحاب الرسول أو بالأصحاب إطلاقاً، وبقيت تحمل هذا الوصف حتى بعد انتصار النبي وبعد أن دانت له العرب رغبة أو رهبة، ودخلوا جميعاً في دين الله أو تظاهروا بذلك. ومن هذه القلة فئة منافقة تظاهرت بالإسلام والإيمان عند قدوم النبي إلى المدينة المنورة، وفي الحقبة الزمنية التي بدأت فيها المواجهة المسلحة بين الرسول وأصحابه القلة وبين بطون قريش ومن والاها من العرب. ومع أن قلوب أولئك المنافقين كانت كافرة بالرسول، وبكل ما جاء به، إلا أنها كانت حريصة على إظهار الإسلام والإيمان، والقيام بجميع الواجبات المطلوبة ظاهرياً، وعندما كانت تتخلف عن ذلك أو تظهر بعض بوائقها، كانت تعتذر للرسول وتلح في الاعتذار حتى يعذرها. وكانت حريصة على التظاهر بموالاة الرسول في الوقت الذي كانت فيه قلوب أفرادها تقطر بالحقد عليه وعلى آله، وتتربص الفرص لنقض كلمة الإسلام من أصولها أو للانحراف بمساره عند الاقتضاء.
وقد قويت شوكة النفاق حتى صار ظاهرة من أخطر الظواهر التي هددت مجتمع الرسول. واحتل الهجوم عليها، وكشف وسائل المنافقين الخبيثة، وخطورة ظاهرة النفاق، وطبيعة نفسية المنافقين المريضة حيزاً كبيراً من القرآن الكريم، ومع هذا لم يكن هنالك تنزيل للمنافقين، فالجميع يقومون بالأعمال نفسها، ويرددون الألفاظ عينها، يضمهم مجتمع واحد هو مجتمع المدينة، ويدينون بالطاعة أو يتظاهرون بها لقائد واحد هو الرسول. وقد بلغ تغلغل المنافقين في مجتمع المدينة حداً يثير الذهول، فقد يكون الأب منافقاً والابن مؤمناً كحالة عبد الله بن أبي وابنة. لقد كانت المدينة المنورة عاصمة دولة النبي وفي الوقت نفسه المقر الرئيسي لمردة النفاق، وخارج نطاق دولة النبي ينظر للجميع على أساس أنهم أصحاب محمد، ويعرفون بهذا الوصف لأنهم سبقوا في دخول الإسلام، أو تظاهروا بهذا الدخول، ولأنهم كانوا جند النبي أثناء مرحلة المواجهة المسلحة الأولى أو تظاهروا بذلك.
وعند ما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس جميعاً في دين الله أفواجاً، وصار المجتمع العربي مجتمعاً إسلامياً، وصار النبي سيد الجميع وحاكمهم، بقيت الفئة القلية التي سبقت إلى الإسلام أو تظاهرت به، والتي خاضت غمار المواجهة أو تظاهرت بخوضها بقيت فئة متميزة من غيرها من المسلمين تعرف بالوصف السابق نفسه: (أصحاب محمد) من دون البحث الدقيق عن حقيقة نفاق المنافقين أو عمق إيمان المؤمنين من هذه القلة!
والثابت أن الرسول قال عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي: (فلعمري لنحسن حجته ما دام بين أظهرنا) (3). ولما اقترح بعض المسلمين على رسول الله أجاب بما معناه: (كيف يقال إن محمداً يقتل أصحابه؟!). وعند ما اقترح أسيد بن حضير على الرسول أن يقتل المنافقين الذين تآمروا على قتله، في أثناء عودته من غزوة تبوك، أجابه الرسول قائلا: (إني أكراه أن يقول الناس أن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه! فقال أسيد: يا رسول الله، فهؤلاء ليسوا أصحابا! قال الرسول: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال:
بلى ولا شهادة لهم! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى ولا شهادة لهم!
قال النبي: فقد نهيت أن أقتل أولئك) (4) وبعيد انتقال النبي إلى جوار ربه بقيت هذه الفئة - مؤمنها ومنافقها - متميزة من غيرها من فئات المجتمع الإسلامي معروفة بالوصف نفسه: (أصحاب محمد) أو (أصحاب رسول الله).

المنافقون والمرتزقة من الأعراب قوة كبرى

بعد استسلام زعامة بطون قريش، وبعد فتح مكة وسقوط عاصمة الشرك بيد رسول الله، ويعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجه المشركين وقيادتهم، ولم يبق إلا باب الإسلام، ولم يعد بإمكان أحد أن يجهر بشركه، ظهر النفاق في مكة وعلى نطاق واسع. ولما رأت القبائل العربية انهيار زعامة بطون قريش واستسلامها أدركت أن من الجنون استمرارها في عداوة محمد، وأدرك قسم من أفرادها أن محمداً صادق وأنه نبي، وتظاهر القسم الآخر بهذه القناعة. وهكذا فشت ظاهرة النفاق في مكة وفي الكثير من الجماعات السياسية التي كانت متحالفة مع زعامة بطون قريش على حرب النبي وعداوته، ولم يفتش النبي سرائر الناس وقبل منهم ظاهرهم. وبما أن المدينة المنورة قد أصبحت عاصمة الدولة، ومركز الجاه والنفوذ والثروة، فقد صارت نقطة تجمع لرعايا الدولة. واختلط منافقو مكة ومنافقو القبائل الجدد بمردة النفاق في المدينة، واكتشفوا أنهم قوة كبرى، وصمموا على التعاون والترابط لنقض كلمة الإسلام من أصولها إن استطاعوا أو تغيير مسارها الصحيح على أقل تقدير من خلال زعامة بطون قريش المعقدة من النبوة الهاشمية وفكرة الملك والخلافة الهاشمية. لقد فهم المنافقون أن علياً بن أبي طالب هو الولي الشرعي للأمة حسب ما أعلنه النبي وأن أحد عشر إماماً من ذرية النبي، ومن أولاد علي وأحفاده، سيتعاقبون على منصب الإمامة أو القيادة من بعد النبي وعلي.
وقد فهم المنافقون أن بطون قريش ال‍ 23 مستاءة من التميز الهاشمي، وأنها ترفض رفضاً قاطعاً الترتيبات الإلهية التي أعلنها النبي والمتعلقة بقيادةالأمة من بعده، وأن هذه البطون تنتظر موته وتعد العدة للقيام بانقلاب، وفي وقت، يطول أو يقصر، ستمد زعامة بطون قريش يدها للمنافقين، وتنشر ودهم ودعمهم. وعند ما لا يعمل بالنظام الإسلامي المتعلق بالقيادة ستبدأ المنظومة الحقوقية الإسلامية بالانهيار وسيتحول الإسلام إلى قشور، وهذا ما يتمناه المنافقون، لذلك أخذوا ينتظرون بفارغ الصبر موت النبي وإعلان البطون القريشية عن انقلابها الأسود! ليحققوا أهدافهم من خلالها. وإلى جانب المنافقين وقفت المرتزقة من الأعراب.

الحلف العملي وبقاء أصحاب محمد قلة

وهكذا تكون، عملياً وواقعياً، حلف مؤلف من:
1 - بطون قريش المصرة على إلغاء الترتيبات الإلهية.
2 - منافقي المدينة وما حولها ومكة وحلفائها السابقين.
3 - المرتزقة من الأعراب. وغاية الجميع واحدة، وهي إحداث التغيير الجوهري، في البنى السياسية التي أرساها النبي، على أن يكون التغيير تحت مظلة ثوب الإسلام وقشوره الخارجية.
ومن الناحيتين، العملية والواقعية، بقيت الفئة التي كانت تعرف ب‍ (أصحاب محمد (فئة قليلة تماماً كما كانت عندما بدأت المواجهة. والفرق أن أصحاب محمد كانوا يواجهون ويعيشون أقلية وسط محيط من المشركين يواجههم ويعاديهم ويحاربهم.
بينما كان (أصحاب محمد)، قبيل وفاة النبي، فئة قلية وسط المحيط الذي دخل الإسلام حديثاً أو تظاهر بالدخول. لقد صار (أصحاب محمد) كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود على حد تعبير معاوية بن أبي سفيان.

ارتباط مصطلح (أصحاب محمد) بالمواجهة

قلنا إن (أصحاب محمد) كانوا قلة وسط عالم عربي مشرك يناصبهم العداء، وبعد أن انتصر النبي صاروا قلة وسط عالم عربي حديث العهد بالإسلام. وقد ارتبط هذا المصطلح بحالة المواجهة التي جرت بين محمد وآله والقلة التي والته من جهة وبين بطون قريش ومن والاها من جهة أخرى بمعنى أن العالم العربي المشرك قد انقسم عملياً إلى معسكرين. أحدهما محمد وبنو هاشم (وأصحاب محمد القلة) وثانيهما الأمويون بخاصة وبطون قريش بعامة ومن والاهم من العرب. وبطون قريش لم تواجه محمداً وبني هاشم لتعبر عن ولائها وحبها لدين الشرك، أو خوفاً من دين الإسلام وكراهية له إنما واجهتهم لأنها اعتبرت النبوة زعامة وقيادة، وهي ترفض رفضاً مطلقاً نبوة بني هاشم وزعامتهم وقيادتهم، وقد قدرت أن النبوة والدين الجديد ما هما إلا غطاء استعمله محمد والهاشميون لنسف الصيغة السياسية الجاهلية القائمة على اقتسام مناصب الشرف بين بطون قريش، وكيد كاده الهاشميون ليتفردوا بكل الشرف والفخر، وليحرموا بطون قريش منها!
لذلك هانت على بطون قريش معاداة محمد وبني هاشم ومعاداة أوليائهم (أصحاب محمد) فلم تواجه (أصحاب محمد) لأنهم تركوا دين الشرك، أو لأنهم دخلوا في الإسلام الذي جاء به محمد، إنما واجهتهم لأنهم تبرعوا من دون الناس بتأييد (المطامع الهاشمية والبغي الهاشمي المتمثل بمحاولة محمد والهاشميين التفرد بالقيادة والفخر والشرف وحرمان بطون قريش من هذا كله) هذا هو سر اندفاع بطون قريش في عداوة محمد والهاشميين، و (عداوة أصحاب محمد) الذين شكلوا مع النبي ومع الهاشميين طرف المواجهة الآخر، وتحملوا المشاق والمتاعب وكافة آثار تلك المواجهة الأليمة.

هزيمة البطون القريشية

واجهت بطون قريش محمداً وآله (وأصحاب محمد) بضراوة بالغة وجرعتهم أمر كؤوس العذاب، خلال مدة ال‍ 23 عاماً أو ال‍ 15 عاماً التي قضاها النبي في مكة قبل الهجرة، وتوجت البطون تلك المرحلة بمؤامرة جماعية استهدفت حياة النبي. لكن المؤامرة فشلت، ونجح النبي في هجرته. وبسرعة مذهلة، كون النبي جبهة إسلامية في يثرب تتألف: 1 - من مهاجري مكة، 2 - ومن مسلمي قبيلتي الأوس والخزرج ومن والاهم، 3 - ومن المتظاهرين منهم بالإسلام (المنافقون).
عرف هؤلاء جميعاً (بأصحاب محمد)، وبهم خاض النبي غمار المواجهة المسلحة مع بطون قريش وطواغيت الكفر والشرك في الجزيرة العربية، تلك المواجهة المسلحة التي استمرت ثماني سنين، نشبت خلالها بين الطرفين معارك دامية أبرزها بدر وأحد والخندق قتل فيها أشجع أبناء البطون، وطائفة من آل محمد ومن خيرة أصحابه. لقد استماتت بطون قريش للقضاء على التميز الهاشمي، وإطفاء نور الله، فلم تترك طريقاً من طرق الصد والمقاومة، ولا فناً من فنون الحرب إلا جربته. فاستعدت العرب والموالي واليهود. وتحالف معهم، ووضعت جميع مواردها وطاقاتها، وضحت بخيرة أبنائها لهدف محدد، وهو القضاء على محمد ودينه، لكنها فشلت وأفلست، وفوجئت صبيحة أحد الأيام بجيش محمد يحيط بمكة من كل جانب، واكتشفت أن جميع الأبواب قد أغلقت في وجهها، فاستسلمت عسكرياً، ثم أسلمت أو تظاهرت بالإسلام، وسقطت عاصمة الشرك نهائياً. وبانتصار النبي في حنين، وباستسلام الطائف ; أصبحت الجزيرة العربية كلها إقليماً لدولة النبي المترامية الأطراف، وأصبح سكان الجزيرة العربية رعايا الدولة. وأصبحت (أصحاب محمد) (القلة) الذين خاضوا معه غمار مواجهة أركان الدولة التي كان نبي الله على رأسها، وانتهت المواجهة رسمياً.

الجرح الراعف والحقد الدفين

صحيح أن بطون قريش قد استسلمت عسكرياً بعد صراع مع النبي دام 23 عاماً، وصحيح أيضاً أنها أسلمت أو تظاهرت بالإسلام، وتلفظت بالشهادتين بعيد استسلامها وهزيمتها. لكن ليس في الدنيا كلها عاقل واحد يمكن أن يصدق أن إسلام البطون، في هذه الظروف، أو تظاهرها بالإسلام قادر على إزالة شعورها بالاحباط والهزيمة، أو إعادة الحياة لأبنائها الذين قتلهم محمد وآله وأصحابه أثناء المعارك الدامية التي جرت بين الطرفين. فالبطون جميعها، وبخاصة البطنين:
الأموي والمخزومي، قد وترت بأبنائها، وفاضت قلوبها بالحقد على محمد وآله ومن والاهم موالاة صادقة. ساذج فقط هو الذي يصدق أن التلفظ بالشهادتين له القدرة على محو الآثار النفسية العميقة لصراع دموي ومرير إستمر 23 عاماً! والأهم أن التلفظ بالشهادتين غير كاف لجعل بطون قريش تتخلى عن أهدافها وغاياتها من مواجهتها للنبي المتمثلة (برفضها المطلق للنبوة والزعامة الهاشمية) وكيف يقر لها قرار، محمد الهاشمي يتربع على قمة الهرم، ويعلن ليل نهار أن الإمام من بعده هو علي بن أبي طالب، الفارس العجيب الذي فجع البطون بأبنائها يليه في الإمامة أحد عشر إماماً من ذرية النبي ومن نسل علي جميعهم من بني هاشم! جميع هذه الحقائق والذكريات شكلت في قلب كل واحد من أبناء البطون جرحاً راعضاً، وربت حقداً دفيناً إلا من امتحن الله قلبه للإيمان منهم، وهم قليل، جد قليل.

إعادة تقويم الموقف والاعتراف بالمعطيات الجديدة

وضعت الحرب أوزارها باستسلام البطون، والتقى المهاجرون والطلقاء من أبنائها بعد أن اجتمع شمل الجميع تحت خيمة الإسلام الواسعة، وتذكروا الآباء والأبناء والأخوة والأعمام والأخوال الذين قتلهم محمد وآله وأصحابه! ولم تكن للبطون قدرة على الاعتراض، لأنها مهزومة، وقد تعلمت، خلال حقبة المواجهة، أن محمداً سينتصر دائماً، وأن أي مواجهة معه مصيرها الفشل الذريع.
ومن هنا صارت العافية مرهونة بالصمت وإخفاء حقيقة ما في النفوس. واستذكر أبناء البطون أن النبوة الهاشمية صارت قدراً لا مفر منه وأن لا محيص من اعترافهم بهذه النبوة، وأن الصيغة الجاهلية السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف قد تمزقت نهائياً، وأن الهاشميين قد تفردوا بكل الفخر والشرف فالنبي منهم، ومحمد لا يتوقف عن الإعلان بأن الولي من بعدة هو علي بن أبي طالب ومن بعده أحد عشر إماماً جميعهم من ذرية النبي الهاشمي ومن نسل علي الهاشمي أيضاً. وكلما تذكروا ذلك وتذاكروا به اجتاحت قلوبهم موجات هائلة من المشاعر التي يختلط بها كل شئ: الحقد والحسد والوتر والإحباط والشعور بالهزيمة الماضي والحاضر، الإسلام والشرك والدنيا والآخرة. وأسفرت هذه المشاعر المتناقضة عن شعور بالمرارة، ورغبة هائلة بالتغيير، ولكن تحت مظلة الإسلام فمحمد وآله وأصحابه ما زالوا قلة، كانوا قلة وسط بحر من الشرك وصاروا بعد الانتصار قلة وسط بحر من حديثي الإسلام! فتحت مظلة الإسلام ستعود الأمور إلى مجاريها الجاهلية، فتتأخر القلة، وتتقدم الأكثرية، ويعود التوازن الذي اختل لصالح البطن الهاشمي. هذا هو الهدف الكبير الذي التفت حوله بطون قريش: مهاجرها وطليقها بعد الاستسلام والهزيمة، بمعنى أن همها قد انحصر في إلغاء جميع الترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب الإمامة أو القيادة التي أعلنها النبي، وتجريد الهاشميين على المدي البعيد من جميع حقوقهم السياسية، والقضاء التام على مكانتهم المتميزة، وتحجيم (أصحاب محمد)، وبخاصة المعروفين بحبهم وبولائهم لآله، وإبعادهم كلياً عن مراكز التأثير وتسليط الأضواء على قلتهم، وعدم فاعليتهم، والحط العملي من قيمتهم تحت شعارات مختلفة لغاية في نفس يعقوب.

أساليب أبناء بطون قريش لتحقيق غاياتهم تحت مظلة الإسلام

1 - بعد انتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، صارت النبوة في نظر بطون قريش، وسيلة للملك وطريقاً لسيادتها على العرب. لذلك لم يعد في مصلحتها أن تنكر هذه النبوة. فاعترف أبناؤها بها وأعلنوا أنها لم تعد موضوعاً للنقاش، فهي حقيقة من حقائق الحياة السياسية العربية، فمحمد نبي ورسول وصاحب ملك.
2 - وحيث أن الهاشميين قد اختصوا بالنبوة وأخذوها، وهي شرف عظيم، واعترفت لهم جميع البطون بهذا الشرف خالصاً، فليس من العدل أن يأخذوا الملك (أن يكونوا خلفاء من بعد النبي) لأن معنى هذا أن يجمعوا النبوة والملك ويحرموا البطون من هذين الشرفين معاً. والأصوب والأبعد عن الإجحاف أن تكون النبوة لنبي هاشم خاصة لا يشاركهم فيها أحد من البطون، وأن تكون خلافة النبي (الملك) للبطون خاصة لا يشاركهم فيها أي هاشمي قط. وعلى هذا أجمعوا. وأبرز منظري هذا المبدأ اثنان هما: أبو بكر الخليفة الأول، وعمر بن الخطاب الخليفة الثاني (5).
أما النصوص النبوية المتواترة التي نصت على أن الإمام علياً بن أبي طالب وأحد عشر إماماً من ذرية النبي، ومن نسل علي، هم الأئمة الشرعيون للأمة من بعد النبي، فقد عدها أبناء البطون غير ملزمة، وغير معقولة لعدة أسباب منها: 1 - أن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضى ولا ينبغي أن يحمل كلامه كله على محمل الجد (6)! وعلى هذا الأساس أهملت بطون قريش جميع النصوص النبوية التي نظمت أمر الولاية من بعد النبي. ومن جهة ثانية فإنه لا علم للبطون بأن القرآن قد تطرق لهذه الناحية. والأمر الملزم للبطون هو القرآن وحده ولا حاجة لقول النبي ولا لوصاياه في أمور لم يعالجها القرآن. ولقد جهر عمر بن الخطاب بهذه القناعة أمام الرسول نفسه، وأيده أبناء البطون فحالوا بين الرسول وبين كتابة توجيهاته النهائية، بحجة أن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لتوجيهات الرسول ولا لوصاياه لأنهم أدركوا أن هذه التوجيهات ستبطل كيدهم (7) وفي هذا السياق، وطمعاً بطمس جميع النصوص النبوية المتعلقة بخلافة النبي منع خلفاء البطون الرعية من أن تحدث عن رسول الله، وجمعوا الأحاديث التي كتبها الناس عنه وأمروا بتمزيقها (8)!
3 - إضفاء هالة من التقديس تفوق التصور والوصف على أبناء البطون البارزين، ومعاملتهم باحترام يفوق احترامهم للرسل والأنبياء، والتماس الأعذار لأخطائهم وهفواتهم وتقديمهم للأمة جنباً إلى جنب مع النبي لهم سنن واجبة الاتباع تماماً كسنة الرسول. وإذا تعارضت سننهم مع سنن الرسول ترجح سنن أبناء البطون، ويمكن للواحد من هؤلاء البارزين أن يقول للرسول وجهاً لوجه: (أنت تهجر ولا حاجة لنا بوصيتك) فتصفق جميع البطون لهذا القائل وتؤيده، وتقول أمام الرسول: (إن الرسول يهجر والقول ما قاله عمر)، كما حدث يوم الرزية والنبي على فراش الموت (9).
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، كانت سنة الرسول جارية على تقسيم المال بين الناس بالسوية، ولما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب رأى أن سنة الرسول في هذا المجال ليست مناسبة وأن الأنسب إعطاء الناس من الأموال حسب منازلهم بمقاييس عمر. وهكذا فعل فصفقت له أبناء البطون وصفق الناس من خلفهم، وأشاد الجميع بعبقرية عمر وعدله وتركه لسنة رسول الله، وجاء القوشجي في (شرح التجريد) وابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) فوضعوا النقاط على الحروف وقالوا بكل صراحة: (إن الرسول مجتهد وعمر مجتهد!! ومن حق المجتهد أن يخالف مجتهداً آخر)!
وكانوا يشترطون على الخليفة الجديد أن يعمل بسنة الرسول وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فسنة الرسول وحدها غير كافية! ولو كانت كافية لما كان هنا لك داع لسنة الشيخين!
وفي هذا السياق، أنت ترى أن العشرة المبشرين بالجنة جميعهم من أبناء البطون، ولم تعترف البطون، رسمياً، بأي مبشر بالجنة غيرهم، وقد شاع هذا الخير وانتشر وأصبح من المسلمات مع أنه من أحاديث الآحاد!
وقد ترجح الشخصية البارزة، من أبناء البطون، على الرسول نفسه صراحة، فهذا زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم الخليفة عمر يزور رسول الله قبل البعثة، فيقدم له الرسول مائدة فيها لحم، فيرفض زيد أن يأكل من مائدة الرسول، فيسأله الرسول عن سبب ذلك، فيقول زيد له: (إني لا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه) (10) فهم يصورون زيداً كأنه أحوط وأفضل من رسول الله! ولقد نجحت بطون قريش في تصدير هذه العقيدة وتعميمها حتى صارت من المسلمات. فإذا أراد العامة أن يرمزوا لفكرة العدل يقولون: (عدل عمر). ولا يقولون عدل محمد أو عدل الرسول! والأهم من ذلك أن حب أشخاص معينين من أبناء البطون صار جزءاً من العقيدة، فلو التزم مؤمن بالإيمان تماماً، ولكنه كان يرى أن علياً بن أبي طالب أوغيره أولى بالخلافة من أبي بكر أو عمر أو عثمان لكانت هذه كافية للتشكيك بكل إيمانه وحتى بدينه، ونعته بكل النعوت التي تطرده من الجماعة، وتسلط غضب العامة عليه، فيقال (أنه رافضي خبيث)، أو (شيعي مقيت)، أو (طاعن ملعون بالصحابة الكرام).
4 - الحشد وانتظار موت النبي بعد أن استسلمت بطون قريش وبعد التقاء المهاجرين والطلقاء على هدفهم الجديد، بدأ الحشد والإعداد لتحقيق الهدف.
وفي هذا السياق، صارت كلمة أبناء البطون واحدة فاتحدت مثل اتحادها عندما أعلن الرسول دعوته في مكة، ولكن هذه المرة تحت خيمة الإسلام، فإذا تكلمت شخصية بارزة من أبنائها تقف جميعها خلفه وتردد ما قالته، وموقف البطون وتأييدها لعمر بن الخطاب والنبي على فراش الموت وترديدها خلفه: (إن النبي يهجر، ولا حاجة لنا بوصيته، والقرآن وحده يكفينا) دليل قاطع على صحة ما ذكرناه.
وفي مجال الحشد، مدت البطون يدها للمنافقين، فلم يرو لنا التاريخ كله أن أحداً من المنافقين قد عارض أي خليفة من خلفاء البطون، لقد شكلوا مع البطون جبهة واحدة ولكن تحت خيمة الإسلام هذه المرة. كذلك استغلت البطون الخلاف العشائري بين الأوس والخزرج ووطدت علاقاتها بأسيد بن حضير وطائفة من قومه وشيعتهم بعقيدتها مما سهل وهون على أسيد أن يشترك في اليوم الثاني لوفاة الرسول بسرية غايتها إحراق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه، وفيه علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين سبطا رسول الله!!
وفي هذا السياق، مدت البطون يدها للمرتزقة من الأعراب فوعدتهم ومنتهم وتحالفت معهم وانتظرت وإياهم موت الرسول بفارغ الصبر. أنظر إلى قول عمر:
(ما أن رأيت أسلم حتى أيقنت بالنصر) فهو يعلم أن قبيلة أسلم معه تؤيده وتؤيد حزبه.
وهكذا شكلت بطون قريش جبهة تضم أبناءها والمنافقين والمغرر بهم من الأنصار والمرتزقة من الأعراب، ولهذه الجبهة غاية واحدة هي إقصاء آل محمد وأهل بيت النبوة عن خلافة الرسول والاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر، واعتبار التغلب هو الطريق الأوحد لتولي هذا المنصب.

النبي وأهل بيته وأصحابه قلة من جديد

وفي الجانب الآخر، وجد النبي وأهل بيته وأصحابه المخلصين أنفسهم (قلة) من جديد، وعليهم أن يواجهوا واقعاً جديداً، فجميع بطون قريش والمنافقون والمغرر بهم من الأنصار والمرتزقة من الأعراب في صف واحد متحد ومتراص ولكن تحت خيمة الإسلام، ولهم هدف محدد واضح يتلخص بإلغاء الترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب القيادة أو الولاية أو الإمامة من بعد الرسول، وكان هذا التجمع من القوة بحيث أنه حال بين الرسول وبين كتابة ما أراد أثناء مرضه، وأن هذا التجمع قد واجه الرسول في بيته، وفرض رأيه فرضاً، وبهذا أخرجوا الرسول من دائرة التأثير على الأحداث، وعطلوا عملياً دوره كقائد للأمة. لقد أمر الرسول بتجهيز حملة أسند قيادتها إلى أسامة بن زيد وطلب من الحملة أن تتحرك فوراً وأن تغادر المدينة، ولكن أقطاب التجمع فطنوا لخطة النبي، فتثاقلوا وثبطوا الناس، ونجحوا في تأخير مسيرة الحملة، وتفويت الحكمة من وقت تسييرها، كل هذا يجري وتجمع البطون ومن والاها يكرر الشهادتين والاعتراف التام بالنبوة والرسالة، ولكن تحت شعار (حسبنا كتاب الله). هذا هو المناخ الذي أو جده تجمع البطون قبل استيلائه على منصب الإمامة بالقوة والتغلب والقهر.

النجاح الساحق

انتقل الرسول إلى جوار ربه، وانشغل الآل الكرام وأهل بيت النبوة الطاهرين بتجهيز جثمانه الطاهر لمواراته في ضريحه الأقدس. وخلال هذه المدة تجمع قادة التحالف، ونصبوا خليفة منهم متجاهلين بالكامل جميع النصوص النبوية التي عالجت منصب خلافة النبي، وصار التحالف جيشاً للخليفة، وصار قادته قادة لدولة الخليفة، وقبضوا سريعاً على المال والجاه والنفوذ ثم زحفوا إلى مسجد النبي، زافين الخليفة، زفاً ليواجهوا الولي الشرعي وأهل بيت النبوة ومن تبقى معهم من الصحابة الكرام بالأمر الواقع، وليحصلوا بالقوة على بيعة من لم يبايع، ومن لم يبايعهم مصيره الموت، حتى لو كان علياً بن أبي طالب، ومن يتكتل ضدهم سيحرقونه حياً حتى لو كانت فاطمة بنت محمد، أو الحسن والحسين سبطا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليثبتوا جديتهم بالفعل جمعوا الحطب وهموا بإشعال النار ببيت فاطمة بنت محمد، وكادوا يحرقونه على من فيه لو لا لطف الله تعالى، وفوجئ الناس بهذه القسوة البالغة التي لم يعهدوها في عهد الرسول ولا حتى في الجاهلية، فأقبلوا على البيعة حفظاً لحياتهم ومصالحهم.
وهكذا نجح قادة تحالف البطون نجاحاً ساحقاً بالاستيلاء على منصب الخلافة من بعد الرسول بالحشد والقوة والتغلب والقهر، ومواجهة كل من يقف في دربهم حتى ولو كان الرسول نفسه، واتحدت أغلبية الأمة وراءهم رغبة أو رهبة، ولم يتخلف عن بيعتهم إلا علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وبنو هاشم كما يروي البخاري، أو بعض الشخصيات البارزة كسعد بن عبادة، وقد هم قادة التحالف بقتله عند امتناعه عن البيعة مباشرة، ولكنه خشوا عواقب ذلك، وفي ما بعد أصدر عمر بن الخطاب أمراً بقتله وقتل فعلاً. وقد صورت وسائل إعلام البطون المتخلفين عن البيعة بصورة الشاقين لعصا الطاعة، والمفارقين للجماعة!
ولو لا لطف الله لقتلوا علياً بن أبي طالب، ولأحرق أهل بيت النبوة وهم أحياء!
ولكن عقلاء البطون رأوا أن من الأنسب عزل أهل بيت النبوة اجتماعياً، وتجريدهم من كافة حقوقهم السياسية، وتركيعهم اقتصادياً! فهذا أجدى وأنفع من القتل في تلك المرحلة! وفي هذا السياق تم تجريد أهل بيت النبوة من جميع ممتلكاتهم، وتم حرمانهم من ميراث النبي، ومن كافة المنح التي أعطاها لهم الرسول حال حياته، وتم حرمانهم من الخمس المخصص له في آية محكمة، ولأسباب إنسانية وعد الخليفة الأول بتقديم المأكل والمشرب لهم (11).

مؤامرة بطون قريش وانقلابها

إن تجاهل بطون قريش للترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية المتعلقة بمنصب الإمامة، أو القيادة أو الخلافة من بعد النبي، واستيلائها على هذا المنصب من طريق الحشد والقوة والتغلب والقهر، هو في حقيقة انقلاب حقيقي تمخض ن إلغاء جميع الترتيبات والنصوص الشرعية المتعلقة بظاهرة السلطة، ولم يبق من هذه الترتيبات والنصوص إلا القشور أو تلك التي يمكن تأويلها لصالح خليفة البطون!
وترتب على إلغاء الترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية وضع ترتيبات وضعية جديدة، واعتبار ما فعله الانقلابيون بمثابة سوابق شرعية، أو نصوص قانونية. ولم يكتف الانقلابيون بذلك إنما ألغوا المرجعية التي اختارها الله ورسوله، وعدوا أنفسهم - بالقوة والقهر - مرجعية بديلة!
لقد أكد الرسول أن الهدى لا يدرك إلا بالثقلين: كتاب الله وعترة النبي أهل بيته كما هو ثابت من حديث الثقلين وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بهذين الثقلين، لأن كل واحد منهما متكامل مع الآخر ومتمم له، ولا يستقيم الإسلام إلا بهما، وهما الثقل القانوني أو الحقوقي المتمثل بالقرآن وبيان النبي لهذا القرآن، والثقل الشخصي المتمثل بعترة النبي أهل بيته، فهم القيادة والمرجعية في كل زمان، وهم المعدون والمؤهلون إلهياً لفهم القرآن فهماً قائماً على الجزم واليقين، فما يقولون هو المقصود الإلهي من هذا النص، فضلاً عن ذلك فإن أئمة أهل بيت النبوة هم وحدهم الذين أحاطوا بالبيان النبوي لأنهم تلقوه مباشرة عن رسول الله.
وجاء الانقلابيون، أو قادة بطون قريش، وألغوا هذه المرجعية، وأعلنوا بكل صلف وصراحة، أن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لأهل بيت النبوة، وتجاهلوا حديث الثقلين وأحاديث الإمامة والولاية والخلافة، تماماً كما فعلوا مع الرسول يوم أراد أن يكتب توجيهاته النهائية. إذ حضروا من دون دعوة، وما أن قال الرسول: قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حتى تجاهلوا قوله، وقال عمر بن الخطاب للحاضرين، من بطون قريش: إن الرسول قد هجر، ولا حاجة لنا بكتابه حسبنا كتاب الله، وتصرف كأن الرسول غير موجود. عندئذ ردد رجالات البطون من خلفه: القول ما قاله عمر، إن الرسول يهجر حسبنا كتاب الله، وتصرفوا، أيضاً، كأن الرسول غير موجود، وكانوا هم الأكثرية فأثاروا لغطاً شديداً وخلافاً مما اضطر الرسول لأن يصرف الجميع.
وبعد موت الرسول، رتبت البطون أمرها وألغت مرجعية ربها وتجاهلت وجودها تماماً، كما تجاهلت وجود النبي. ولم تكتف بذلك إنما حاصرت أهل بيت النبوة وجردتهم من ممتلكاتهم ومن كافة حقوقهم المدنية والسياسية وحاصرتهم اقتصادياً وعزلتهم اجتماعياً.
وترتب على نجاح الانقلابيين إبعاد الرسول عن التأثير على الأحداث، فقد منعوا الرعية من التحديث عنه، ومنعوا كتابة أحاديثه وأحرقوا المكتوب منها، وصارت كلمة خليفة البطون وأركان دولته هي الكلمة العليا، وهي القول الفصل، واقتصر دور الدين كله على تجميل هذا الواقع وتسويغه. وكل ذلك يجري تحت خيمة الإسلام، وباسمه.

البحث عن عقائد جديدة

صحيح أن بطون قريش ال‍ 23، مهاجرهم وطليقهم، صف واحد وجبهة متراصة واحدة. وصحيح، أيضاً، أنهم تحالفوا مع المنافقين ووقفوا جميعاً قلباً وقالباً إرغاماً لأنف النبي وأنوف آله، وصحيح أيضاً أن المرتزقة من الأعراب أيدوا بطون قريش لأنها المالكة للمال والنفوذ والجاه. وصحيح أيضاً أن البطون نجحت في استغلال الخلاف بين الأوس والخزرج وضمت إلى صفوفها قطاعاً واسعاً من الأنصار. وصحيح أيضاً أن البطون عزلت علياً وأهل بيت النبوة وبني هاشم ومواليهم اجتماعياً، فعادوا قلة مستضعفة. وصحيح أن خليفة البطون غدا في أوج قدرته، وأن دولته مستقرة وتبسط سلطانها على الجميع بالقوة. لكن أركان هذا التحالف أدركوا أن القوة وحدها ليست كافية لتضمن بقاء: دولة البطون ولتحقيق قناعة الرعية بشرعية هذه الدولة، وأن افتقار خليفة البطون إلى عقيدة تشكل نقطة ضعف. وفي وقت يطول أو يقصر سيستغل الهاشميون هذه النقطة لصالحهم، لذلك بدأ قادة البطون بالبحث عن عقائد يمكن لها أن تشكل نظرية تعمل جنباً إلى جنب مع بطون قريش ومع خليفتها وجيشها لتقوية دولتها ودوامها. وقد اخترع خلفاء البطون مجموعة كبيرة من النظريات السياسية، تصب في خانة إضفاء الشرعية على دولتهم من خلال وضع نظرية تنتظم مع القوة والتغلب والقهر لإيجاد حالة عامة من القناعة بشرعية دولة البطون أو إسلاميتها. ومن أسس هذه النظرية:
1 - قرابة النبي:
زعم قادة البطون وأولياؤهم في سقيفة بني ساعدة، أنهم أولى بالنبي لأنهم أهله وعشيرته، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رجل من قريش، وبطون قريش أولى بملكه وسلطانه! وفي المفاجأة، وتخطيط البطون المسبق، وتحالفها مع المنافقين والمرتزقة من الأعراب، واستغلالها للخلاف بين الأوس والخزرج، وفي غياب أهل بيت النبوة، انطلت هذه المقولة إلى حين، ولم يكن لأحد من الحاضرين مصلحة في أن يقول للبطون: إذا كنتم أولى بالنبي حقاً، وأقاربه بالفعل فلم قاومتموه خمسة عشر عاماً في مكة قبل الهجرة؟ ولم حاصرتموه وبني هاشم وبني المطلب ثلاث سنين في شعاب أبي طالب وقاطعتموه؟ ولم تآمرتم على قتله، ثم جيشتم الجيوش واستعديتم عليه العرب واليهود وحاربتموه ثماني سنوات!؟
2 - مقولة الشورى:
وبعد أن قبضت البطون عملياً على مقاليد الأمور، وواجهت ولي الأمر وبني هاشم بأمر واقع لا قبل لهم بتغييره، ادعى قادة البطون أن الأمر أو الخلافة أو القيادة أو الإمامة من بعد النبي شورى واختيار، ومن حق المسلمين اختيار من شاءوا لهذا المنصب، وقد اختار المسلمون ابن البطون البار، وصاحب الرسول وصهره، أبا بكر الصديق، وقد اختاره الجميع ولم يعترض عليه إلا الولي وأهل بيت النبوة، وبنو هاشم وحفنة قليلة من أوليائهم! وقد قامت هذه النظرية عند ما انهارت نظرية قرابة النبي، بحجة أن أهل البيت هم الأولى بالنبي حياً وميتاً، وليس من مصلحة أحد أن يحرق نفسه ومستقبله فيقول للخليفة أو لقادة البطون: ما هي طبيعة هذه الشورى التي تجري في غياب علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وبني هاشم وأكثرية الأنصار؟ وأكثرية المسلمين؟ وهل هذه شورى عندما تواجه هؤلاء جميعاً بأمر واقع وتقول لهم: إما أن تبايعوا أو تقتلوا أو تحرقوا، أو تحرموا من كافة حقوقكم! أهذه هي الشورى والاختيار بمفهومكم!؟
3 - التخلية، أو ترك الأمة بدون راع:
تجاهل قادة بطون قريش جميع الترتيبات الإلهية والنصوص الشرعية التي بينت الولي أو القائد أو الإمام من بعد النبي، وكيفية انتقال منصب الإمامة من إمام إلى إمام، وزعموا أن رسول الله قد ترك الأمة دون أن يعين راعياً لها من بعده، أو خلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم من يرونه مناسباً! ومن هذا المنطق اختار المسلمون خليفة البطون الأول! وليس لأحد من المسلمين مصلحة في أن يقول لقادة البطون: طالما أن الرسول قد خلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم، فلماذا لا تعتدون به وتخلوا على الناس أمرهم كما خلي؟ لقد عهد أبو بكر بالخلافة لعمر، وعهد عمر بالخلافة عملياً لعثمان! وطوال تاريخ دولة البطون لم يمت خليفة قبل أن يعهد بالخلافة لمن يليه، وكل هذا يشكل نقيضاً ونقضاً لنظرية التخلية التي بذلت البطون جهوداً هائلة لتعميمها على العامة.
4 - مقولة (حسبنا كتاب الله):
تعد هذه المقولة من أخطر المقولات اخترعها خلفاء البطون وأولياؤهم لإخراج النبي بذاته وفعله وقوله من دائرة التأثير على الحدث السياسي، ولإبطال جميع النصوص الشرعية التي أعلنها والمتعلقة بالقيادة أو الإمامة من بعده. وأول من نادى بهذه المقولة هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فعند ما شعر هو وأركان بطون قريش أن الرسول يريد أن يكتب توجيهاته النهائية، قدروا أن مواجهة توثيق الرسول الخطي عملية صعبة، وبالتالي فإن هذا التوثيق قد يقلب كافة مخططاتهم، لذلك استماتوا ليحولوا بين الرسول وبين كتابة توجيهاته النهائية.
لكن هذا حشد عمر أركان البطون ودخلوا إلى بيت الرسول في الوقت المحدد لكتابة توجيهاته النهائية، وما أن قال الرسول لأوليائه (قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبدا) حتى قال عمر لأوليائه: إن الرسول يهجر ولا حاجة لنا بكتابه، حسبنا كتاب الله. وعلى الفور ردد أركان البطون من خلف عمر: القول ما قاله عمر إن الرسول يهجر حسبنا كتاب الله!! وخلق عمر وأركان البطون مناخاً من الفوضى والاختلاف صارت الكتابة فيه أمراً مستحيلاً (12) وعند ما قبض أركان البطون على السلطة منعوا رسمياً رواية أحاديث الرسول وكتابتها وأحرقوا المكتوب منها علناً.
وكان هدفهم واضحاً ومنصباً على طمس جميع النصوص التي تشير إلى الإمام من بعد النبي. وكان معاوية أكثر وضوحاً عند ما حصر المنع بالنصوص التي تذكر فضل (أبي تراب وأهل بيته)، على حد تعبيره.

الخلفاء المقدسون

نجحت البطون في تجاهل الترتيبات الإلهية المتعلقة بالقيادة، ونجحت بالاستيلاء على منصب الخلافة بالتغلب والقهر، وقبض خليفة البطون وأولياؤه على السلطة بيد من حديد، وحجموا كل من يعارضهم وعزلوه وحرموه ونكلوا بخصومهم، فقد هددوا علياً بن أبي طالب بالقتل، وهو ابن عم النبي وزوج ابنته البتول ووالد سبطيه، وشرعوا بإحراق بيت بنت الرسول فاطمة وهي سيدة نساء العالمين وفيه الحسن والحسين سبطا النبي، وهددوا بقتل سعد بن عبادة، ثم قتل بأمر الخليفة في ما بعد، مع أنه سيد الخزرج وحامل لواء النبي وموضع ثقته!
وقتلوا مالك بن نويرة، الصحابي الجليل الذي ولاه النبي أمور قومه، للاشتباه بعدم إخلاصه لخليفة البطون، وجردوا أهل بيت النبوة من جميع ممتلكاتهم ومن المنح التي أعطاها لهم الرسول حال حياته، وحرموهم من تركة النبي، ومن حقهم بالخمس، مع أنهم أحد الثقلين!
إذا كانت هذه معاملة البطون لعلية القوم وأشرافهم وأهل الدين والسابقة ممن يشتبهون بولائهم للخليفة فكيف تكون معاملتهم للمستضعفين وعامة الناس!؟
بهذه الأساليب الموغلة بالقسوة؟ وبالترغيب بالمال والجاه وبنصيب من السلطة، استقامت الأمور لدولة البطون وانقاد لهم الناس رغبة أو رهبة. لم تنتظر البطون طويلاً إنما جيشوا الجيوش لإشغال المسلمين بالحرب، وتوسيع رقعة الملك، ونشر الإسلام على طريقتهم. في هذا الوقت نفسه كانت شخصية النبي الفذة، وسمعته العطرة، وعدله العجيب، ومعاملته الفريدة لخصومه ومعارضيه، وتساويه بمستوى المعيشة نمط الحياة مع المملوكين، وسرعته المذهلة بتوحيد العرب ونقلهم من دين إلى دين، كانت قد شقت طريقها بين شعوب الدولتين الأعظم، وسبقت جيوش خليفة البطون، وخلقت حالة من التعاطف العميق مع هذه الجيوش، على اعتبار أنها جيوش خليفة النبي والأمل بإنقاذ الشعوب المظلومة من جلاديها! لذلك لم تجد جيوش الخليفة مقاومة تذكر، فهزمت الدولتين الأعظم وبسطت سلطانها على الأقاليم، وتوالت الانتصارات، وأثرت جيوش الخليفة، فتعجب المسلمون من قدرة الخليفة وقدرة جيوشه المظفرة، وأعجبهم ما حدث، وحتى الذين كانوا يرونه غاصباً للسلطة غضوا النظر عن ذلك أمام هذه الانتصارات، وألقي في روع الناس أن الله مع الخليفة وأن الله قد أتاه الملك لأنه يستحقه، وزاد من افتتان المسلمين بالخليفة البطل، إنه لم يغير كثيراً من مستوى معيشته، بل ألزم نفسه بنمط معتدل منها، ما أذهل عامة المسلمين، وملأ قلوبهم حباً وإعجاباً للخليفتين الأول والثاني ولجيوشهما المظفرة التي دكت عروش الأكاسرة والقياصرة، وألحقت بهم أشنع الهزائم، وصار الخليفة شخصاً مقدساً، وفوق كل الشبهات، ووضعت الجموع المعجبة الرجلين عملياً على قدم المساواة مع النبي نفسه، بل ورجحت الرجلين على النبي فقد يخطئ النبي لأنه بشر، ولا تجد الجموع المعجبة غضاضة من وصف النبي بالخطأ، لكن لا أحد في الدنيا يجرؤ على القول: أن أحد الخليفتين أو كلاهما قد أخطأ، لأن العناية الإلهية تدعمها، وإذا اختلف أحد الخليفتين مع النبي شخصياً، كأن أصدر النبي أمراً، فأبدى أحدهما رأياً معارضاً لأمره وحكمه، فإن البطون آلياً تقف مع أحدهما ضده وترجح رأيه على حكم النبي! وأبرز مثال على ذلك ما حدث في بيت النبي أثناء مرضه.
وبعد أن انتقل النبي إلى جوار ربه لم تتغير الأمور، فإذا رأى أحد الخليفتين أن سنة من سنن الرسول ليست مناسبة برأيه، فإنه يلغيها ويحل رأيه محلها فتصفق له البطون وتؤيده وتبعاً لتأييد البطون تؤيده القوى المنافقة، والمرتزقة من الأعراب، فتتعرى القلة المؤمنة وتنكشف، فتؤيده تبعاً لتأييد الجميع حفظاً لحياتها. كان الرسول يوزع بين الناس بالسوية وكذلك فعل أبو بكر، فجاء عمر فألغى سنة المساواة وأعطى الناس حسب منازلهم عنده. هذا مثال على ما أسلفنا، ومثال آخر، صعد عمر بن الخطاب يوماً على المنبر وخطب الناس قائلاً: (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء).
ويأتي الأولياء والأنصار فيحشرون كل مواهبهم لتسويغ قرار الخليفة وإثبات عبقريته وحكمته. الناس اليوم إذا أرادوا أن يرمزوا للعدل قالوا: (عدل عمر)، ولا يقال عدل الرسول! مع أن رسول الله أعدل من مل ء الأرض من أمثال عمر. وما يعنينا أن هذه النظرية أسهمت في إرساء حكم البطون وإضفاء الشرعية على ما فعلت وكانت جزءاً من عقيدة متكاملة حاولت البطون وضعها لتسويغ ما فعلت.

نظرية عدالة جميع الصحابة

أ - الأسباب الموجبة لاختلافها:
اكتشفت البطون وهن نظرياتها، وعجزها عن تكوين عقيدة مقنعة، لها القدرة على دعم حكمها وتثبيته. لقد انهارت مقولة القرابة، فلم يعد بوسع عاقل في الدنيا أن يصدق أن بني تيم وبني عدي وبني أمية أقرب للنبي من بني هاشم!
مثلما انهارت نظرية الشورى، فالخليفة الغالب يعهد لمن يخلفه، ودور الأمة منحصر بمبايعته، وانهارت مقولة التخلية، لأن الخلفاء أنفسهم لم يعملوا بها، وعدوا موت الواحد منهم من دون تعيين من يخلفه كارثة! وانهارت مقولة حسبنا كتاب الله فكتاب الله لا يغني عن رسول الله فكلاهما متمم للآخر ومضى الخلفاء الراشدون ولم تبق إلا ذكرياتهم وحل محلهم خلفاء غير راشدين! لقد انهارت المفاصل الأساسية للنظرية التي بناها رواد البطون واقتصرت علاقة البطون - كطبقة حاكمة - بالمحكومين علي العطاء والسيف والمشاركة بالسلطة إنه حكم بلا عقيدة تذكر. وليس له أساس إلا ظواهر الشرعية لقد أدركت البطون أن نذر زوال حكمها قد أقبلت، وأن حكمها قائم على البطش والقوة، فإذا ولت القوة ولى حكمها، وآل إلى أعداء البطون الألداء: أهل بيت النبوة، وبخاصة أن (محمدا) قبل موته قد ربط أهل بيت النبوة بالدين ربطاً محكماً عبر شبكة من بيانه، حتى أن الصلاة لا تقبل من عبد مسلم إن لم يصل على محمد وآل محمد، والمسلمون جميعهم يعرفون حديث الثقلين الذي أعلنه النبي في غدير خم، فقد أكد النبي أن الهدى لن يدرك إلا بهذين الثقلين: كتاب الله وعترة النبي أهل بيته وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالثقلين معاً، بالإضافة إلى مئات النصوص النبوية التي تبين التأهيل الإلهي لأئمة أهل البيت أو عمدائهم، وقد تحدث لقرآن في الكثير من الآيات عن خصوصية أهل بيت النبوة وأئمتهم، كآية التطهير وآية المباهلة وآية ذوي القربى إضافة إلى قرابتهم القريبة من النبي، ودورهم البارز في نصرة النبي.
وقد مات الخلفاء المقدسون الذين أوتوا المكانة والجرأة لمواجهة أهل بيت النبوة علناً، وهزيمتهم وإذلالهم، ولم يبق لبطون قريش غير قوة الدولة، وهذه القوة ستعجز عن الوقوف أمام تميز أهل بيت النبوة ومرجعيتهم ومكانتهم في الدين وقربهم من الرسول. لكل هذا وجدت البطون نفسها مضطرة لاختلاق نظرية جديدة لتحل محل النظريات السابقة، وتكون بمثابة عقيدة يستند إليها حكم البطون وفي الوقت نفسه تكون أسلوباً عملياً لتحجيم دور أهل بيت النبوة، وتقزيم مكانتهم فاهتدوا لاختلاق نظرية عدالة كل الصحابة، بالمعنى الذي فهمه الخلفاء وأولياؤهم!
ب - أهداف اختلاقها:
تنحصر أهداف بطون قريش من اختراع هذه النظرية بما يلي:
1 - إيجاد عقيدة دينية سياسية يستند إليها حكم البطون، فتكون هذه العقيدة، مع القوة، ضمانة لوجود الدولة واستمرارها ومسوغاً شرعياً ظاهرياً لإقصاء أهل بيت النبوة عن حقهم في قيادة الأمة.
2 - القضاء التام على مكانة أهل بيت النبوة ومرجعيتهم من خلال إيجاد مرجعية كبرى أو مرجعيات دينية تقف على قدم المساواة مع مرجعية أهل بيت النبوة، والقضاء التام على تميز أئمة أهل بيت النبوة وتفويت الحكمة الإلهية من إعدادهم وتأهيلهم إلهياً لقيادة الأمة، فبموجب هذه النظرية يصبح إمام أهل بيت النبوة مجرد صحابي من جملة تسعمائة ألف صحابي! فعلي بن أبي طالب صحابي، وأبو سفيان صحابي! والوليد بن عقبة صحابي! وما قيمة معارضة أهل بيت النبوة جميعهم، ولا يتجاوزون الثلاثين أمام إجماع تسعمائة ألف صحابي؟!
وما قيمة فتوى إمام أهل بيت النبوة أمام تسعمائة ألف فتوى؟! أو فتوى يجمع على صحتها تسعمائة ألف صحابي!؟
وفي هذه الحالة يصبح أهل بيت النبوة شذاذاً ومبتدعة على حد تعبير ابن خلدون! فما قيمة إجماع أهل بيت النبوة الذين لم يتجاوز عددهم الثلاثين مع إجماع الصحابة الذين تجاوز عددهم التسعمائة ألف!؟
فأي عاقل في دنيا البطون يمكن أن يكذب تسعمائة ألف ويصدق ثلاثين!؟ أو يترك الكثرة والجاه والنفوذ والسلطة ويقف مع القلة الفقيرة المعدمة التي لا تملك إلا حقاً موضع شك واستنكار! ومن هنا كان اختراع نظرية عدالة الصحابة فيض عبقرية تفوق التصور والتصديق! وهي بحق أعظم النظريات التي اخترعها قادة البطون وأولياؤهم 3 - خلط الأوراق وتضييع الحقائق وتمييعها، وهذا الهدف من صميم مصلحة البطون، فالمعروف تاريخياً أن بطون قريش هي التي قاومت النبي طوال حقبة الدعوة في مكة بجميع وسائل المقاومة، وتآمرت على قتله وطاردته يوم هاجر إلى يثرب. ثم استعدت عليه العرب وجيشت الجيوش ودخلت معه في حرب مسلحة، ولم تتوقف عن حربه إلا بعد أحاط بها، فاستسلمت عسكرياً.
وبموجب نظرية عدالة الصحابة فإن أبناء البطون جميعهم يصبحون صحابة تماماً مثل الذين سبقوا إلى الإيمان، فالمهاجر كالطليق ومن قاتل النبي بجميع وسائل القتال طوال 23 عاماً تماماً مثل الذي قاتل مع النبي، لا فرق بينهما فهي سواسية كأسنان المشط. فالجميع صحابة، وفتوى الصحابي الجليل الذي رافق النبي طوال حياته تماماً كفتوى الصحابي الطليق الذي قاتل النبي حتى أحيط به وبقي يجهل أحكام الدين. والخليفة والفقيه حر في اتباع فتوى أي صحابي! كان للدين مرجع واحد خلال حياة النبي وهو النبي نفسه، وبعد وفاة النبي إمام أهل بيت النبوة، وباختراع نظرية عدالة الصحابة صار للدين عملياً تسعمئة مرجع، فاختلطت الأوراق وضاعت الحقائق، وتغيرت المواقع، فتقدم المتأخرون الذي قاوموا الإسلام وحاربوه خلال 21 عاماً من عهد النبوة، وتأخر المتقدمون الذين قامت دولة الإسلام على أكتافهم وتحملوا أعباء المواجهة، فصار معاوية بن أبي سفيان أميراً وهو الطليق ابن الطليق وأحد رؤوس الأحزاب، وابن قائد الأحزاب! وصار علياً بن أبي طالب مأموراً، وهو فارس الإسلام الأوحد في كل معاركه، وابن عم النبي وزوج ابنته البتول، ووالد سبطيه وولي الأمة وقائدها الشرعي، وفوق ذلك ابن أبي طالب شيخ البطاح الذي ربي النبي، وحماه طوال مدة وجوده في مكة.
فمعاوية يتكلم وعلى علي بن أبي طالب أن يصغي! وصار مروان بن الحكم أميراً وخليفة للمسلمين، وهو اللعين بن اللعين في كتاب الله وعلى لسان رسوله، وصار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو مأمورين وعليهما أن يطيعا، ومن لا يطيع يرفسه مروان حتى يكسر أضلاعه ويترك في حالة بين الموت والحياة، كما فعل بعمار، ويخرج أبو ذر الصحابي الجليل مذموماً مدحوراً منفياً من مدينة الرسول من دون أن يقوى أحد على توديعه! لقد سوغت نظرية عدالة الصحابة جميع أفعال البطون التي تغضب وجه الله الكريم وجعلت عالي كل سافلة فحل الظن والتخمين محل الجزم واليقين، واختلطت الأمور اختلاطاً عجيباً، فصار الجاهل عادلاً تماماً كالعالم والمقتول عادلاً تماماً كالقاتل، وصار ولي الله كالفاسق تماماً، فالوليد بن عقبة فاسق بنص القرآن، وعلي بن أبي طالب مؤمن وولي لله بنص القرآن، ولكن بموجب نظرية عدالة الصحابة صار الوليد بن عقبة تماماً كعلي فكلاهما صحابي وكلاهما من العدول، ولأن الوليد بن عقبة معروف وأبوه بعداوتهما لرسول الله وأهل بيته، فقد تقدم الوليد وتأخر علي فكأن مفتاح التقدم هو عمق العداوة لرسول الله وأهل بيته، فكل الذين أبرزهم الخلفاء كانوا بارزين بعداوتهم لرسول الله.
4 - نظرية عدالة كل الصحابة تستفيد منها الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة، فبموجب هذه النظرية التي اخترعها قادة البطون، صار كل الشعب صحابة: الرجال والنساء والأطفال، والعرب والموالي، الأعمى والبصير، وأعلنت عدالة هؤلاء جميعهم بمختلف وسائل الإعلام. فمن المعروف أن جميع سكان الجزيرة - ما عدا جزء من اليهود - قد أسلموا أو تظاهروا بالإسلام، ولم يمت الرسول وفي الجزيرة شخص واحد يجهر بشركه، فالكل قد أسلم على يد الرسول أو تظاهر بالإسلام والكل قد شاهد الرسول أو سمع منه أو رآه، وهذه هي المعايير التي وضعتها البطون للصحبة بمعنى أن كل الشعب كان مسلماً وكل الشعب كان صحابة (13)!
وهكذا أوجدت البطون الحوافر لتتمسك الأكثرية بهذه النظرية، ولتعدها نظرية شعبية، من ينتقص منها فإنما ينتقص من حقوق الشعب، ويصادر العفو الإلهي! فمن سرق في زمن النبي أو زنى، أو شرب الخمر، أو نافق صار بموجب هذه النظرية من الصحابة، وصار منزها وعادلاً ومن أهل الجنة! وصار من حق الخليفة أو الفقيه أي يأخذ برأي أي فرد من أفراد الشعب لأن أفراده الذين عاصروا النبي كلهم عدول! وعممت هذه النظرية بمختلف وسائل الإعلام حتى عدها أفراد الشعب حقوقاً شخصية تستحق الاحترام، وامتدت هذه الحقوق الشخصية إلى الأبناء والمعاشرين والأولياء!
ورضيت الأكثرية الساحقة من الشعب بهذا الاختراع وصارت لها مصلحة في حكم دولة البطون، وتعاونت منة عدالة كل الصحابة مع منن العطايا والصلات والمشاركة بالسلطة والنفوذ، وحققت لبطون قريش مرادها ومناها إذ صار لها عقيدة دينية يتبناها الشعب كله إلا شر ذمة قليلة! وتم عزل أعداء البطون
(أهل بيت النبوة) عملياً، ونكلت بهم السلطة تنكيلاً من دون استنكار يتناسب مع حجم هذا العزل والتنكيل. وصار الولاء لدولة البطون مقياس الشرف ومفتاح الأمن والخير في الدنيا، وصار أهل بيت النبوة مجرد قلة قليلة أو عدد محدود جداً من الصحابة من شعب كله صحابة! وجميع أفراده عدول! ولم يتغير وضع أهل بيت النبوة بعد موت جميع الصحابة، فصار لأولاد أهل بيت النبوة المقام نفسه الذي كان لآبائهم في مجتمع الصحابة الذي صنعت البطون عقائده ورؤاه!
ج - معاوية بن أبي سفيان يضفي على النظرية طابعاً دينياً
معاوية من أكثر الناس حقداً على أهل بيت النبوة، فقد قتل علي بن أبي طالب وحمزة عم النبي أخاه وجده وخاله وابن خاله شقيق جده وتسعة من شيوخ بني أمية، لذلك كان قلبه وقلب أبيه وقلب أمه وأكثرية قلوب البيت الأموي طافحة بالحقد الأسود على محمد وعلى آل محمد وعلى البيت الهاشمي بعامة. فقاد أبوه مقاومة محمد. وعندما أحيط بهم، وسقطت عاصمة الشرك، وأغلقت كل الأبواب، ولم يبق إلا باب الإسلام، استسلم أبو سفيان وبنوه وأقاربه وأسلموا أو تظاهروا بالإسلام، فعفا عنهم النبي، وسماهم بالطلقاء، وجعلهم من المؤلفة قلوبهم. ويلوح لي أن البطن الأموي، ومنه معاوية وأبوه، برأوا ساحة النبي من قتل (الأحبة) وعصموا دماءهم بعلي بن أبي طالب وذريته. ولما نجحت البطون بالاستيلاء على السلطة، ورغبة في عزل البيت الهاشمي والانفراد به عين الخليفة الأول يزيد بن أبي سفيان قائداً لجيوش الشام، ويزيد هذا كأخيه طليق وابن طليق ومن المؤلفة قلوبهم، وعندما مات يزيد حل محله معاوية، وفي وقت طال أم قصر صار معاوية والياً لبلاد الشام كلها، وهي درة ملك خلافة البطون، ومات الخليفة الأول ومعاوية على ولايته، وجاء الثاني وقتل، وهو على ولايته يجمع من الأموال ما يشاء، ويصرف منها ما يشاء من دون حسيب أو رقيب. وجاء الخليفة الثالث، وهو دنف بهوى الأمويين لأنه أموي، لذلك جعل الأمويين بطانة له، وسلمهم مقاليد أمور الدولة عملياً. خلال هذه الآونة الطويلة توطد أمر معاوية وتألق نجمه.
وفي عهد عثمان أصبح معاوية ملكاً حقيقياً على أعظم ولاية من ولايات دولة البطون الكبرى، ولكنه ملك غير معلن، ولما قتل الخليفة الثالث، وآلت الأمور إلى علي بن أبي طالب قاتل الأحبة جن جنون البطون، وأصحاب الامتيازات والمنافقين. فنهد معاوية وصمم على مواجهة الإمام علي وعلى قيادة الجموع الحاقدة على آل محمد وأهل بيته، ولكن تحت خيمة الإسلام فرفع شعار (معاقبة قتلة الخليفة عثمان) وكان قد أعد واستعد لهذه المواجهة، واختياره والياً لأعظم الولايات الإسلامية وإطلاق يده في ولايته هو من قبيل إعداد الخلفاء لهذا الرجل، وتجهيل معاوية لأهل الشام وجمعه الأموال الطائلة وتجنيده إياهم هو من قبيل الأعداد.
كان سكان ولاية بلاد الشام يجهلون الدين وتاريخه وبناته، ولا يعرفون من ذلك إلا القشور التي ألقاها لهم معاوية، وكانوا بمثابة جند مجندة له يأمرهم فيطيعوا ويمكن أن يصلي الجمعة فيهم يوم الأربعاء كما فعل! لقد كان معاوية موضع ثقة الخلفاء الثلاثة ورجلهم الذي أعدوه لمواجهة (طموحات وطمع أهل بيت النبوة بالرئاسة). وليس من المستبعد أنهم قد استفادوا من دهاء معاوية وذكائه في جهدهم الحثيث لإيجاد نظرية تحجم أهل بيت النبوة وتضفي الشرعية على حكم خلفاء البطون. ولا شك في أن معاوية كغيره من قادة البطون قد استشعر وهن النظريات التي اخترعوها كنظرية القرابة، ونظرية التخلية ونظرية الشورى.. الخ فلم يعد في الأرض مجنون واحد يمكنه أن يصدق بأن بني تيم وبني عدي وبني أمية أقرب إلى النبي من بني هاشم، وأن الخلفاء الثلاثة أقرب إلى النبي من ابن عمه ووالد سبطيه وزوج ابنته علي بن أبي طالب، مما يجعل من نظرية القرابة استهتاراً بالعقل واستغفالاً للناس. وهكذا بقيت النظريات التي اخترعوها. ومن هنا صمم قادة البطون، بقيادة معاوية، على إيجاد عقيدة تدعم حكمهم وتدمر إلى الأبد تميز أهل بيت النبوة، وصمموا على فرضها ورعايتها بكل قوتهم وسلطانهم، وإضفاء الطابع الديني عليها وجعلها عقيدة عامة لكل رعايا دولة البطون، وهذا ما فعله معاوية ; إذ جند دولته وولاة أقاليمه، وكل سلطان ووسائل إعلامه لنشر نظرية عدالة جميع الصحابة وفرضها على العامة والخاصة، وقاد بنفسه حملة كبرى لوضع الأحاديث على رسول الله واختلاقها وإقناع الناس بأنها صحيحة، وأن محمداً قد قالها بالفعل وصولاً إلى خلط الأوراق، وتصوير نظرية عدالة الصحابة بأنها جزء لا يتجزأ من الحديث إن لم تكن الدين نفسه! وجعل من قتل عثمان ومن شعار المطالبة بثأره ومعاقبة قتلته المناسبة لنشر هذه العقيدة. فأصدر سلسلة من (المراسيم الملكية) لكافة عماله وأمرهم بتنفيذ عدة أمور منها:
1 - أن يقدموا العطايا والصلات ويمنحوا المنح والإقطاعات وأن يقربوا كل من يروي في فضائل عثمان والخلفاء، فتسابق الناس على الرواية في فضل الخلفاء وفضائل عثمان بخاصة وتكفلت وسائل إعلام دولته بنشر هذه المرويات وتصميمها على الناس حتى استوعبها الجميع: الخاصة والعامة، الرجال والنساء، السادة والعبيد، الكبار والصغار، ووضعت هذه المرويات الخلفاء بعامة وعثمان بخاصة في موضع لا يدانيه الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون!
2 - لما وصلت تلك الروايات إلى حد الإشباع والاستيعاب، وفاقت حدود التصور والتصديق، أمر معاوية جميع عماله في مختلف الأقاليم، أن يوقفوا الرواية
في فضل عثمان، وليكتفوا بما تجمع من الروايات. وأمرهم بأن يقربوا مجلس الذين يروون في فضائل الصحابة مجتمعين ومنفردين ويغدقوا العطايا والصلات والمنح والإقطاعات عليهم وطمعاً في ثواب معاوية ورضاه وأمواله انشقت الأرض فجأة عن آلاف الرواة الذين جعلوا للصحابة فضائل لا تعد ولا تحصى، وجعلوا للصحابة مجتمعين فضائل تساوي فضائل الأنبياء والشهداء والصديقين أو تفوقها واستندت هذه الفضائل إلى أحاديث أسندها الرواة إلى رسول الله، فأصبح كل واحد من الصحابة مرجعاً قائماً بذاته، واختلقوا على الرسول قولاً مفاده:
(أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم!!) وهكذا صار للأمة تسعمئة ألف نجم، ويمكن للأمة أن تنقسم إلى تسعمئة ألف قسم، لتسير في تسعمئة ألف اتجاه. ومع هذا تكون مهتدية! ومرة أخرى، تكلفت وسائل إعلام الدولة بنشر هذه المرويات، وتعميمها على الناس حتى استوعبها الجميع وصارت عقيدة لكل أفراد الأمة، مع أن الأكثرية الساحقة من هذه الأحاديث مختلفة ولا أساس لها من الصحة إطلاقاً، ومعاوية وولاته يعلمون ذلك ويدعمونه! قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه، وهو من أكابر المحدثين: (إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم) (14).
3 - واستكمالاً لبناء عقيدة دولة البطون، وتوضيحاً للهدف من اختلاق نظرية عدالة جميع الصحابة، وبعد أن تأكد معاوية وأركان دولته أن بحار الروايات الكاذبة في فضل عثمان والخلفاء والصحابة والتي اختلقوها على رسول الله قد غمرت المجتمع، وأروت الأرض، وأن الناس جميعاً حفظوها واستوعبوها، واقتنعوا بها أو تظاهروا بالاقتناع، أدرك معاوية أن نظرية عدالة جميع الصحابة صارت بالفعل عقيدة رسمية للأمة وأن الصحابة مجتمعين قد صاروا مرجعية بديلة من مرجعية أهل بيت النبوة، وصار كل واحد من الصحابة له القيمة نفسها التي أعطاها النبي لإمام أهل بيت النبوة! عندئذ أدرك معاوية أن الحلقة لن تكتمل إلا إذا مزق رداء الهيبة والقداسة الذي خلعه الشارع الحكيم على إمام الأمة علي بن أبي طالب، وشكك بشرعية مرجعية أهل بيت النبوة وبالأسس التي قامت عليها هذه الشرعية. وتحقيقاً لهذه الأهداف أصدر معاوية (المراسيم الملكية التالية وأمر كل عماله في كل أقاليم الدولة أن ينفذوها بدقة:
أ - (لا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب [ علي بن أبي طالب ] إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله). وأنت ترى أن معاوية وعماله يقودون حملة اختلاق واضحة هدفها إبطال مفاعيل النصوص الشرعية الواردة في علي، فانطلقت طواقم رواة الدولة تختلق على رسول الله، وتتقول عليه، فلم تترك نصاً قد ورد في علي بن أبي طالب إلا ووضعت نصاً ينقضه ويسلب هذه الفضيلة أو تلك من علي ويعطيها لأحد الخلفاء أو لأحد أبناء البطون أو الموالي عند اللزوم. والمهم ألا تبقى تلك الفضيلة لعلي أو لأحد من يواليه! وتفنن الرواة المؤهلون وفاض المجتمع الإسلامي برواياتهم الكاذبة، وقدمت وسائل إعلام الدولة هذه الروايات بوصفها الحقائق بعينها ودرستها الدولة مع بقية المرويات في كل كتابتها ومدارسها وجامعاتها وصار استيعابها طريق الرزق ب - أصدر معاوية (مرسوماً ملكياً) يقضي بلعن علي بن أبي طالب على كل منبر، ونفذ مرسوم معاوية، فلعنه الولاة والرواة والحواشي ثم لعنته الأمة كلها، وصار الشيطان في نظر الرأي العام أقرب إلى الله من علي بن أبي طالب. لقد أحلت قيادة البطون علياً محل الشيطان، فاستفتحت بلعنه كل شئ! مع أنه على الأقل صحابي، والصحابي حسب ظاهر عقيدة البطون مقدس!
ج - وتثبيتاً لهذه العقيدة التي اخترعتها البطون ألحق معاوية (مراسيمه) السابقة بسلسلة متكاملة من (المراسيم الملكية) طلب فيها من ولاته ما يلي:
1 - انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه. 2 - من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره) (15).
د - نظرية عدالة جميع الصحابة عقيدة الدولة
نجح معاوية وولاة أقاليم دولته في تكوين آلاف الطواقم من الرواة المؤهلين الذي يتقاضون رواتبهم وعطاءاتهم من تلك الدولة ويروون لها ما تريد. وقد نجحت هذه الطواقم في اختلاق عشرات الآلاف من الأخبار والأحاديث في فضل عثمان والخلفاء، ثم نجحت، في اختلاق عشرات الآلاف من الأخبار والأحاديث في فضل الصحابة مجتمعين، ونجحت، أيضاً، في اختلاق مئات الألوف من الأخبار والأحاديث في فضل أفراد الصحابة، وفي تخصيص المئات أو العشرات منها لكل صحابي منهم.
ونجح الرواة، كذلك في التشكيك بجميع النصوص الشرعية الواردة في فضل علي بن أبي طالب بخاصة وأهل بيت النبوة بعامة، واختلاق الأحاديث المناقضة لها، والأحاديث التي تعطي فضائل مشابهة لها للمئات من الصحابة.
لقد كان عمل الرواة مجزياً فبدو كأنهم يعملون في منجم ذهب! لقد بذل معاوية مئة ألف لمن يروي حديثاً بأن آية (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) [ البقرة / 204 ] قد نزلت في علي بن أبي طالب! وبذل أضعاف هذا المبلغ لاختلاق أحاديث تشيد بفضائل عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي! ولك أن تعرف حجم هذا الإغراء على أفراد أمة تعتمد حياتهم على عطاء الدولة ورزقها الشهري! فإذا أضفت إلى هذه كله إمكانيات دولة عظمى و عزمها المؤكد على سحق من يعارضها بلا رحمة، فلا توجد موانع ولا حواجز تحجز قوة الدولة عن البطش بمعارضيها، فحجر بن عدي الصحابي الجليل المشهور رفض أن يسب علياً بن أبي طالب هو ومجموعة من أصحابه، فسيرهم الوالي إلى معاوية بهذه التهمة، ومن دون أن يسمع منهم معاوية كلمة واحدة ومن دون محاكمة أمر بإعدامهم وأعدموا بالفعل!
ولنفترض أن مجموعة من المعارضين دخلوا الكعبة، وهي أقدس مقدسات المسلمين، وهي بيت الله من دخله كان آمناً، ومع هذا فإن الدولة لن تتورع عن هدم الكعبة نفسها على رؤوس المعارضين، وقد هدمت بالفعل في زمن الخليفة يزيد والخليفة عبد الملك! فالولاء للدولة واتباع سياستها وكراهية أئمة أهل بيت النبوة بخاصة وأهل البيت بعامة واجب ديني على كل إنسان مقيم على أرض دولة البطون والدولة لا تهاون في أداء هذه الواجبات! وما عدا ذلك لا تثريب عليك حتى لو كنت كافراً أو كتابياً أو زنديقاً. وبتعبير أدق من يوالي الخليفة ودولته فهو مؤمن، ومن يعارضه فهو كافر (16) هذه هي الأجواء التي تجمعت فيها مئات الألوف من الأحاديث. والأخبار التي جمعتها طواقم رواة الدولة في فضائل عثمان والخلفاء والصحابة مجتمعين ومن والاهم من أفراد الصحابة. والأخبار والأحاديث التي شنعت بعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة وشوهت النصوص الشرعية الواردة بفضلهم.
وعند ما تجمعت جميع هذه الأحاديث والأخبار أمرت الدولة جميع الكتاتيب والمدارس والجامعات ورجال العلم بتعليمها لكافة الناس الخواص والعوام، العرب والموالي الرجال والنساء، الكبار منهم والصغار، حتى استوعبها الناس جميعاً، وصار بمثابة عقيدة سياسية أو منهاج تربوي وتعليمي كالمناهج التي تتبناها كل دولة من الدول المعاصرة، وتدرسها رسمياً في روضاتها ومدارسها ومعاهدها وجامعاتها. لقد صارت نمط تفكير، وطراز حياة ثقافية، وصارت جزءاً من القوانين النافذة يعمل بها الولاة والقضاء وأرباب الفتوى. وباتت جزءاً من وثائق الدولة، تبقى ملتصقة بها بوصفها مؤسسة حتى وإن تغيرت الحكومات، أو تبدل الخلفاء وظلت هذه العقيدة تتعمق في نفوس الجميع وتتوطد طوال ألف شهر يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل وبعد سقوط الدولة الأموية، لم يسقط المنهج التربوي والتعليمي الذي توطد خلال مدة الحكم الأموي، على أساس عقيدة نظرية عدالة جميع الصحابة ولم تحرق وثائق الدولة الأموية بسقوطها، بل آلت هذه الوثائق التي تشتمل على مضمون النظرية إلى الدولة العباسية.
خلال هذه المدة، تكونت عند الناس قناعة بأن هذه الأحاديث والأخبار صحيحة فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق. ولو علمت الأجيال اللاحقة أنها باطلة لما روتها ولما تدينت بها، وظلت هذه التركة تنتقل من جيل إلى جيل حتى وصلتنا فتقبلناها بأنبائها ومن دون شك، لأنها استجابت لميولنا التي تحب البطولة والعظمة، والتي تفترض القداسة في أولئك العظماء الذين تجمعوا حول النبي وقهروا الدولتين الأعظم! ومن هنا صارت هذه النظرية جزءاً لا يتجزأ من الدين تقرأ معه! ويتعبد بها الناس على هذا الأساس المفروض أصلاً بقوة الدولة الغالبة!
ه‍ - مفهوم معاوية ل‍ (الصحابة)
نتيجة روايات طواقم رواة معاوية وولاته، ونتيجة دولة البطون لهذه المرويات، واعتبارها منهاجاً تربوياً وتعليمياً للدولة وجزءاً من قوانينها النافذة كما بينا، تكونت نظرية عدالة جميع الصحابة، وألقت أجرانها في الأرض، وصورها معاوية وأولياؤه كأنها جزء من الدين. ومع ضغط وسائل أعلام الدولة وسيطرتها التامة على مناهج التربية والتعليم، وسطوتها الاقتصادية، ونفوذها القوي ألقي في روع العامة أن هذه النظرية بالفعل جزء لا يتجزأ من الدين. وعلى فرض أن بعض الخاصة قد اكتشفت زيف هذا التصور، فهو غير قادر على الجهر باكتشافه لأنه في هذه الحالة سيدخل في مواجهة دولة لا قبل له بها، ثم إنه ليس بوسع معلم المدرسة إلا تدريس الكتاب الذي قررته الدولة! وليس بوسع القاضي إلا أن يطبق القانون الذي وضعته الدولة، وليس بوسع الوالي إلا أن يلتزم بتوجه الدولة. ووفق هذا التصور صار التعريف العام للصحابي كما يلي: (من لقي النبي مؤمناً به ومات على الإسلام) ويدخل في هذا التعريف: 1 - من طالت مجالسته للنبي أو قصرت، 2 - من روى عنه أو لم يرو، 3 - من غزا معه أو لم يغز، 4 - من رآه ولم يجالسه، 5 - من لم يره لعارض، 6 - الجن الذي سمعوا النبي صحابة أيضاً والمنافقون الذين قالوا: آمنا وهم لا يؤمنون وهم الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر والعصيان هم صحابة أيضاً، لأن العبرة تكمن بالإسلام أو التظاهر به ومجالسة النبي أو سماعه، أو رؤيته. وإذا عرفت أن النبي لم ينتقل إلى جوار ربه، وفي الجزيرة إنسان واحد يجهر بشركه، لعلمت أن جميع أفراد الشعب كانوا، وفق هذا المفهوم، صحابة!
وهذا يشمل المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام والإيمان والمجرمين الذين أقام الرسول عليهم الحدود، فالعبرة بمجالسة الرسول أو سماعة. فالصبيان الذين رأوا الرسول صحابة (17).
ولا يكفي هذا حتى تحصل على مزايا الصحبة بل يجب أن يكون موالياً لدولة البطون ومؤمناً بكل معقولاتها، وكارهاً لأعدائها فإذا كان هذا الصحابي أو ذاك أول من أسلم، وسكن طوال حياته مع الرسول في بيت واحد، ومتزوجاً من ابنة الرسول، ومن أعلم الناس بما جاء به، ولكنه لا يوالي دولة البطون، ولا يؤمن بمقولاتها ولا يكره أعدائها، فهو عملياً ليس صحابياً بل يعامل معاملة الشيطان فيلعن ويشتم من قبل الحكام والمحكومين على السواء، كما فعلوا بعلي بن أبي طالب، وبسبطي النبي: الحسن الحسين وهم جميعاً صحابة وفق معايير معاوية وأركان دولته!
و لنفترض أن أحداً من الصحابة امتنع عن لعن أعداء دولة البطون أو شتم أولئك الأعداء فلا يعد من الصحابة ولا فضائل ولا كرامة له ولا قيمة لحياته فيقتل فوراً ومن دون محاكمة كما فعلوا بحجر بن عدي وأصحابه، وبعمرو بن الحمق!
فالعبرة فوق الصحبة بمعاييرها السابقة الولاء لدولة البطون ومعاداة أعدائها، فالصحبة وحدها لا تقدم ولا تؤخر! ولنفترض أن أحداً من الصحابة بمفهوم معاوية لعنه الرسول ونفاه ومات الرسول وهو غاضب عليه، ولكنه موال لدولة البطون ومؤمن بمقولاتها وكاره لأعدائها فيصبح من المقربين وله الحق في أن يصبح خليفة النبي، وأن تتولى ذريته الخلافة من بعده، كما حدث لمروان بن الحكم بن العاص! وإذا كان هذا الصحابي فاسقاً بنص القرآن ويشرب الخمر علناً ويصلي بالناس وهو سكران، ولكنه موال لدولة البطون وكاره لأعدائها فهو أيضاً صحابي من العدول منزه تماماً عن الطعن، كما هي حال الوليد بن عقبة. بمعنى أن مجالسة الرسول أو رؤيته أو سماعه ليست كافية للحصول على صفة العدالة والنزاهة، وليست فضيلة تنزل صاحبه في المنزلة الرفيعة، بل يجب أن يقترن هذا كله بالولاء لدولة البطون والقول بمقولاتها، والتعبد بكراهية أعدائها!
فإذا ثبت أن أحداً من الصحابة يحب عدو دولة البطون علياً بن أبي طالب، أو يحب أهل بيت النبوة، أعداء دولة البطون، فهو ليس صحابياً، ولا يعد مسلماً ولا يعامل معاملة المسلمين، ولا تقبل شهادته ويمحى اسمه من ديوان العطاء، ثم يهدم منزلة ثم يقتل كائناً من كان (18)!
و - امتيازات الصحابة في مفهوم معاوية وأوليائه
إذا ثبت أن هذا الشخص أو ذاك جالس الرسول، أو رآه، أو سمعه، وثبت أنه موال لدولة البطون، ومؤمن بمقولاتها وكاره لعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة فهو صحابي جليل، وهو عادل لا يجوز عليه الكذب والتزوير، ولا يجوز تجريحه مهما فعل وهو مرجع بحد ذاته عملاً بالحديث المكذوب على رسول الله
(أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم) (19) وتصبح للصحابي، في هذا المفهوم، سنة، قال أبو حنيفة: (إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله أخذت بقول أصحابه، فإذا اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذ بقول من شئت، وادع من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين). وجاء في أعلام الموقعين لابن القيم الجوزية: أن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة: 1 - النص، 2 - فتوى الصحابي، مذهب الأحناف والحنابلة إلى تخصيص عموم القرآن الكريم بعمل الصحابي، لأن الصحابي لا يترك العمل بعموم الكتاب إلا لدليل، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص، وقول الصحابي بمنزلة عمله (20). ومن الطبيعي أن الروايات التي روتها (طواقم معاوية) والفضائل التي اختلقتها تلك الطواقم للصحابة تكمن وراء هذه المكانة المقدسة وهذا التعميم والخلط، فكلها ثمرات مرة استقرت في ضمائر العامة نتيجة طبيعية لنظرية عدالة جميع الصحابة التي أرسى قواعدها معاوية، لغاية محددة وواضحة تتلخص بالقضاء على مكانة أهل بيت النبوة الدينية والقيادة وجعلهم مجرد أفراد ضمن مجموعة كبرى تربو على تسعمئة ألف صحابي وصحابية!
والخلاصة أن الصحابة من أهل الجنة ولا يدخل أحد منهم النار!!.
ز - جزاء من يشكك بهذه النظرية
يقول أولياء معاوية: (إذا رأيت الرجل ينقص أحداً من أصحاب رسول الله، فاعلم أنه زنديق، والذين ينقضون أحداً من الصحابة على الإطلاق بالمعنى الذي وضحناه زنادقة، والجرح أولى بهم، ومن عابهم أو انتقص منهم، فلا تواكلوه، ولا تشاربوه، ولا تصلوا عليه) (21). ولكن أولياء معاوية لا يقولون لنا لماذا قتل معاوية خيار الصحابة، ولماذا جعل مسبة بعضهم واجباً رسمياً على كل أفراد رعيته!؟ فهل ينطبق هذا الحكم على معاوية؟ وعلى أوليائه؟ ثم إن القرآن الكريم نعت بعض الصحابة - بمفهوم معاوية وأوليائه - بالفاسقين كحال الوليد بن عقبة، ونعت بعضهم بالمنافقين كحال عبد الله بن أبي، ومردة النفاق في المدينة ومن حولها من الأعراب، واكتمل القرآن ومات الرسول ولم تنسخ هذه الأحكام فهل نترك الوصف الإلهي بنفاق هذه الفئات وفسقها ونتبع وصف معاوية وأوليائه!؟. ثم إن الرسول الكريم قد أخبرنا أن بعض الصحابة سيرتدون على أعقابهم القهقري، وسيبدلون ويغيرون فكيف توفق بين أحكام معاوية وأوليائه وبين أحكام الله و رسوله!؟ ثم إن روح الدين تركز تركيزاً مكثفاً على حسن الخاتمة، فإذا استقام صحابي وفي أواخر عمره انحرف ورجع عن دينه فما هي الفائدة من استقامته الأولى، لأن المدار يتمثل من خواتيم الأمور (22) ولو سألتهم من الذي وضع هذه العقوبات؟ ومن الذي أعطاه صلاحية وضعها؟ وهل يملك فرض مثل هذه العقوبات؟ لأبلسوا ولاتهموك بالزندقة!

محاولات لتعديل هذه النظرية

اكتشف عمر بن عبد العزيز أن نظرية عدالة جميع الصحابة، تشكل استهتاراً بالعقل البشري، ففي وقت يطول أو يقصر سيزول الحكم الأموي، وسيعلم المسلمون أن علياً بن أبي طالب هو ابن عم النبي وزوج ابنته البتول، ووالد سبطيه، وفارس الإسلام، وأعلم الناس بالدين، إضافة إلى أنه صحابي! ولعن من كانت هذه صفاته مهزلة مشينة يترفع عن السقوط فيها عقلاء الكفرة والمشركين. لذلك صمم على إلغاء سنة لعن علي بن أبي طالب، فقاومه أولياء دولة البطون، ولكن الخليفة الفاضل نجح وألغى سنة اللعن!
واستغرب الخليفة عمر بن عبد العزيز موجات الاندفاع للرواية بفضل عثمان والخلفاء، ثم بفضل الصحابة جميعاً، ثم بنقض فضائل علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة، وقصر الرواية عن الرسول الله على هذه الأمور فقط، واكتشف الخليفة أن أبا بكر وعمر وعثمان قد منعوا رواية أحاديث الرسول وكتابتها لغاية في نفس يعقوب قضاها ثم أصبح هذا المنع سنة، وأدرك الخليفة أن سنة المنع إن بقيت سارية سيندثر العلم، وسيختفي البيان النبوي نهائياً، لذلك أصدر أوامره برواية أحاديث الرسول وكتابتها، فجن جنون أولياء دولة البطون وعلمائها وقالوا للخليفة بصراحة: كيف تلغى سنة أبي بكر وعمر وعثمان؟ أصر الخليفة على تنفيذ قراره فأصدر أمره لواليه على المدينة بالشروع في رواية أحاديث الرسول وتدوينها، ومرة ثانية، نجح الخليفة عمر بن عبد العزيز في إلغاء إحدى سنن خلفاء البطون المقدسين!
ولكن الخليفة الفاضل وقف عاجزاً أمام تلك السيول من فضائل الصحابة التي اجتاحت مجتمع الدولة ; إذ ليس بإمكانه أن يشكك بتلك الروايات التي صارت منهاجاً تربوياً وتعليماً للمجتمع والتي حفظها الجميع كما يحفظون القرآن وصارت حقوقاً مكتسبة للصحابة وللرواة معاً! فلو قال مثلاً: أن هذا الحديث الذي يضع فضائلاً لأبي بكر وعمر وعثمان غير صحيح أو كاذب أو مختلق على رسول الله لجن جنون علماء دولة البطون وعدوه كافراً. والخليفة، بذكائه وفطرته النقية، يعلم ذلك علم اليقين. لذلك تجاهل تلك السيول من الروايات، وانصب جهده على إدارة شؤون الدولة ورفع بعض المعاناة عن أهل بيت النبوة، وترويض مجتمع الدولة للتسامح ومعاملة أهل بيت النبوة كغيرهم من أبناء المجتمع!
وجرت محاولات لتضييق نطاق النظرية، وقال المارزي في شرح البرهان:
(لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كل من رأى النبي يوماً أو رآه لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب، وإنما نعني الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). واكتشف أولياء معاوية أن هذا القول يهدم نظرية عدالة جميع الصحابة التي بناها معاوية هدماً كاملاً، ويخرج الأكثرية الساحقة من أبناء البطون من الصحبة، لذلك قال الشيخ صلاح الملاني: هذا قول غريب، يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة، وقال ابن جرح:
قول المارزي اعترض عليه الفضلاء وهو غير صحيح، والأصوب هو ما وضحناه قبل قليل تحت عنوان (من هو الصحابي بنظر معاوية)!!
ورأى آخرون أن مسبة علي بن أبي طالب، وكراهية أهل بيت النبوة ليست شرطاً لصحبة الصحبة حسب مقاييس نظرية عدالة جميع الصحابة! وأبعد من ذلك فقد اعترفوا بأن علياً بن أبي طالب وأهل بيت النبوة الذين عاصروا النبي صحابة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومحبة أهل بيت النبوة واجبة على الجميع لأنهم صحابة كرام كغيرهم! وسنة مسبة أهل بيت النبوة وعزلهم والتشنيع عليهم ومحو أسماء أوليائهم من ديوان العطاء وقتلهم وهدم دورهم ليست موجهة لأهل بيت النبوة إنما هي موجهة لحزب أهل البيت أو شيعتهم! وهي من قبيل اجتهادات الصحابي معاوية وأولياؤه، والمجتهد مأمور!
لم تصدر من معاوية بن أبي سفيان هذه التوضيحات. وإنما اخترعها أولياؤه ليصححوا ما اعتقدوا أنه يجلب الانقاد له، وليثبتوا نظرية عدالة جمع الصحابة التي بدأت تهتز وتتهاوى.
* * *




________
(1) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 11 تجد التفصيل الموثق.
(2) المصدر نفسه.
(3) راجع الطبقات لابن سعد 2 / 65.
(4) راجع المغازي للواقدي 3 / 1044 طبعة مؤسسة الأعلمي.
(5) راجع الكامل لابن الأثير 3 / 24، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 107 و 12 / 53 - 54.
(6) راجع سنن الدارمي 1 / 125، وسنن أبي داود 2 / 126، ومسند أحمد 2 / 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم 1 / 105 و 106.
(7) راجع صحيح البخاري 4 / 31 و 7 / 9، 1 / 37، و 2 / 132، وصحيح مسلم 2 / 16 و 5 / 75، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 94 - 95، تاريخ الطبري 2 / 192.
(8) راجع التفصيل والمراجع في مبحث (الإمامة أو الولاية أو القيادة من بعد النبي) من هذا الكتاب.
(9) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 286 وما بعدها تجد التفصيل والمراجع.
(10) راجع صحيح بخاري في كتاب الذبائح باب ما ذبح على النصب والأصنام 3 / 207.
(11) راجع كتابنا المواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة) تجد التفصيل الكامل الموثق.
(12) وقد وثقنا ذلك راجع على سبيل المثال (كتابنا نظرية عدالة الصحابة) ص 286، وما بعدها.
(13) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 13 وما بعدها. تجد التفصيل والمراجع.
(14) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 97 تحقيق حسن تميم.
(15) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد: 3 / 596.
(16) راجع سنن أبي داود 4 / 209 ح 4641، ومعالم الفتن لسعيد أيوب 2 / 334.
(17) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 12 وما بعدها لتجد المراجع والتفصيل.
(18) راجع شرح نهج البلاغة 3 / 595 - 597، تحقيق حسن تميم وادرس مراسيم معاوية الملكية.
(19) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 20 تجد التفصيل والمراجع.
(20) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 55 وما بعدها.
(21) راجع كتاب الكبائر للذهبي ص 238، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 21.
(22) راجع نظرية عدالة الصحابة ص 5 وما بعدها، واقرأ نقضنا العلمي لهذه النظرية.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page