• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني محاولة لتقديم الإسلام في جو الخلاف والاختلاف

فيض من الزيف والمشكلات

وجد المسلمون أنفسهم أمام مرويات معاوية وولاته التي تحولت بفصل نفوذ دولة البطون إلى منهاج تربوي وتعليمي يتوقف نجاح الفرد والجماعة على استيعابه والإيمان به، أو التظاهر بذلك. ووجد المسلمون أنفسهم سوقاً مفتوحاً لنتاج العقل البشري من ثقافة وعلم وأدب وقصة وخرافة وأساطير يشق طريقه إلى أسماعهم وقلوبهم بلا قيود ولا حواجز. وكان عليهم أن يتعاملوا مع هذا الفيض من النتاج، وأن يصبغوه بصبغتهم، أو يلبسوه زيهم وعباءتهم!.
ووجد المسلمون أنفسهم أمام حالة غريبة وفريدة من نوعها تتمثل في إباحة رواية كل شئ على الإطلاق وكتابته، باستثناء رواية أحاديث نبيهم الرسول الأعظم وكتابتها! ووجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام فيض من المشكلات والوقائع التي لم يعهدوا مثلها في حياة الرسول أو حياة الخلفاء الأوليين ولا وجود لنصوص شرعية قادرة على التعامل مع هذه المشكلات والوقائع! فصارت رواية أحاديث الرسول وكتابتها ضرورة ملحة كجزء من محاولة العثور على حلول شرعية أو قانونية لمواجهتها. ولم تكن هذه المهمة يسيرة فأحاديث الرسول كعقد من الحجارة الكريمة، قطعت خيوطه يد عابثة ونثرته في التيه والرمال. وبعد 95 عاماً اكتشف الذين جاءوا من بعدهم خطورة ما فعله الأولون ثم بدأ اللاحقون بالبحث عن هذه الحجارة الكريمة! واغتنم أعداء الإسلام الفرصة، فأخذوا يختلقون على الرسول الله أحاديثاً ما أنزل الله بها من سلطان لهدم الإسلام بأدواته، فاخترع علم الرواية والدراية، وعلم الجرح والتعديل،.. الخ من تلك العلوم التي تهدف إلى إثبات صدور هذا الحديث أو ذاك عن رسول الله، والتصدي لفيض الرواة الذين انكشفت الأرض عنهم فجأة. متسلحين بالآلية التي نفسها التي أوجدها الصادقون ببحثهم عن أحاديث الرسول. وكانت دولة البطون على علم بهذا الجهد الذي قام به المخلصون للحصول على ما أمكن الحصول عليه من أحاديث الرسول، ولم تعترض هذا الجهد بل سهلته، ولم يكن لها تحفظ عليه، وانحصر تحفظها بعدم الرواية عن أهل بيت النبوة، وبتجاهل إمام أهل بيت النبوة ما أمكن وفي أحسن الأحوال اعتباره عالماً كمئات الألوف من العلماء الموجودين فوق إقليم دولة البطون وعدم تمييزه من غيره من العلماء! مع أن هذا الإمام هو مستودع العلم اللدني، وهو الجامع لبيان الرسول لكافة أحكام القرآن، وهو المؤهل للإجابة عن كل سؤال إطلاقاً جواباً قائماً على الجزم واليقين، والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل كان العلماء يعرفون مؤهلات الإمام؟ ولماذا تجاوزوه إن عرفوها؟
لقد أدرك العلماء بالعقل لا بالنقل أهلية إمام أهل بيت النبوة، لقد حاوره العلماء في كل زمان، وسلم له العاقلون بالإمامة! ولكن إن أعلنوا تسليمهم له، وأشاعوا تميزه وتفرده بالعلوم الإلهية اليقينية. فإن الدولة القائمة ستعد هذا بمثابة تشيع لأهل بيت النبوة، وستقابله بالردع والمحاصرة، وستصب جام غضبها على جميع العلماء الذين يشيعون تفرده وتميزه. وبالتالي ستستعمل دولة البطون نفوذها وتفشل مشروع العلماء الصادقين الهادف إلى تقصي أحاديث الرسول الصحيحة وتدوينها، لذلك رأى العلماء الصادقون أن يتظاهروا بأن إمام أهل بيت النبوة ليس غير عالم من جملة مئات الألوف من العلماء! وقد تظاهروا بذلك بذلك مع إقرارهم له بالأستاذية فالإمام جعفر الصادق مثلاً هو أستاذ أبي حنيفة وأصحاب المذاهب الأربعة، وقد أقروا له بالتفوق والتفرد والتميز من غير ومع هذا نتيجة لنفوذ الدولة وضغوطها تقدم أبو حنيفة وبقية أصحاب المذاهب الأربعة في نظر العامة، وتأخر إمام أهل بيت النبوة وصار المذاهب الأربعة والتمذهب بمذهب الإمام جعفر نقيصة وموضع شبهات، وقد سمى رسول الله الإمام محمد بن علي بالباقر لأنه سيبقر العلوم، وأقر له علماء زمانه بأنه الباقر حقيقة لأنه بقر العلوم وعرف حقيقتها، ومع هذا فإن الإمام محمد الباقر من الناحية الرسمية ليس إلا عالم من جملة آلاف العلماء وإذا تعارض قول أي عالم مع قول الإمام محمد الباقر فإن الراجح هو قول العالم لا قول الباقر!
ومع تعمد دولة البطون وأعوانها تجاهل الثقل الأصغر والمرجعية التي أوجدها الله رسوله، وإصرار الدولة وأعوانها على صناعة آلاف المرجعيات الموازية للمرجعية الإلهية اختلطت الأوراق وضاعت الحقيقة، وصبغت الأحكام الدينية بصبغة الظن والتخمين، فلا تجد حكماً على الإطلاق إلا وتجد حكماً آخر على النقيض منه. وتدفع الحقيقة الشرعية دائماً الضريبة.
فالعلماء الصادقون يروون الحديث عن فلان، وهو مجهول، وعن فلان، عن زيد وعن عمرو وعن أبي هريرة مثلاً أنه رأى رسول الله يغسل رجليه في الوضوء!
ويروي العلماء أنفسهم أنهم قد سمعوا الإمام محمد بن علي الباقر يقول عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن جده علي بن أبي طالب أننا عشنا مع الرسول طوال حياته المباركة تحت سقف واحد، وكان يتوضأ أمامنا كل يوم خمس مرات وفي كل مرة من هذه المرات كان يمسح على رجليه في الوضوء ولا يغسلها وكذا أمي فاطمة الزهراء بنت الرسول. ومع هذا يتجاهل العلماء هذا الإجماع من أهل بيت النبوة ويتركون روايتهم ويأخذون برواية أبي هريرة الذي لم يصحب الرسول أكثر من سنتين ونصف! لماذا؟ لأن أبا هريرة مع دولة البطون وهواه هواها! وليس لدولة البطون مصلحة بأن يأخذ الناس دينهم عن أهل بيت النبوة، متجاهلين دولة البطون ومؤسساتها على الحكم الشرعي الذي يبينه أهل بيت النبوة، فالحجاج يعلم أن الحكم الشرعي، في الوضوء هو مسح الرجلين، ولكنه يفرض على الناس أن يغسلوا أرجلهم بالوضوء ليخالفوا فعل علي بن أبي طالب العدو اللدود لدولة البطون. ومع اسمترار فرض الدول لغسل الرجلين بدلاً من مسحهما، واعتبار هذا الحكم جزءاً من المنهاج التربوي والتعليمي لدولة البطون تأتي الأجيال اللاحقة وتعتقد أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي، وأن مقالة أهل بيت النبوة بالمسح شاذة وبدعة على حد تعبير ابن خلدون عنهم!

طريق الرشاد

كل إمام من أئمة أهل بيت النبوة نادى الأمة في زمانه قائلاً: (اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد)، فعلي ابن أبي طالب باب مدينة العلم اللدني، والحسن والحسين،
تتلمذا على يد الرسول ويد علي وورثا علم النبوة. وورث علمهم علي بن الحسين، وجاء من بعده محمد الباقر فاشتهرت تسمية الرسول له الباقر لبقرة العلوم وأقر له العلماء بذلك. وجاء من بعده جعفر الصادق فأعلن للباحثين عن الحقائق الشرعية المجردة قائلاً وبملء فيه: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث أبيه، وحديث أبيه حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل) (1). وأكد الإمام جعفر الصادق للناس قائلاً: (ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة) (2) وإمام أهل بيت النبوة يعرف الكتاب ومحيط بالسنة، وسئل الإمام موسى بن جعفر أكل شئ في كتاب الله وسنة رسوله أم تقولون فيه؟ فأجاب الإمام موسى: (بل كل شئ في كتاب الله وسنة ورسوله) (3) وروي عن الإمام موسى الكاظم قوله: (... فإنا إن حدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة إما عن الله وعن رسوله فحدث...).
بمعنى أن الفرصة كانت دائماً مهيأة أمام المسلمين ليأخذوا أحكام الدين الشرعية اليقينية من أئمة أهل بيت النبوة الذين أعدهم الله وأهلهم لهذه الغاية، ولكن دولة البطون وأولياءها قد أبوا ذلك لأنهم لو فعلوه لأذوا أنفسهم، ولأقروا بمرجعية أهل بيت النبوة ولانهار تاريخهم وتهاوت شرعية حكمهم، لذلك ضحوا بالدين الإسلامي ليخفوا آثار أفعالهم وليضمنوا لأنفسهم الاستمرار بقيادة الأمة وتوجيهها بالقوة وفق مناهجهم التربوية والتعليمية التي اخترعوها فسلكوا بالمسلمين الوعر والصعب من الطريق، وتركوا اليسر الإلهي، وكانت النتيجة أن اختفى الجزم واليقين من قاموس الأحكام الشرعية، وحل محلها الظن والتخمين فلا تجد حكماً فقهياً في مسألة إلا وتجد حكماً في المسألة نفسها يناقضه ويتعارض معه!

كي لا يضيع المسلمون إن أبوا!

أمام رفض دولة البطون الاعتراف بشرعية مرجعية أهل بيت النبوة وإصرارها وأوليائها على اختراع آلاف المرجعيات البديلة، وقرن مرجعية أهل بيت النبوة مع هذه المرجعيات ومساواتها بها وحرصاً على مصلحة الإسلام وإنقاذاً لما يمكن إنقاذه من دين الإسلام وضع أئمة أهل بيت النبوة وأولياؤهم سلسلة من القواعد التي ترشد ما أمكن إلى طريق الصواب منها:
1 - عرض الحديث على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو حديث صحيح وما خالف كتاب الله فهو حديث كذب.
2 - إن كل حديث قد ورد في أي كتاب من كتب الحديث مهما تكن وثاقة أصحابها يجب أن يخضعه العلماء للتحقيق والإثبات للتأكيد من وثاقة الرواي وصدقة.
3 - لا ينبغي على العلماء أن يقبلوا الرواية إلا إذا رواها راو منصف، يتصف بالورع والصدق ومهما يكن مذهبه.
4 - ليس في منهج أهل بيت النبوة وشيعتهم ما يوجب تبني كتاب حديث صحيح بأكمله أو رفضه بأكمله، بل تخضع مفرداته للتحقيق والإثبات العلمي.

سعي دولة البطون إلى إجهاض جهود الأئمة

التميز والتفرد العلمي، وأهلية أئمة أهل بيت النبوة لتقديم الأحكام الشرعية للناس، كما بينها الرسول، لم تعد خافية على أحد من المسلمين. صحيح أن دولة البطون وأولياءها لا يعترفون بذلك ويقاومونه، ولكن هذه الأمور: التميز والتفرد والأهلية، صارت من قبيل الحقائق الواقعية التي يتعذر على الدولة عدم رؤيتها، ويتعذر عليها طمسها. لذلك اتخذت سلسلة من الإجراءات في محاولة مكشوفة منها لطمس الحقائق. ومن هذه الإجراءات:
1 - التعتيم المطلق، في كل زمان، على كل إمام من أئمة أهل بيت النبوة، واعتباره في أحسن الأحوال مجرد مسلم أو عالم لا يختلف أمره عن ملايين المسلمين وآلاف العلماء مع غمزه ولمزه والتنفير منه بوسائل الدولة الكثيرة.
2 - إظهار إمام أهل بيت النبوة بمظهر الرجل الذي يرمي إلى شق الطاعة وتفريق جماعة المسلمين، ودولة البطون من باب حرصها على وحدة المسلمين ورحمتها بهم، مضطرة إلى اتخاذ التدابير الاحترازية لتحجيمه وسد أبواب الشر التي يمكن أن تفتح عنده وعند أوليائه.
3 - دس عيون الدولة وجواسيسها من حول الإمام وتكليفهم بالظهور بمظهر شيعته وأوليائه ليحصوا عليه أنفاسه، ويعرفوا حركاته وأساليبه في الاتصال بشيعته وأوليائه. ويظهر هؤلاء العيون والجواسيس بمظهر شيعة الإمام وأوليائه، حتى إذا اشتهر ذلك بين الناس تولوا مهمة الكذب والتقول عليه واختلاق الأحاديث على لسانه ونسبة الآراء المتطرفة إليه، وذلك لتشكيك الناس به، وتنفيرهم من حولهم، و تكريههم به، طمعاً بتشويه سمعته وسمعة أوليائه، وتنفير الناس منهم للحيلولة بين إمام أهل بيت النبوة وبين هداية الناس إلى الطريق القويم، واطلاعهم على الحكم الشرعي في كل مسألة.
فقد يدعي الجواسيس والعيون أن الإمام يدعي أنه (إله) أو غير ذلك من الادعاءات الكاذبة التي لا هدف لها إلا تنفير المسلمين من أئمة أهل بيت النبوة.
ودعمت دولة البطون أكاذيب جواسيسها واختلاقاتهم بمختلف وسائل الإعلام، وألقت في روع العامة أن هؤلاء الجواسيس شيعة للإمام وهم ينقلون قوله، وبالتالي فإن كفر الإمام وشيعته لا يحتاج إلى إيضاح!

رد أئمة أهل بيت النبوة

لعن الأئمة الكرام أولئك الجواسيس والعيون الذين جندتهم دولة البطون وكلفتهم بأن يظهروا بمظهر شيعة أهل بيت النبوة لغايات الاختلاق والكذب. فقد لعن الإمام جعفر الصادق أبا الخطاب بن أبي زينب الأجدع وتبرأ منه ومن القائلين بأقواله وتقولاته الكاذبة، ولعن حمزة البربري، ولعن صائد النهدي، ولعن أبا الجارود ووصفه بأنه أعمى القلب وأعمى البصر، ولعن أبا منصور العجلي، ولعن يزيع بن موسى الحائك ولعن أتباعهم. وأعلن إمام أهل بيت النبوة، في كل زمان، أن أولئك الجواسيس والعيون ليسوا شيعة وليسوا أولياء لأهل بيت النبوة، إنما هم أعداء.
وكان الإمام يجمع شيعته سراً ويقول لهم: يا معشر شيعة آل محمد، (كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي. فقال له رجل: جعلت فداك ما الغالي؟ قال:
قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم، ويلحق بكم التالي، فقال قائل: وما التالي؟ قال: المرتاد يريد الخير ويؤجر عليه).
ولما بلغ الإمام جعفر الصادق قول أبي الخطاب، أرسل دمعة، وهو يقول:
(يا رب برئت إليك مما ادعى في الأجدع، خشع لك شعري وبشري، عبد لك ابن عبد لك، خاضع ذليل أجل أجل عبد خاضع، خاشع ذليل لربه، صاغر، راغم من ربه، خائف وجل، لي والله رب أعبده، ولا أشرك به شيئا).. وقيل لأبي عبد الله:
إن قوماً يزعمون أنكم آلهة! فقال أبو عبد الله: (سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبرئ الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم)..
وقال إمام أهل بيت النبوة (... والله ما معنا براءة وما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً نفعته ولا يتنا، ومن كان منكم عاصياً لم تنفعه ولا يتنا).
ولمواجهة اختلاق الأحاديث، بين الإمام الحقيقة، وأوصى المسلمين قائلاً: (لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة). وقال الإمام علي بن موسى الرضا: (لا تقبلوا عني خلاف القرآن، فإنا إن حدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، ما عند الله عند رسوله نحدث..).
وعلى الرغم من التعتيم الذي فرضته دولة البطون على أقوال الأئمة وتصريحاتهم إلا أنها وصلت إلى أسماع المسلمين، ولم يعد بوسع عاقل أن يصدق اختلاقات عيون دولة البطون وأكاذيب جواسيسها الذين ادعوا التشيع لغايات هدم التشيع وإطفاء نور أهل بيت النبوة.
ومع أن دولة البطون هي التي تولت قيادة موجة الافتراء على الأئمة وتنفير المسلمين منهم وتجذير الخلاف والاختلاف بين أتباعها من جهة، وبين أتباع الأئمة من جهة أخرى، ومع أنها تعرف أن الحق مع الأئمة إلا أنها سخرت الاختلافات التي أشرفت على إيجادها، وجعلتها ذريعة لحصار الأئمة وحصار أتباعهم، وملاحقة أي عالم من علمائهم، والتحايل على إتلاف كل ما ينتجونه، حتى أن الإمام زين العابدين علي بن الحسين، اضطر لإخفاء أدعيته المشهورة بالصحيفة السجادية وهي مجرد أدعية، ومع هذا فإنها لو وقعت بيد دولة البطون وأعوانها لأتلفوها، لأن تلك الدولة كانت تعد كل ما يصدر عن أئمة أهل بيت النبوة وأعوانهم خطراً عليها، وقنابل موقوتة لا تدري متى تنفجر ولا بمن ستنفجر!

في هذا المناخ تم الاختلاف الفقهي

كان الأيسر لدولة البطون وأتباعها وللمسلمين، لو تم أخذ الأحكام الشرعية من مصدرها الصافي اليقيني، المتمثل بأهل بيت النبوة الذين أهلهم الله وأعدهم للأمور الآتية:
1 - قيادة الأمة.
2 - حفظ سنة الرسول بفروعها الثلاثة.
3 - بيان القرآن بياناً قائماً على الجزم واليقين في كل زمان. ولو فعلوا ذلك، كما أمرهم الله على لسان رسول، لما احتاجوا لأي شئ آخر، ولأخذوا حكم كل شئ من كتاب الله وسنة رسوله بشكل محدد وجازم.
لكن، لو فعلت دولة البطون وأعوانها ذلك لأقروا على أنفسهم بأنهم غاصبون للسلطة، وأن أهل بيت النبوة هم أصحاب الحق الشرعي، والشخص أي شخص يفر مما يدينه، لذلك اختارت الدولة وأولياؤها طريق العسر والحرج لها وللمسلمين. ولأن الدولة لا تعرف مواقع الحكم الشرعي في كتاب الله أو في سنة رسوله، اخترعت مصادر جديدة كالرأي، والقياس والاستحسان، والمصالح المرسلة، والإجماع. مع أن الحكم الشرعي موجود في القرآن والسنة، ولكنه خاف على الدولة وأعوانها، ولأنها بحاجة للأحكام لمعالجة ما استجد من وقائع لذلك لجأت إلى هذه المصادر لتلبية حاجاتها من الأحكام. وبعد أن حصلت على حاجاتها من الأحكام من تلك المصادر ألبستها ثوب الإسلام وادعت بأنها شرعية وإسلامية تماماً! مع أنه في الحق والحقيقة لا يوجد في الإسلام سوى مصدرين:
كتاب الله وسنة رسوله، والإمام الشرعي في زمانه هو المؤهل الوحيد والمعد لمعرفة مكان الحكم الشرعي في هذين المصدرين، وهذا هو سر قوته وشرعيته، وفي الجانب الآخر، أعلن أئمة أهل بيت النبوة وشيعتهم أنه لا يوجد في الإسلام سوى مصدرين للأحكام في: كتاب الله وسنة رسوله، وأن إمام أهل بيت النبوة على استعداد، في كل زمان، لإرشاد الأمة إلى موقع الحكم الشرعي في القرآن والسنة، لأن القرآن الكريم اشتمل على بيان كل شئ على الإطلاق، وقد تكررت أحاديث الرسول الأعظم بأنه قد ترك الناس على المحجة البيضاء، وشهد المسلمون قاطبة بأن الرسول قد أدى الأمانة كاملة، وبلغ الرسالة، وكفى بالله شهيداً: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [ المائدة / 3 ] ثم إن القوانين الوضعية المعاصرة، في كل دولة من دول العالم، قد اشتملت على بيان الحكم الوضعي في هذه الدولة أو تلك، لأي واقعة يمكن أن تقع في المجتمع، فهل يعقل أن يحيط المشرع الوضعي القاصر بالأمور أكثر من إحاطة الشارع الحكيم الذي وسع كل شئ علماً!
النقطة الأولى: وهكذا كان الخلاف في اعتماد المصادر التي ينبغي أن تؤخذ منها الأحكام، أول خلاف فقهي بين شيعة خلفاء دولة البطون بين شيعة أهل بيت النبوة فالأول يأخذون الحكم من أي مصدر من المصادر بينما الآخرون لا يأخذون إلا الحكم الشرعي ومن كتاب الله وسنة رسوله. والإجماع عند شيعة أهل البيت ليس منشئاً للحكم إنما هو كاشف له. ولا قيمة للإجماع المنشئ للحكم، لأن الحكم الشرعي سابق للحكم الذي أوجده الإجماع بمفهوم شيعة خلفاء البطون، ولأن الحكم الشرعي لم يرق لخلفاء البطون وشيعتهم فقد اخترعوا حكماً بديلاً، وحاولوا إضفاء الشرعية على الحكم البديل سنداً لإجماع غير شرعي، غايته المحددة إبطال الحكم الإلهي الشرعي!
والنقطة الثانية:
إن دولة البطون وشيعتها فرضوا حضراً على رواية أحاديث رسول الله وكتابتها طوال 95 عاماً، بين حضر كلي وحضر جزئي، وعندما جاء معاوية قاد بنفسه وولاته حملة وضع الأحاديث على رسول الله في النواحي الشخصية والسياسية، واختلاف أحاديث للتشكيك بالنصوص النبوية الشرعية التي أعلنها الرسول. وجعل معاوية وأركان دولة البطون من هذه النصوص الموضوعة والمختلفة منهاجاً تربوياً وتعليمياً لرعية دولتهم، ثم تبنتها الأجيال اللاحقة معتقدة صحتها. ونتيجة هذا كله اختلطت الأوراق اختلاطاً عجيباً وضاعت الحقيقة بين الركام وصار الوصول إليها من أصعب الأمور وأكثرها تعقيداً!
وقد وضع أولياء دولة البطون مجموعة من القواعد والضوابط لمعرفة الحديث الصحيح من الحديث المكذوب، وقسموا الحديث نفسه إلى مراتب، وكل طائفة وضعت قواعدها وشروطها الخاصة وتولد عن ذلك الاختلاف في تقدير المرويات، فما يكون منها صحيحاً عند طائفة قد يكون غير صحيح عند الطائفة الأخرى، وقد يكون من الرواة موضع ثقة عند طائفة فقد لا يكون ثقة عند الطائفة الأخرى. وتعددت مراتب التقدير بتعدد الطوائف والمرجعيات، وزادت الأوراق اختلاطاً. وفي هذا المناخ جرى تخريج الأحكام من المصادر الصحيحة وغير الصحيحة وتم الاختلاف في المصادر مثلما تم الاختلاف في قبول الروايات.
ونشأت حالة من التعارض عجيبة، وحدث فيض بالأحكام مما مكن دولة البطون من ترجيح الأحكام التي تتلاءم مع ميولها وهواها.
ومحاولة منها للسيطرة على مقاليد الأمور اختارت أربعة من العلماء واعتبرتهم أصحاب مذاهبها الرسمية، وحرمت على أي مواطن من رعاياها أن يتمذهب بغير هذه المذاهب، حتى أنها لم تقبل رسمياً شهادة أي مسلم إن لم يكن متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة. وقضت هذه الدولة بقرارها هذا على كافة أصحاب المذاهب والتوجهات الفقهية أو حجمتهم عملياً، وسمي كل مذهب من المذاهب التي اعتمدتها الدولة باسم صاحبه، فقيل مذهب الأحناف نسبة إلى أبي حنيفة ومذهب الشافعية نسبة إلى الشافعي.. الخ. لم تعر الدولة أي اهتمام لمذهب أهل بيت النبوة الذي سمي بالمذهب الجعفري نسبة إلى الإمام جعفر الصادق الذي عاصر هذه التحولات والتسميات، وكان من الممكن أن يتلاشى هذا المذهب كما تلاشت مئات المذاهب أمام قرار دولة البطون، ولكنه بقي ثابتاً.
صحيح أن الدولة نجحت في إثارة الشكوك حوله وتنفير العامة منه عملاً بخطها العام الرامي إلى استبعاد أهل بيت النبوة واستبعاد كل ما يصدر منهم، والحيلولة بينهم وبين المسلمين إلا أنها لم تنجح في القضاء عليه. ومع أن دولة البطون سقطت إلا أن الآثار المدمرة لمناهجها ما زالت تعمل حتى الآن. وما زال العامة يعتقدون أن تلك المناهج التي وصلتهم بالوراثة صحيحة!
وحديثاً، ومع تنور بعض العقول من أتباع خلفاء دولة البطون جرت محاولات جريئة للتشكيك بشرعية إجراءات دولة البطون فقد سئل شيخ الأزهر، المرحوم محمود شلتوت، إن كان واجباً على المسلم أن يقلد أحد المذاهب الأربعة، وإن كان حراماً تقليد مذهب الشيعة الإمامية (الجعفري) أو المذهب الزيدي (الشيعة الزيدية).
فأجاب شيع الأزهر: (إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه مذهباً معيناً بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلد، بادئ ذي بدء، أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة. ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره، ولا حرج عليه في شئ من ذلك).
وأضاف شيخ الأزهر: (ومذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشر، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب فالكل مجتهدون، مقبولون عند الله، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات).
وجاء شيخ الأزهر محمد محمد الفحام ونوه بفتوى شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت، وعبر عن ذلك بقوله: (ورحم الله الشيخ شلتوت الذي التفت إلى هذا المعنى الكريم فخلد في فتواه الصريحة الشجاعة). وقد أصاب الغمام بقوله:
(فخلد في فتواه الشجاعة) لأنه لم يكن بإمكان أي مسلم أن يجرؤ على إعلان ما أعلنه الشيخ شلتوت، لأن العامة تعتقد أن ما فعله الخلفاء وأولياؤهم هو عين ما فعله الرسول!
ومع خطورة هذه الفتوى وعقلانيتها وصدقها وقدرتها الخارقة على الوصول إلى القلوب عمد أولياء دولة البطون إلى التعتيم عليها والتعامل معها كأنها غير موجودة وغير صادرة عن شيخ الأزهر. وطالبوا بفتح باب الاجتهاد الذي لم يغلقه الله ولا رسوله إنما أغلقه خلفاء دولة البطون وأولياؤهم ولكنه اجتهاد على شاكلة الاجتهاد الذي سلكه الخلفاء وأولياؤهم والذي يخدم تاريخهم وغاياتهم من اختلاق مصطلح الاجتهاد.
* * *





________
(1) راجع أعيان الشيعة 3 / 34.
(2) راجع أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني 1 / 51.
(3) المصدر نفسه 1 / 62.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page