ذكر المؤرّخون بأنّها كانت هي القائدة العامة، وهي التي تولّي وتعزل وتصدر الأوامر، حتى إنّ طلحة والزبير اختلفا في إمامة الصلاة، وأراد كلّ منهما أن يصلّي بالنّاس، فتدخّلت عائشة وعزلتهما معاً، وأمّرت عبد الله بن الزبير ابن أُختها أن يصلّي هو بالنّاس.
وهي التي كانتْ ترسل الرّسل بكتبها التي بعثتها في كثير من البلدان تستنصرهم على علي بن أبي طالب، وتثير فيهم حميّة الجاهلية. حتّى عبّأتْ عشرين ألفاً أو أكثر من أوباش العرب وأهل الأطماع لقتال أمير المؤمنين والإطاحة به، وأثارتها فتنة عمياء قُتل فيها خلق كثير باسم الدّفاع عن أُمّ المؤمنين ونصرتها.
ويقول المؤرّخون: إنّ أصحاب عائشة لمّا غدروا بعثمان بن حنيف والي البصرة، وأسروه هو وسبعين من أصحابه الذين كانوا يحرسون بيت المال، جاؤوا بهم إلى عائشة فأمرتْ بقتلهم، فذبحوهم كما يذبح الغنم، وقيل: كانوا أربعمائة رجل يقال: إنّهم أوّل قوم من المسلمين ضربتْ أعناقهم صبراً(1).
روى الشعبي، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه قال: لمّا قدم طلحة والزبير البصرة، تقلّدتُ سيفي وأنا أُريد نصرهما، فدخلتُ على عائشة فإذا هي تأمُرُ وتنهي وإذا الأمر أمرها، فتذكّرت حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كنت سمعته يقول: "لن يفلح قوم تدبّر أمرهم امرأة" فانصرفت عنهم واعتزلتهم(2).
كما أخرج البخاري عن أبي بكرة قوله: لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لمّا بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ فارساً ملّكوا ابنة كسرى قال: "لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة"(3).
ومن المواقف المُضحكة والمبكية في آن واحد أنّ عائشة أُمّ المؤمنين تخرج من بيتها عاصية لله ولرسوله، ثمّ تأمر الصّحابة بالاستقرار في بيوتهم، إنّه حقّاً أمرٌ عجيب!!
فكيف وقع ذلك يا ترى؟
روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة وغيره من المؤرّخين: إنّ عائشة كَتبتْ ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها: من عائشة أُمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيق زوجة رسول الله، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أمّا بعد فأقم في بيتك، وخذّل الناس عن ابن أبي طالب، وليبلغني عنك ما أحبّ، إنّك أوثق أهلي عندي، والسّلام.
فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي: من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر، أمّا بعد; فإنّ الله أمركِ بأمر، وأمرنَا بأمر، أمركِ أن تقرّي في بيتكِ، وأمرنا أن نجاهدَ، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنعَ خلاف ما أمرني الله به، فأكون قد صنعتُ ما أمرك الله به، وصنعتِ أنتِ ما به أمرني، فأمْركِ عندي غير مطاع، وكتابُك لا جواب له(4).
وبهذا يتبيّن لنا بأنّ عائشة لم تكتفِ بقيادة جيش الجمل فقط، وإنّما طمحتْ في إمرة المؤمنين كافّة في كلّ بقاع الأرض، ولكلّ ذلك كانت هي التي تحكم طلحة والزبير اللذين كانا قد رشّحهما عمر للخلافة، ولكلّ ذلك أباحتْ لنفسها أنْ تراسل رؤساء القبائل والولاة وتُطمِعُهم وتستنصِرُهم.
ولكلّ ذلك بلغتْ تلك المرتبة وتلك الشّهرة عند بني أُميّة، فأصبحتْ هي المنظور إليها والمُهابة لديهم جميعاً، والتي يُخشى سطوتها ومعارضتها، فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصفِّ إزاء علي ابن أبي طالب ولا يقفون أمامه، فإنّها وقفتْ وألّبتْ واستصرختْ واستفزّت.
ومن أجل هذا حيّرتْ العقول، وأدهشتْ المؤرّخين الذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي، وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجي الإمام علي ودعوتها لكتاب الله، فأبت وأصرّت على الحرب في عناد لا يمكنُ تفسيره إلاّ إذا عرفنا عمق وشدّة الغيرة والبغضاء التي تحملها أُمّ المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
1- راجع: أنساب الأشراف: 227، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 321.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 227.
3- صحيح البخاري 8: 97 كتاب الفتن، سنن الترمذي 3: 36، البداية والنهاية 2: 26.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 226، تاريخ الطبري 3: 492.