ذكر الرواة بوادر كثيرة من ذكائه ، كان منها أن المعتصم بعد شهادة الامام الجواد عليهالسلام عهد إلى عمر بن الفرج الرخجي أن يشخص إلى يثرب ليختار معلماً لأبي الحسن الهادي عليهالسلام ، وقد عهد إليه أن يكون المعلم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهمالسلام ليميل به عن نهجهم حسب اعتقاده ، فاختار أبا عبد الله الجنيدي الذي وقف ذاهلاً أمام نبوغه وتفوقه ، حيث كان يملي على المعلم بما فيه استفاده له ، وأذعن المعلم بأنه يتعلم منه ولا يعلمه كما يظن الناس ، وانه عليهالسلام خير أهل الأرض وأفضل من خلق الله تعالى ، وأخيراً قال بإمامته وعرف الحق وقال به.
روى المسعودي بإسناده عن الحميري ، عن محمد بن سعيد مولى لولد جعفر بن محمد ، قال : « قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد عليهالسلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله عليهمالسلام ، فقال لهم : ابغوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم ، لا يوالي أهل هذا البيت ، لأضمّه إلى هذا الغلام وأوكله بتعليمه ، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه. فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة.
فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد ، وعرفه أن السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام ، قال : فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن عليهالسلام في القصر بصريا ، فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه ، فمكث على هذا مدة ، وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه.
ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه ، وقلت له : ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً علي : تقول الغلام ولا تقول الشيخ الهاشمي! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت : لا. قال : فإني والله أذكر له الحزب من الأدب أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي علي بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أعلمه وأنا والله أتعلم منه.
قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك ، فسلمت عليه ، وسألته عن خبره وحاله ، ثم قلت : ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي : دع هذا القول عنك ، هذا والله خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق الله تعالى ، وإنه لربما همّ بالدخول فأقول له : تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي : أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذّها بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي التي بها من قراءته يضرب المثل.
قال : ثم قال : هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا؟ قال : ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به » (١).
قال الشاعر :
حار فيه فكر الجنيدي مذ شاهد فيه ما حير الأفكارا
جاء يملي له العلوم صغيراً فإذا بالصغار تهدي الكبارا (٢)
*********************
(١) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٢٢.
(٢) الذخائر / اليعقوبي : ٦٣.
نبوغه المبكر :
- الزيارات: 908