• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

علاقات الإنسان ـ البيئة


تتداخل أنساق البِناء الاجتماعي وعلى الأخصّ في المجتمعات التقليديّة ـ كما أسلفنا القول ـ تداخلاً شديداً بحيث يتعّذر الفصل بينها لأغراض الدراسة ، إلاّ أنّنا نحاول هنا قدر الإمكان تَتبّع التأثير والعلاقات المتبادلة بين الإنسان والبيئة ، لمَا كنّا نظنّ أنّ الكشف عن هذه العلاقات المحتملة ـ ونؤكّد على احتماليّتها ـ وِفْق مقتضيات منهج البحث العلمي ستفيدنا في الإعانة على فهم ما سيجدّ من أحداث .

1 ـ فقد كان لغزارة المطر الجنوبي وصلاحيّة الأرض للزراعة أنْ توفرت الشروط الموضوعيّة الكافية لإقامة مجتمعات مستقرّة تعتمد الزراعة نشاطاً رئيسيّاً لها .
ثمّ إنّ هذه الظروف شحذت هِمم القوم للحفاظ على منبع الخير هذا، فاستحدثوا الوسائل الماديّة التي تُمكّنهم من تجميع المطر وضبط صرفه، ممّا نشأ معه نظام ري متقدّم, ولعلّ سدّ مأرب خير دليل على ذلك .
وإلى هُنا ، فإنّ وفرة العيش والنزعة الإيجابيّة في التعامل مع الظرف الطبيعي والشعور بالاحتياج المشترك لنظام عام للضبط , تبلور في نمط للإنتاج ، ساعد على التطوّر بما نشأت معه حضارات ودول مركزيّة في تلك المنطقة من بلاد العرب ، فكانت هناك دول : أوسان , ومعين ، وحضر موت ، وقتبان , وسبأ(1) .
وبالإضافة إلى منتجات اليمن الزراعيّة ذات القيمة التجاريّة العالية : كالصبر والبخور والصمغ ، فقد ساعدها موقعها الجغرافي لتكون مركز تجارة واسع المدى ، تجمع إليه تجارة شرق أفريقيا والهند وما وراءها من : توابل وذهب وعاج ، وأبنوس وحرير صيني , إضافة إلى إنتاجها الأصلي من الأحجار الكريمة : كالعقيق والعنبر واللؤلؤ .
وذاعت شهرة اليمن في الآفاق حتّى تحدّثت العرب عن حضارتها الراقية ، ومدنها المشيّدة وقصورها المنيفة ، وحللها اليمانيّة ذائعة الصيت , حتّى أطلق عليها الأقدمون : اليمن السعيد , أو ( ARABIA FELIX ) بالرومانيّة ، وحتّى حدّث القرآن عن عظمة إحدى حضاراتها سبأ : ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )(2) . ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ )(3) .
ولعلّ تلقيب أشراف اليمن بـ ( الأذواء ) ، ذو دلالة على شأن حضارتهم ، إذ إنّهم لمّا تنافسوا في تشييد الدور وولعوا بإقامة القصور من فرط الخير وسعة الثراء ، جعلوا يُلقّبون أنفسهم بإضافة ( ذي ) إلى القصر أو المحفد ، مثل : ذي المغلس ، وذي يزن(4) , على أنّ الأيّام كعهدها لمْ تدمْ لهم ، فرُزئوا بسيل العرم الذي أغرق أرضهم وخرّب ديارهم ومزّق جمعهم ، فكانت هجرتهم إلى الشمال منتصف القرن الخامس قبل الميلاد .

2 ـ في الوقت الذي تنزّلت السماء على أهل الجنوب مدراراً ، شحّت على أهل الشمال فحدّدت النشاط الذي يُمكّنهم القيام به ، وهو الرَعي بالأساس . وهكذا تعين الفلك الذي يضطربون فيه وهو منابت الكلأ ، يردّدون بين مواطنه ماشيتهم , يخرجون في مواسم المطر يتتبّعون مواضع القطر ، يلتمسون فيها غذاءً لماشيتهم , فإذا انتهى الموسم عادوا أدراجهم إلى مساكنهم الأولى
حتّى يحول الحول , وهم في ذلك يتعيّشون على نتاج ماشيتهم ونوقهم ذات المثل الأعلى في التكيف مع البيئة ، فيأكلون لحومها ويشربون ألبانها ويلبسون أوبارها , فلا صِناعة ولا زِراعة ولا تِجارة ولا ملاحة ، وتلك خصيصة المجتمع البدوي في أبسط أشكاله , في هذا المجتمع البدوي الذي يسدّ أهله حاجاتهم من قريب ، ويعتمدون اعتماداً مُطلقاً على ما تجود به السماء ، دونما بذل لجهد أو معالجة لقوى الطبيعة ، تعمل النزعات السلبيّة عملها في نفوس أهلها ، فلا هم ينشطون للاستزادة من خير ، ولا هم ينزعون لمصادر اُخرى ، ولا هم يقدحون أذهانهم بحثاً عن رُقي ، وإنّما حسبهم ما يسدّ حاجتهم من أقرب طريق , ومثل هذا الضرب من الحياة لا يُنشئ حضارة ولا يرقّي اُمماً .
فإذا عرفنا إنّ مثل هذا النشاط الرعوي لا يُجدي معه قرار في مكان مع ما يستتبعه من ضآلة السكان ، عرفنا لماذا لمْ يكن لهم من كيان ، فلا دولة ولا شبه دولة كالذي عرفنا في الجنوب , فإذا أعوزتهم الحاجة وقصرت مواردهم عن الوفاء بمتطلباتهم ، لجأوا إلى الغارة والسلب ، وإذاً فهي الحرب المستمرّة والثارات المتعاقبة ، وذلك يتطلب قوّة ، والقوّة في الجماعة ، وإذاً فهي القبيلة المنعة والملاذ ، وهي الحميّة وهي العصبيّة .

3 ـ وبين هؤلاء وهؤلاء قوم تفجّرت من تحت أرجلهم عيون ، وزادوها آباراً احتفروها بأنفسهم ، فنشأت واحات مستقرّة توزّعت بين الجنوب والشمال : كمكّة ويثرب . فكانت محطّات على طُرق التجارة , وهنا نشأ نوع آخر من النشاط , فمن الناس مَن عمل هادياً وسائقاً وحارساً للقوافل ، ومن القبائل مَن اتّخذت نفسها حامية للقوافل المارّة بها نظير جعل مقرّر , ومن القبائل مَن اتّجرت لنفسها بنفسها كقريش بمكّة ، وفي ذلك يحدّثنا القرآن :
( لإيلاَفِ قُرَيشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هذَا الْبَيْتِ * الذي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ )(5) .
والتجارة كرأس مال عامل تحتاج في حفظها إلى مناخ آمن وطمأنينة شائعة ، وهذا ما توفّر لمكّة على وجه الخصوص ، أنّها كانت حرماً آمناً ، وكعبتها مثابةً للناس ومزاراً , ثمّ كانت الأشهر الحُرم التي تواضعوا عليها حفظاً لهذا النشاط أنْ يدوم .
والتجارة في النهاية واسطة بين منتج ومستهلك ، بما يعني ذلك من اتّصال بين الأقوام ، وما يستتبعه من تفاعل بين الثقافات ، وما يتطلّبه من معرفة بالألسن .
فإذا كانت الزراعة مانعة من الانتقال، وكانت البداوة في صحراء شاسعة حاجبة لأهلها من غيرها من الاُمم ، فقد كانت التجارة واسطة العرب في معرفة الاُمم الاُخرى , على أنّ التجارة تصيغ ممارستها صياغة خاصّة ، وتُضفي عليه سمات مميّزة غير تلك التي للبدوي الظاعن والزارع المطمئن . وهذا ما سنعود ـ إنْ شاء الله ـ لبحثه من بعد تلمّسٍ لمفتاح من مفاتيح فهم ما اُستغلق من صراع مستعر نخر في عظام هذه الاُمّة حتّى اليوم , على أنّنا في هذه الجولة ، عنّ لنا سؤال خطير لمْ نظفر له بجواب حتّى الآن ، وهو : لماذا كان هناك عداء مُستحكم مُرّ بين عرب الشمال وعرب الجنوب ؟
لن نسرع هنا بالبحث عن جواب ، وإنّما نُرجئ ذلك إلى ما بعد دراسة نسق القرابة ، فلعلّنا نظفر منه بجواب .


ـــــــــــــــ
(1) د . مصطفى العبادي ، تاريخ العرب قبل الإسلام  ـ بيروت ـ كريديه إخوان ، د . ت .
(2) سورة النمل  / 22 ـ 23 .
(3) سورة سبأ / 15 .
(4) تاريخ العرب ، مصدر سابق / 54 .
(5) سورة قريش / 1 ـ 4 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page