كان النمط السائد للإدارة في العالم : أن الملك هوالمقاول الأكبر ، فيختار وزيره الأول لينفذ أوامره ، ويجبي الماليات من الحكام. ثم يختار حكام الولايات ، ويتفق مع الواحد منهم على المبلغ السنوي عن المنطقة التي تحت يده.
فالمسألة الأولى في الحكم هي الماليات التي تصل الى الحاكم الصغير ثم الكبير. قال الطبري « ٧ / ٣٨٤ » : « كان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل ، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به ، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع ، وموسى على ديوان الخراج ، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى ، يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله ، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم!
فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية وقال : يا نجاح ، خذل الله من يخذلك فبكر إليَّ غداً حتى أدفعهما إليك ، فغدا وقد رتب أصحابه وقال : يا فلان خذ أنت الحسن ، ويا فلان خذ أنت موسى ، فغدا نجاح إلى المتوكل فلقي عبيد الله وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل ، فقال له : يا أبا الفضل إنصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر ، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح. قال : وما هو؟ قال : أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شارباً ، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها ، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين! فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به فأدخلها على المتوكل وقال : يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة ، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا ، فتأخذ ما ضمنا عنه ، ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريباً مما ضمن لك عنهما ، فَسُرَّ المتوكل وطمع فيما قال له عبيد الله ، فقال : إدفعه إليهما ، فانصرفا به وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاً ، فوجد البرد فقال : ويحك يا حسن قد وجدت البرد ، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه وصار به موسى إلى ديوان الخراج ، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد ، فأُخذ أبوالفرج وهرب أبومحمد ابن بنت حسن بن شنيف ، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب ، وكان انقطاعه إلى نجاح ، فأقر لهما نجاح وابنه بنحومن مائة وأربعين ألف دينار ، سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما ، بسامرا وبغداد ، وسوى ضياع لهما كثيرة!
فأمر بقبض ذلك كله ، وضرب مراراً بالمقارع في غير موضع الضرب ، نحواً من مائتي مقرعة ، وغُمز وخُنق ، خنقه موسى الفرانق والمعلوف.فأما الحارث فإنه قال : عَصَرَ خصيتيه حتى مات ، فأصبح ميتاً يوم الإثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة ، فأمر بغسله ودفنه فدفن ليلاً.
وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد ، وإسحاق بن سعد نحواً من خمسين خمسين ، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار ، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار ، وقيل عشرين ألف دينار ، وكان ابنه أحمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح ، فحبس في الديوان وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع ، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما. وأخذ وكيله بناحية السواد وهوابن عياش ، فأقر بعشرين ألف دينار.
وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي ، وحسن بن يعقوب البغدادي ، وأُخذ بسببه قوم فحُبسوا. وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه : ذُكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وكان عبيد الله متمكناً من المتوكل واليه الوزارة وعامة أعماله ، وإلى نجاح توقيع العامة ، فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري ، قال له نجاح وكان في الندماء وقال : يا أمير المؤمنين أسمي لك قوماً تدفعهم إليَّ حتى أستخرج لك منهم أموالاً تبني بها مدينتك هذه ، فإنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره ويجل ذكره؟
فقال له : سمهم ، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك ، وعيسى بن فرخانشاه ، خليفة الحسن بن مخلد ، والحسن بن مخلد ، وزيدان بن إبراهيم خليفة موسى بن عبد الملك ، وعبيد الله بن يحيى وأخويه عبد الله بن يحيى وزكرياء ، وميمون بن إبراهيم ، ومحمد بن موسى المنجم ، وأخاه أحمد بن موسى ، وعلي بن يحيى بن أبي منصور ، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً ، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له : أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك ، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له : يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم ، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!
وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له ، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد ، فقال لهما عبيد الله : إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما ، وأخذ ما تملكان ، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار ، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد ، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن ، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام ، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك ، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد ، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد ، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار ، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق ، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً حتى أطلق أرزاقي ، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً ، كما أخذ فضلاً فحبس ، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم ، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار ، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي ، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار ، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل ، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل ، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه ، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك ، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك ، فقال : أبلغ أمير المؤمنين أني ميت ، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج ، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات ، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح ، فقال لهما المتوكل : إني أريد مالي الذي ضمنتماه ، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة ، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد ، وقبضا أمتعته كلها ، وجميع ملكه ، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين ، وأخذا ما أخذا من أصحابه .. الخ. ».
أقول : هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية ، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص) ، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!
كيف كان المتوكل يدير الدولة؟
- الزيارات: 834