• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

البِناء القِيمي ودلالاته


حاولنا فيما سبق استكشاف مدى فاعليّة أظهر العوامل حسماً في تحديد بنية المجتمع العربي قبل الإسلام , ورغم عدم تطرقّنا إلى كافة العوامل تفصيلاً ، إلاّ أنّ الجانب المتفحَّص منها ـ نظّنه ـ كافياً للإحاطة بالمتنحّى , أو توقّع ماهيته بدرجة كبيرة من الصحّة .
ولمّا كان نسق القيم السّائد في مجتمع بعينه ، يُعدّ مستودع جماع تفاعل الأفراد والجماعات تفاعلاً بيئيّاً واجتماعيّاً ، فإنّ دراسة هذا النّسق تجعلنا نعتقد أنّ بالإمكان توقّع الكشف عن محدّدات هذا المجتمع وغاياته ، وهذا هو همّنا في المقام الأوّل .
وقد أثبتت الدراسات الاجتماعيّة ـ النفسيّة الحديثة(1) ـ أثر طبيعة البِناء الاجتماعي في السلوكيّات الاجتماعيّة . كما أنّ هذه السلوكيّات ـ كما يرى نيوكوم(2) ( Newcomb )  ـ تخضع لنظام متكامل يتمثّل في نسق القيم .
ولعلّ خير دليل على هذه العلاقة ومدى انطباقها على مجتمعا محلّ الدراسة ـ المجتمع العربي قبل الإسلام ـ شهادة شاهد من أهله :
يقول جعفر بن أبي طالب واصفاً مجتمعه في حضرة النّجاشي ملك الحبشة ـ مهجر المسلمين الأوّل ـ عندما استدعاه ؛ ليتبين صحّة دعاوى مبعوثي قريش عمرو بن العاص ومَن معه ؛ لاسترداد المهاجرين وإرجاعهم قسراً إلى مكّة : أيّها الملك ، كنّا أهل جاهليّة نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف ...(3)
ولا يكاد يخرج عن هذا الإطار من التحديد رأي أحد الباحثين المحدثين ، وهو المستشرق جولد تسيهر بقوله(4) : ومن الحقّ أنْ نُلاحظ أنّ الجماعة التي تقوم على حياة القبائل العربيّة وأعرافها وتقاليدها فحسب ، لا يُمكن أنْ يكون لها أخلاق عالية بسبب وثنيتها الغليظة الجوفاء .
لقد كان مسقط رأس مُحمّد (ص) مركزاً من المراكز الهامّة الخطيرة لعبادة الأوثان والأصنام ، كما كان مقرّاً للكعبة المقدّسة والحجر الأسود , ومع هذا كانت الماديّة وكبرياء الجاهلّية وتحكّم الأغنياء في الفقراء ، هي المميّزات السّائدة عند أشراف تلك المدينة الذين كانوا يفيدون من سدانة الكعبة فوائد ماديّة لها خطرها ، إلى جانب ما كان في هذه السّدانة من ميزة دينيّة وشرف قومي . على أنّ لابن خلدون رأياً خطيراً في العرب وقيمهم ، نقتطف منه قوله(5) : بطبيعة التوحّش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث ، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر .
العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب ؛ والسبب في ذلك أنّهم اُمّة وحشيّة باستحكام عوائد التوحّش ، وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً .
وأيضاً , فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ضلال رماحهم ، وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه .
وأيضاً ، فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عند المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض ، وإنّما همّهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو مغرماً . ربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها .
وأيضاً ، فهم متنافسون في الرياسة ، وقلّ أنْ يُسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه كبير عشيرته , إلاّ في الأقلّ وعلى كره . قال الأعرابي الوافد على عبد الملك بن مروان ، لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران ، فقال : تركته يظلم وحده .
والعرب لا يحصل لهم الملك إلاّ بصبغة دينيّة من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة ؛ والسبب في ذلك أنّهم لخُلق التوحّش الذي فيهم أصعب الاُمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة ، وبُعد الهمّة والمنافسة في الرياسة ، فقلّما تجتمع أهواؤهم ، فإذا كان الدين بالنبوّة أو الولاية ، كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلق الكبر والمنافسة منهم ، فسهل انقيادهم واجتماعهم ، وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع من التحاسد والتنافس .
وهم مع ذلك أسرع النّاس قبولاً للحقّ والهُدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات ، وبراءتها من ذميم الأخلاق ، إلاّ ما كان من خُلق التوحّش القريب المعاناة المتهيّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى ، وبعده عمّا ينطبع في النّفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات ، فإنّ : (( كلّ مولودٍ يُولد على الفطرة )) . كما ورد في الحديث .
ويكاد يتطابق مع الآراء السابقة رأي لمستشرق آخر ، وهو بروكلمان بقوله(6) : إذا انتقلنا إلى أحوال بلاد العرب الشمالية , وجدنا الصحراء التي تؤلّف معظم البلاد هي التي تقرّر الأحوال الاجماعيّة .
 والبدوي كائن فردي النزعة مفرط الأنانيّة قبل كلّ شيء . ولا تزال بعض الأحاديث تسمح للعربي الداخل في الإسلام أنْ يقول في دعائه : اللهمّ ، ارحمني ومُحمّداً (ص) ولا ترحمْ معنا أحداً(7) .
ويقول : إنّ حاسّة الشرف الساميّة هي التي تسم جميع أعمال البدوي ، وهي ألأساس الذي ينهض عليه صرح الأخلاق عنده .
تلك إذاً آراء اُختلفت مصادرها وتعدّدت مشارب معتنقيها ، إلاّ أنّها تكاد تجمع على سمات خاصّة لقيم بعينها امتثل لها عرب ما قبل الإسلام . وربما كان أحد الأصول الأولى المنشئة لهذا النّسق من القيم هو انفراط عقد العرب , بحيث لمّ يُدينوا لسلطة جامعة قط .
ورغم ذهاب البعض إلى أنّ العرب في زمانهم ذاك قد خبروا نوعاً من التنظيم السّياسي مثل : ملكيّة كندة في نجد وما وراءها ، ومثل : نظام مكّة , الذي عدّه لامانس جمهوريّة , إلاّ أنّ الواقع أنّ هذه الأنظمة كانت قبليّة محلّية ،
ولمْ ترقَ قط إلى نظام سياسي جامع يلمّ شتات العرب ويخضعهم لسلطة واحدة ، ويشعرون هم أنفسهم بانتمائهم لهذا الكيان الواحد ، شأن الكيانات الاُخرى المعاصرة كالروم والفرس .
هذا الانتماء الشديد المحلّية يُقلّص حتماً الاهتمامات ويحجمها بأبعاده , فلمّا تعدّدت الانتماءات داخل الإقليم الواحد وما نتج عنها من صراعات بينيّة ، انعدمت فيهم رؤية أهداف مشتركة يسعون إليها ، وقصر بهم نظرهم عن البصر بالمصالح التي يمكّنهم اجتماعهم معاً من إدراكها .
على أنّه يبرز هنا تساؤل : فقد تسيّدت بلادهم ، وعلى الأخصّ أطرافها اُمم من غيرهم أحباش وروم وفرس , هذه الاُمم كانت تفرض على العرب دفع الإتاوات وهم صاغرون ، فلماذا لمْ يكن ذلك دافعاً لهم للوحدة والتناصر ذوداً عن حماهم ، ودرءاً لأخطار تغشاهم ، ومنعاً لأرضهم ألاّ تكون مرتعاً لغيرهم ؟
ثمّ ألاَ يتناقض ذلك الخفض وتلك الاستكانة مع ما زعموه من مروءة ، وما تشدقوا به من فروسيّة ، وما كانوا يستذكرونه دوماً من حسن بلائهم في أيّامهم ؟
لمْ تزل تلك سمات الانفراط وعدم الاجتماع المورث للأنانيّة المفرطة ، والمفضي إلى نزوع كلّ امرئ لتلمس حلّ مشكله على مستوى الذات ، والمؤدّي في النّهاية إلى أنْ يكون بأسهم شديداً بينهم وليس على المتربّصين بهم من غيرهم .
ولعلّك تكون على صواب إذا وقفت طويلاً متحيّراً أمام معنى البطولة التي لحقت بسيف بن ذي يزن ، لمّا أراد أنْ يتخلّص من غلبة الأحباش على بلاده اليمن ، فذهب مستنصراً الفرس ليأتي بهم سادة لليمن بدلاً من الأحباش !
ولا يجهد المرء طويلاً في اكتشاف حقيقة عدم تجزّؤ التناقضات , فكما تجدها بيّنة في ناحية مجتمعيّة ، تجدها كذلك في غيرها من النواحي .
وهكذا , فإنّ التناقضات السّابغة للحياة السياسيّة ـ كما رأينا ـ تبدو ماثلة للأعين لأوّل وهلة على المستوى الروحي . فالازدواجيّة والتناقض الصارخ في المعتقد سمتان بيّنتان للحياة الروحيّة لعرب ذلك الزمان .
فقد عرفت أطراف الجزيرة الديانتين : اليهوديّة والمسيحيّة . فكانت اليهوديّة باليمن إضافة إلى بؤر متناثرة شمالاً ، وكانت المسيحيّة بنَجران في الجنوب , كما كانت في غسان وبعض بكر وتغلب وطيء في الشمال , إلاّ أنّ القلب ظلّ وثنيّاً خالصاً بعد أنْ كان حنيفيّاً على دين إبراهيم , فلمّا طال عليهم الأمد ، تحرّفت حنيفيّتهم فلمْ يبقَ منها سوى ممارسات وطقوس يؤدّونها دوريّاً ، وفي مناسبات مختلفة يُشبعون بها حاجاتهم الروحيّة وفق ما هيّئت لها نفوسهم ، وبما يفي بأغراض نشاطهم الاجتماعي .
والأمر المُلفت للنظر ها هنا ، أنّ العرب ظلّوا على التوجّه للكعبة قبلة لهم معظّمة ومزاراً وحجّاً ملّة إبراهيم ، وفي الوقت ذاته اتّخذوا الأصنام والأدوثان آلهة لهم .
وبالرغم من وجود آلهة قوميّة ، كاللات والعزّى وهُبل ، إلاّ أنّه كان هناك العديد من الآلهة القبليّة التي تخصّ قبيلة بعينها ، أو مجموعة من القبائل ، مثل : ود ومناة وإساف ، ونائلة ويغوث وسواع وذريح ... .
على أنّ الأمر الأكثر مدعاة للنظر أنّ العرب ـ بالرغم من وثنيّتهم هذه ـ كانوا يعرفون الله ؛ اقرأ قول زهير بن أبي سُلمى الشاعر الجاهلي :
فلا تكتمن الله ما في صدوركم      لـيخفى ومـهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر      لـيوم الحساب أو يعجلّ فينقم
ثمّ هذا عبد المُطلب جدّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) يطلب من أبرهة الحبشي ردّ إبله عليه لمّا أخذها في غزوة مكّة ، فقال : أنا ربّ الإبل ، وللبيت ربّ يمنعه . ولمّا قفل راجعاً ، أخذ عبد المُطلب بحلقه الكعبة يُناشد ربّه ردّ أبرهة ، فيقول :
يـا رب لا أرجو لهم سواكا      يـا  رب فامنع منهم حما كا
إن  عـدو البيت من عاداكا      امنعهم أن يخربوا فنا كا (8)
إذاً فقد عرف العرب الله وعرفوا أنّه القادر على كلّ شيء وعرفوا يوم الحساب , وبالرغم من ذلك فقد اعتبرهم الإسلام كافرين , فإنّما تنحصر جريرتهم الكبرى في أمرين :
أ ـ اتّخذوا وساطة لله .
ب ـ ولمْ يقدروا الله حقّ قدره .
يقول الله تعالى : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ )(9) . ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ )(10) . ( أَلاَ للّهِ‏ِ الدّينُ الْخَالِصُ وَالذينَ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى‏ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفّارٌ )(11) . ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حقّ قَدْرِهِ )(12) .
 ( يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ )(13) .
وهنا ـ أيضاً ـ تجد التناقض جليّاً في معرفة الله الواحد الخالق القادر مع عبادة الأصنام والأوثان تماماً كالتناقض الماثل في كلّ شيء : التغنّي بالأصول العربيّة الخالصة بالفروسيّة والبطولة والشرف ، وفي الوقت ذاته انقياد وخضوع للغير ، وادّعاء المروءة والكرم ، ثمّ ممارسة الانتهاب والعبث.
على أنّك إنْ طالعت بعض أخبارهم الروحيّة وما يتعلّق بها لها لك ما تقرأ ، ويخيل إليك أنّهم يعيشون حياة روحيّة خالصة ، ثمّ إذا أمعنت الإطلاع لها لك أيضاً سعيهم المادي الحثيث ، وكأنّها حياة ماديّة خالصة لا أثر لروحانيّة فيها .
فهم ـ كما رأيت ـ يُعظّمون الكعبة أيّما تعظيمٍ ، وكذلك يُعظّمون معبوداتهم الاُخرى ويهابونها , حتّى إنّك لترى أحدهم يقسم لينذرن أحد أبنائه ذبحاً إنْ عاش له عشرة . فلمّا تحقّق له ما تمنّى ، لمْ يستطع تحلّة قسمه إلاّ بشقّ النّفس ، وبعدما استعاض عنه بالعدد الوفير من إبله مصدر رزقه .
وهم إنْ خرجوا لقتال طافوا بالكعبة ، والتمسوا بركة ورضا معبوداتهم ، ثمّ إذا أحرزوا نصراً نحروا لها الجزر , وإذا أصابهم خير ساقوا إبلهم هدياً ، وابتدعوا لها طقوساً وطرائق عدداً من : بَحيرة وسَائبة ووصِيلة وحَام .
وهم على ذلك مُقبلون على الحياة مُمعنين في ماديّتهم مسرفين على أنفسهم أيّما إسرافٍ ، لا يضبط معاملتهم قانون ، والعرف لديهم يحكمه القادرون ، فالحياة عندهم تنقضي بين إغارة ونهب واستلاب ، وملاهي وخمر وشراب ، وهياج المشاعر لأوهن الأسباب ، ومفاخرة ومعاظمة حتّى في البلاء . هذا طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي ، يقول :
فـإن  تبغني في حلقة القوم تلقني      وإن تلتمسني في الحوانيت تصطَدِ
وما  زال تشرابي الخمور ولذتي       وبـيعي  وإنفاقي طريقي ومتلدي
وهذا أعشى قيس الشاعر الجاهلي أيضاً ، يقول :
من خمر عانة قد أتى لختامها     حولٌ تسلُ غمامة المزكوم
وبلغ ولعهم بالشراب والمجون أنّك لا تكاد تقرأ شعراً جاهليّاً ـ والشعر ديوان العرب ـ لشاعر منهم إلاّ وتجد فيه ذكر الشراب والغناء(14) .
وقد روى الطبري ـ فيما رواه عن وقعة بدر الكبرى ـ حادثة تدلّ على أنّ هذا السّلوك كان شائعاً فيهم ، ذلك أنّ أبا جهل رفض أنْ تعود قريش من حيث أتت ، لمّا جاءت تمنع عيرها ألاّ يحرزه المسلمون بعد أنْ أفلت بالعير أبو سفيان ، فاقسم أبو جهل قائلاً : والله ، لا نرجع حتّى نرد بدراً فنُقيم عليه ثلاثاً ، وننحر الجزر  ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان(15) .
وقد مرّ بنا شيوع أمر البغايا حتّى عدّته السيّدة عائشة زوج الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، أحد أربعة أنحاء لنكاح الجاهليّة ، بقولها : يجتمع النّاس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممّن جاءها ، وهنّ البغايا كنّ يُنصبن على أبوابهنّ راياتٍ تكون علماً ، فمَن أرادهن دخل عليهنّ . بل تُحدّثنا الأخبار أنّ ممارسة البغاء كانت أداة تكسب وتكثر للسادة منهم ، وفيهم نزل قرآن : ( وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا )(16) .
ويقول ابن كثير في تفسير الآية(17) : كان أهل الجاهليّة إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت .
ويضرب مثلاً لذلك بعبد الله بن أبي بن سلول : فإنّه كان له إماء ، فكان يُكرههنّ على البغاء طلباً لخراجهنّ ، ورغبة في أولادهنّ ورياسة منه فيما يزعم .
فهذا خمر ولهو وعزف قيان وبغاء ، وهذه مفاخرة يلتمس كلّ أسبابها بالحقّ وبالباطل معاً ، خدمة لأعراض العصبيّة , وكلّما قُويت معاني المفاخرة عدّت بدورها سبباً آخر للمفاخرة .
تمعّن معلقة عمرو بن كلثوم من بني تغلب يفاخر بكر بن وائل ، تقف على أعماق دخائل النّفوس التي شكلّتها قِيم العصبيّة ، وما جرته من حروب . يقول الشاعر في أثر هذه المفاخرة :
الهي بني تغلب عن كلّ مكرمة        قـصيدة قـالها عمرو بن كلثوم
يـفاخرون بـها مذ كان أولهم        يـا  لـلرجل لشعر غير مسؤوم
ونقتطف من هذه المعلقة ، قوله :
ورثنا  المجدّ من عليا معد      نـطاعنُ  دونه حتّى يبينا
كـأنّ  سـيوفنا منا ومنهم      مـخاريق بـأيدي لاعبينا
ألا  لا يـجهلن أحد علينا      فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقد عَلِم َالقبائلُ من مَعد      إذا  قببٌ بأبطحها بنينا
بأنّا المطعمون إذا قدرنا      وأنّا المهلكون إذا ابتلينا
وأنّـا  الـمانعون لـما أردنا      وأنّـا  الـنّازلون بحيث شينا
وأنّـا  الـتاركون إذا سخطنا      وأنّـا الآخـذون إذا رضـينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً      ويـشرب  غيرنا كدراً وطينا
إذا  ما الملكُ سام النّاس خسفاً      أبـينا  أنّ نـقر الخسف فينا
لـنا  الدنيا ومن أمسى عليها       ونـبطشُ حين نبطش قادرينا
مـلأنا الـبر حتّى ضاق عنا      ومـاء الـبحر نـملؤه سفينا
إذا بـلغ الـفطام لـنا صبيٌ      تـخر لـه الـجبابرُ ساجدينا
وقد تفهم للمفاخرة أسبابها وتقدر للمقارعة ظروفها ، وأمّا المعاظمة في المصائب ، فيصعب على المرء أنْ يسيغها إلاّ أنْ تكون الرغبة الجامعة في علوّ الذكر وذيوع الخبر ، وإشباع الكبر وإثبات الفضل ، ولو كانت سُبلها المصائب .
هذه هند بنت عتبة اُمّ معاوية بن أبي سفيان تُعاظم الخنساء بقولها(18) : أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة ؛ ذلك أنّ عليّ بن أبي طالب (ع) وعمّه حمزة برزا في وقعة بدر لأبيها عتبة بن ربيعة ، وعمّها شيبة بن ربيعة وأخيها الوليد ، فقتلاهم جميعاً . فجعلت هند تَرد عُكاظ في الموسم ، تسوم هودجها براية ، تظاهر بها الخنساء وتعاظم العرب ، فتقول :
أبـكي  عـميدَ الأبطحين كليهما      وحـاميهما مـن كلّ باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحكِ فاعلمي      وشـيبة والـحامي الذمار وليدها
أُولـئك آل الـمجد من آل غالب      وفي العزّ منها حين ينمى عديدها
وكلّ جماعة ـ سواء أوغلت في البدائيّة أو أصابت حظّاً من حضارة ـ تتعارف على معايير وضوابط تحكم به تعاملات أفرادها ؛ حفظاً لتماسك الجماعة وضماناً لاستقرارها , وقد يناط إعمال هذه الضوابط بقوّة خارجيّة تتمثّل في سلطة قاهرة على الأفراد ، أو بقوّة داخليّة تعتمد على تنمية الضابط الخفيّ لدى الفرد وحفزه بلا انقطاع ، ويتمثّل ذلك بالأساس في فكرة الدين .
فالدين نسق ينتظم قِيماً يتوقّع منها التأثير المباشر في معاملات الأفراد والجماعات , وبقدر تمثّل هذه القِيم تتحقّق المواءمة في المجتمع ، وتتحدّد بالتالي درجة التماسك .
وقد ذهب بعض علماء الاجتماع مثل تالكوت بارسونز(19) إلى اعتبار أنّ القِيم والمعايير تُمثّل محدّدات مطلقة للفاعل ، كما أنّها تخلق درجة من الانتظام والترابط بين وحدات السّلوك المختلفة ، بحيث يمكن القول : إنّ وحدات السّلوك المختلفة المشكلة لمختلف الأفعال الاجتماعيّة ، تسبح جميعاً في بحر من القِيم والمعايير .
وتنشأ مشكلة اللانظام ـ أو بتعبير آخر الصراع ـ عندما يكون نسق القِيم مُفترقاً عن درجة نضج المجتمع ، أو عاجزاً عن تمثّل غايات وحداته ، وكذلك في المقابل عندما تسعى إحدى وحدات المجتمع إلى درجة من الإشباع لا يحتملها النّسق .
وعلى الرغم من أنّ المجتمعات دائماً ما تستحدث لنفسها آليات تلقائيّة لإحداث توازن بنيوي مواصل ، إلاّ أنّ نجاح هذه الآليات رهين بكفاءتها ومعدّل سرعتها في الاستجابة ، وبالتالي فهي معرّضة للنجاح والفشل ، ومن هنا ينشأ الصراع .
وفي مجتمعنا هذا الذي ندرسه ، ربما كان حلف الفضول بمثابة إحدى هذه الآليات التي استحدثها المجتمع في محاولته الأخيرة للحفاظ على النّظام لمّا شاعت الفاحشة وعمّ الظلم ، فتداعت بعض فصائل المجتمع المكّي لإنشاء حلف الفضول ، وتعاهدوا ألاّ يقرّوا ببطن مكّة ظالماً , وفيه يقول عمرو بن عوف الجرهمي(20) :
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا      أن لا يـقر ببطن مكّة ظالم
أمر  عليه تعاهدوا وتواثقوا       فـالجار  والمعتر فيهم سالم
وهذا يدلّنا دلالة مباشرة على أحد مظاهر الصراع داخل هذا المجتمع ، الذي أسهمت الجماعات ذات القوّة بكافة أشكالها بالنّصيب الأوفر في تحديد معاييره ، فمن الطبيعي إذاً تحقيق هذه المعايير لمصالح وطموحات هذه الجماعات خصماً من رصيد باقي المجتمع .
ومن هذا المنطلق سادت معاملات ماديّة وتجاريّة لا تتّصل بسبب بمعايير أخلاقيّة ، فكان هناك بيوع الغرر والنّجش ، وبيع الحاضر للبادي وتلقّي الركبان ؛ وكلّ هذه الأنواع تجمعها صفة واحدة ، هي : الختل والخديعة .
ولعلّ أخطر ما مارسه العرب في معاملاتهم الماليّة هو الرّبا فضلاً ونسيئة : تراكم المال المتّصل في أيدي حفنة قليلين ، وخسارة ونقص مستمرينِ في الجانب الآخر ، وأثرة تدعو لمزيد من الأثرة في جانب ، واضطرار يدعو للحنق والحقد في الجانب المقابل ، ممّا يعني في النّهاية توتر النّظام ككلّ ، وتعميق عوامل الصراع وانحسار المال دولة بين الأغنياء , ولعلّ في ذلك مكمن علّة العقوبة الفريدة التي أفردها النّظام الإسلامي لتلك المعاملة ، حرب من الله ورسوله بقوله تعالى : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ )(21) .
يقول النّيسابوري(22) : إنّها نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وقِيل : كذلك في العبّاس وعثمان بن عفّان وخالد بن الوليد ، أنّهم كانوا يربون قبل فتح مكّة .
على أنّ الحقّ أنّ هذا المجتمع شأنه في ذلك شأن كلّ المجتمعات ، لمْ يكن خلواً قط من القِيم المعتبرة لدى كلّ المجتمعات ، أنّها قِيم خير . ولا يعني ذلك أنْ تجد لهذه القِيم تطبيقاً مباشراً في السّلوك ، ولكنّها قد تظلّ على مستوى المُثل العُليا التي يتواضع النّاس على احترامها وإنْ لمْ يُدركوها ، كما تظلّ قطب جذب لهم وإنْ بعدوا عنها .
مثال ذلك الكرم الذي يرى الباحثون(23) أنّه قِيمة مشتركة بين كلّ الشعوب الرعويّة ، والذي غلا فيه بعضهم كحاتم الطائي حتّى عُدّ كرمه مضرباً للأمثال .
ومثال ذلك أيضاً الأنفة وعلوّ الهمّة حمّى للذمار وإنْ أُطّرت ـ كما أسلفنا ـ بأُطر الحميّة العصبيّة الضيقة التي أفقدتها قيمتها الأعمق والأشمل ، وأبعدتها عن توظيفها من جلّ عافية المجتمع ككلّ ، ولكنّها مع ذلك ظلّت قابلة لهذا التوظيف ، خاصّة وقد ارتبطت بفطرة قويّة غير معوجة ، كما قال ابن خلدون .

ـــــــــــــــ
(1) وليم و . لامبرت ، دولاس أ . لامبرت ، ترجمة د . سلوى الملاّ ، علم النّفس الاجتماعي / 202 ,  القاهرة ,  دار الشروق / 1989 م .
 (2) د . محيي الدين حسين ، القيم الخاصّة لدى المبدعين / 21 , القاهرة ,  دار المعراف / 1981 م .
 (3) ابن الأثير ، المرجع السابق 1 / 599 .
 (4) جولد تسيهر ، العقيدة والشريعة في الإسلام / 7 , بيروت ,  دار الرائد العربي / 1946 م .
 (5) ابن خلدون ، التاريخ ، المرجع السابق 1 / 125 .
 (6) تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، المرجع السابق / 18 .
 (7) هذا الذي أورده بروكلمان تجد تفصيله في البخاري ، كتاب الأدب كالتالي : عن أبي هريرة ، قال : قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في صلاة وقمنا معه ، فقال أعرابي ، وهو في الصلاة : اللهمّ ، ارحمني ومحمّداً (ص) ولا ترحمْ معنا أحداً . فلمّا سلّم النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، قال للأعرابي : (( لقد حجَرت واسعاً )) . يُريد رحمة الله .
 (8) ابن الأثير ، المرجع السابق 1 / 343 .
 (9) سورة لقمان / 25 .
 (10) سورة الزخرف / 87 .
 (11) سورة الزمر / 3 .
 (12) سورة الأنعام / 91 .
 (13) سورة آل عمران / 154 .
(14) د . شوقي ضيف ، الشعر والغناء في المدينة ومكّة /  178 , القاهرة , دار المعارف / 1979 م .
 (15) تاريخ الطبري ، المرجع السابق 2 / 438 .
 (16) سورة النّور / 33 .
 (17) تفسير ابن كثير , القاهرة , المكتبة التوفيقيّة .
(18) أبو الفرج الأصفهاني ، الأغاني 4 / 211 ,  بيروت ,  دار الكتب العلميّة .
 (19) د . أحمد أبو زيد ، علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكيّة والنّقديّة / 121 , القاهرة , دار المعارف / 1984 م .
 (20) ابن الأثير ، المصدر السابق 1 / 570 .
 (21) سورة البقرة / 279 .
 (22) النّيسابوري ، أسباب النّزول / 65 , القاهرة ,  مكتبة الجمهوريّة .
 (23) د . أحمد أبو زيد ، المرجع السابق .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page