• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

3 ـ الهزء باحكام الشرع


قد تختلف وجهات النظر في مسألة يجوز فيها الاجتهاد ، وقد يتأوّل متأوّل أمراً يخضع لشروط التأويل , وأمّا أنْ يجاهر أحد بمخالفة حكم محكم لا سبيل إلى الاجتهاد فيه أو تأوّله ، وليس له سابقة أو نظير في حكم الإسلام ، فقد أخرج نفسه بنفسه من الإسلام .
فما بالك بالمنوط به القيام بشرع الله ، فحكم بغير ما أنزل الله ، مصرّاً على ما فعل ؟
فذاك بيان ما فعله معاوية بن أبي سفيان في قضيّة استلحاقه زياداً بن سميّة . فقد وُلد زياد في فراش عبيد الرومي ، الذي زوّجه سميّة الحارث بن كلدة الثقفي ، بعد أن وهبه له أحد دهاقين الفرس . ثمّ حدث أنْ ذكر أبو سفيان زناه بسميّة ـ عندما أتاه بها أبو مريم السلولي وهو خمّار بالطائف ـ وأنّ زياداً وُلد هذا الزنى . إلاّ أنّ معاوية ـ بعد طول عهد ـ استحلق زياداً ودعاه : زياد ابن أبي سفيان .
وحكم الإسلام في هذه القضيّة واضح مشهور ، وهو : (( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر )) . وعليه يكون زياد لعبيد ، ولا نسب يصحّ لأبي سفيان ، طبقاً لحديث البخاري عن عائشة :
كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أن ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه . قالت : فلمّا كان عام الفتح ، أخذه سعد بن أبي وقّاص ، وقال : ابن أخي قد عهد إليّ فيه . فقام عبد بن زمعة ، فقال : أخي ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، فتساوقا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فقال سعد : يا رسول الله ، ابن أخي كان قد عهد إليّ فيه . فقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه .
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( هو لك يا عبد بن زمعة )) . ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر )) . ثمّ قال لسودة بنت زمعة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( احتجبي منه )) . لما رأى من شبهه بعتبة ، فما رآها حتّى لقي الله .
ومعنى (( وللعاهر حجر )) : وله الخيبة ، ولا حقّ له في الولد ، كما قال الفقهاء(1) . وقال سعيد بن المسيّب : أوّل قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد .
وأكّد الحسن البصري(2) أنّ هذه الفعلة من معاوية موبقة له ، إذ ذكر أنّها واحدة من أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت له موبقة ، ومنها : ادعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر )) .
وعظّم ابن الأثير أمر هذا الاستلحاق حتّى إنّه لمْ يرتضِ إيجاز الطبري له ، فقال(3) : إنّه من الأمور المشهورة الكبيرة في الإسلام ، لا ينبغي إهمالها . ثمّ وصّف هذا الاستلحاق ـ بعد سرد تفاصيله ـ قائلاً : وكان استلحاقه أوّل ما ردّت به أحكام الشريعة علانيّة ، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بـ (( الولد للفراش ، وللعاهر بالحجر )) . ثمّ علّق على مَن يُحاول تبرير فعلة معاوية ، قائلاً : وهذا مردود لاتّفاق المسلمين على إنكاره , ولأنّه لمْ يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجّة .
وقال السيوطي(4) : هي أوّل قضيّة غُيّر فيها حكم النبي (صلّى الله عليه وآله) في الإسلام .
فإذا كان هذا الحكم من الجلاء ، بحيث قِيل فيه كلّ ما سبق ، أفيحقّ لابن العربي(5) أنْ يأتي زاعماً : أنّ ذلك الاستلحاق كان اجتهاداً من معاوية ؟ أمْ أنّه يُشاركه بذلك إثم تبرير مخالفة أحكام الشرع ؟
الواقع أنّ كلّ الأحداث التي مررنا بها تؤكّد وتثبت صحّة ما افترضناه من قبل ، من خُطّة معاوية وبني اُميّة في السلطة والسيادة مطلقاً ، دون ما اعتبار أو اكتراث بالغرض الأساسي من الخلافة في إقامة شرع الله . وإنّما سلكوا المسلك النفعي البحت الذي يُدركون به توكيد سلطانهم .
وقد رأينا من قبل صفقة معاوية وعمرو بن العاص ، ودرسنا التأوّل الفاسد في قتل عمّار بن ياسر ، وتابعنا رشوة القوّاد ، وإغواء المتردّدين ، وإطماع الآخرين , فلا تشذّ إذاً قضيّة استلحاق زياد عن هذا المنهج العامّ .
وإنّما أراد معاوية ـ بعد أنْ تمّ له الأمر بقتل عليّ (ع) وتنازل الحسن (ع) ـ ضمّ فارس التي غلب عليها زياد وتحصّن بها ، بعد أنْ استعصى عليه بالتهديد فاحتال عليه ، ولمْ يزل يوسوس له ويرغّب له فيه حتّى أزلّه .
وكان بعض خُطّة معاوية لخلخلة نظام خلافة عليّ (ع) اختراق جبهته من الداخل ، بإفساد ذمم قوّاده والمحيطين به بالشراء والوعد تارةً ، وبالتهديد والوعيد تارةً اُخرى , حدث ذلك مع قيس بن سعد عامل عليّ  (ع) على مصر ـ كما ذكرنا ـ وحدث ذلك إبّان صفّين مع أمير خيّالة عليّ (ع) ومع غيره من رؤوس القبائل ، وكذلك حدث مع زياد .
يذكر ابن الأثير(6) : كتب معاوية إلى زياد يتهدّده ، ويعرض له بولادة أبي سفيان إيّاه .
وبلغ ذلك عليّاً (ع) ، فكتب إلى زياد : (( إنّي ولّيتك ما ولّيتك ، وأنا أراك له أهلاً ، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل ، وكذب النفس ، لا تُوجب له ميراثاً ولا تحلّ له نسباً . وإنّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ،  ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فاحذر ثمّ احذر . والسّلام )) .
إلاّ أنّ معاوية ظلّ يتعهّد زياداً بالغواية ويُحيطه بحبائله حتّى وقع في شركه ، فتحوّل من النقيض إلى النقيض في تبدّل مُذهل قلّما تجد له نظيراً ، ولكنّه يكشف عن مدى تعقيد النفس البشريّة وما تنطوي عليه من قابليّات لاحتمالات متعدّدة يخضع تغليب أحدها لحدّ كبير إلى طبيعة المناخ العام السائد , ولذلك فإنّ الإنسان يظلّ ذا احتمالات مفتوحة لا تنقضي إلى أنْ يُقضى ، إلاّ مَن رحم الله فكان ذا عزم يتأبّى على نوازع التردّي .
ومن هنا فإنّ الإسلام بمشروطيّاته الاجتماعيّة في ربطه العضوي بين العقيدة والعبادة والمعاملة ، إنما يكفل الشرط الضروري لزيادة الممانعة ضدّ تسرب عوامل الوهن ، في الوقت الذي تزيد تأهيل الإنسان لممارسة دور إيجابي وحيويّ وفعّال في الحياة , ومن هنا ـ أيضاً ـ كان اختزال المعادلة الدينيّة في علاقة عباديّة فرديّة ـ كما يُريد العلمانيّون ـ بمثابة الحصر الجبري للإنسان الذي يجعل تمسّكه حتّى بهذه العلاقة الفرديّة كالقابض على الجمر .
إنّنا لا نغلو إذا قلنا : إنّ أوّل نظام علماني في المجتمع الإسلامي بعد دولة الخلافة ، كان نظام حكم معاوية .
وعودة إلى زياد ، فإنّ أبا بكرة ـ أخا زياد ـ كان ينكر عليه فعلته بشدّة , وذكر ابن كثير(7) : عن أبي عثمان قال : لمّا ادّعى زياد لقيت أبا بكره ، فقلت:
ما هذا الذي صنعتم ؟ سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول : سمعتْ أُذني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يقول : (( مَن ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه ، فالجنّة عليه حرام )) . فقال أبو بكرة : وأنا سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وقال ابن عبّاس في تفسير قول الله تعالى : ( وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ * هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ )(8) . أنّ الزنيم هو المُلحق النسب .
وكما أنكر أخو زياد ، فقد أنكره غيره ممّن بقيت فيهم روح الإسلامي ، غير آبهين بتعذيب معاوية واضطهاده ، فالأمر جليل ، إذ هو ـ كما يقول ابن الأثير ـ أوّل ردّ علني مكشوف وبلا مداراة لأحكام الشريعة .
يقول ابن مفرغ الحميري(9) :
ألا  أبـلغ معاوية بن صخر      مـغلغلةً عن الرجل اليماني
أتغضب  أن يقال أبوك عف      وترضى أن يقال أبوك زاني
فـأشهد  أن رحمك من زياد      كـرحم الفيل من ولد الأتان
وأشـهد أنـها ولدت زيادا ً      وصخر  من سمية غير دان

* * *
على أنّ معاوية لمْ يجد غضاضة في التجاهل التامّ لأحكام الشرع ، فيقول(10) : وإنّي لمْ أتكّثر بزياد من قلّة ، ولمْ أتعزّز به من ذلّة ، ولكن عرفت حقّاً له فوضعته موضعه .
والأعجب من تَجاهل معاوية متابعة المبرّرين لأفعاله ، مثل ابن العربي الذي يتساءل ـ مفترضاً الغفلة التامّة بأحكام الشرع لدى الآخرين ـ بقوله : وأيّ عار على أبي سفيان ، في أنْ يليط بنفسه ولد زنىً كان في الجاهليّة ؟
ولكن السؤال الذي يسأله معاوية : لماذا تذكر فجأة هذا الحقّ لزياد ؟ فقد ولد زياد عام الفتح ، وأعلن أبو سفيان عن زناه زمن عمر ، ولمْ يستلحقه معاوية إلاّ عام ( 44هـ ) ، أي : بعدما يزيد عن خمسة وثلاثين عاماً من دخول معاوية وأبيه في الإسلام طليقين عام الفتح ، أو بعد ما يزيد عن واحد وعشرين عاماً من وفاة عمر . إنّها النفعيّة رائدة الباطل أبداً .
ومن سهل عليه ردّ الشرع ، يسهل عليه غيرها ، فكذلك كان معاوية صاحب أوّل حدّ تُرك في الإسلام . يذكر الماوردي(11) : أنّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم إلاّ واحداً ، تمثّل له ببعض أبيات الشعر فخلّى سبيله . ويعلّق على ذلك بقوله : فكان أوّل حدّ تُرك في الإسلام .
ويذكر ابن كثير(12) من محدثات معاوية في الإسلام عن الزهري ، قوله : مضت السنّة أنْ لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ، وأوّل من ورث المسلم من الكافر معاوية ، وقضى بذلك بنو اُمّية بعده حتّى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنّة ، ومضت السنّة أنّ ديّة المعاهد كديّة المسلم ، وكان معاوية أوّل من قصرها إلى النصف ، وأخذ النصف لنفسه .
وكما خالف السنّة في المعاهدين ، فكذلك لمْ يفِ بعهد قبط مصر ، كدأبه دائماً في العهود التي لا تحقّق له نفعاً ، وربما أجبرته الظروف على بذلها مثلما فعل في نقضه عهده للحسن بن عليّ (عليهما السّلام) ـ فيروي المقريزي(13) :
كتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان ، وكان قد ولي خراج مصر : أنْ زد على كلّ رجل من القبط قيراطاً . فكتب إليه وردان : كيف تُزيد عليهم وفي عهدهم أنْ لا يُزاد عليهم شيء ؟ فعزله معاوية .
ثمّ ألاّ تتذكرون خطبة معاوية في أهل الكوفة بعد استتباب الأمر له : كلّ شرط شرطته ، فتحت قدميّ هاتين .
وبعد ، ألمَ يثبت إذاً وصف عليّ (ع) لمعاوية : (( وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي ، وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ ))  .

ـــــــــــــــ
(1) انظر : الفقه على المذاهب الأربعة ، مرجع سابق 5 / 120 . الموطّأ للإمام مالك ، كتاب الأقضية ، باب : القضاء بالحق الولد بأبيه .
(2) الطبري ، مرجع سابق 5 / 279 .
(3) الكامل ، مرجع سابق 3 / 300 .
(4) تاريخ الخلفاء ، مرجع سابق / 196 .
(5) العواصم من القواصم ، مرجع سابق /250 .
(6) الكامل ، مرجع سابق / 301 .
(7) البداية والنهاية ، مرجع سابق 8 / 29 .
(8) سورة القلم / 10 ـ 13 .
(9) جرجي زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربيّة ، مرجع سابق 1 / 244 .
(10) الطبري ، مرجع سابق 5 / 215 .
(11) الأحكام السلطاني ، مرجع سابق / 284 .
(12) البداية والنهاية ، مرجع سابق 8 / 141 .
(13) الخطط ، مرجع سابق 1 / 79 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page