ولكن ابن خلدون يأتينا بتفسير لاشتراط القرشيّة باعتبار المقصد الشرعي منه ، وهو اجتماع كلمة الاُمّة دون المزاحمة والخلاف , وما يضمن ذلك ـ من وجهة نظره ـ هو شوكة العصبيّة المتوفّرة في قريش دون سائر العرب . يقول ابن خلدون(2) : إنّ الأحكام الشرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ، ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي وقصد الشارع منه لمْ يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النبي (صلّى الله عليه وآله) كما هو في المشهور ، وإنْ كانت تلك الوصلة موجودة والتبرّك بوصلة النبي (صلّى الله عليه وآله) كما هو في المشهور ، وإنْ كانت تلك الوصلة موجودة والتبرّك بها حاصلاً ، لكن التبرّك ليس من المقاصد الشرعيّة كما علمت ، فلا بدّ إذاً من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيّتها .
وإذا سبرنا وقسّمنا لمْ نجدها إلاّ اعتبار العصبيّة التي تكون بها الحماية والمطالبة ، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب ، فتسكن إليه الملّة وأهلها ، وينتظم حبل الألفة فيها ؛ وذلك أنّ قريشاً كانوا عُصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم ، وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشرف , فكان سائر الناس يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم ، فلو جُعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم .
وواضح من كلام ابن خلدون ، أنّه أمعن في اعتماد المفهوم القبلي المؤسّس على العصبيّة وشوكتها ، وكأنّه يتحدّث عن مجتمع لا صلة له بالإسلام ، وإنْ كسا تفسيره بحلّة المقصد الشرعي .
والجواب على بطلان ما ذهب إليه ابن خلدون من عدّة وجوه :
أ ـ اختلف العرب في أيٍّ من قبائلهم وبطونهم كانت السيادة والشرف , ولمْ يحدث أنْ اجتمعوا قط على أنّها كانت في قريش على حدّ زعم ابن خلدون .
فهذا نسّاب(3) يُجيب معاوية عندما سأله : أخبرني عن أشرف بيت في العرب ؟ قال : بنو أسد . وبنو أسد هم بنو خزيمة بن عامر بن إلياس بن مضر ، وليسوا من بني النضر بن كنانة ، فليسوا إذاً من قريش على من حصر قريش في ولد النضر ، فضلاً عن أنْ يكونوا من ولد فهر بن مالك .
وقال آخرون(4) : إنّ أشرف بيت في مضر غير مدافع في الجاهليّة ، بيت بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
وتميم من مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر , وهؤلاء ، كبني أسد في اختلافهم عن قريش .
وعندما سأل(5) عبد الملك بن مروان يوماً جلساءه : أخبروني عن حيّ من أحياء العرب فيهم أشدّ الناس ، وأسخى الناس وأخطب الناس ، وأطوع الناس في قومه وأحلم الناس ، وأحضرهم جواباً . قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما نعرف هذه القبيلة ولكن ينبغي لها أنْ تكون في قريش . قال : لا . فقالوا : ففي حِمير وملوكها ؟ قال : لا . قالوا : ففي مضر ؟ قال : لا . قال مصقلة بن رقية العبدي : فهي إذاً في ربيعة ونحن هم . قال : نعم .
وربيعة هؤلاء ، هم : بنو نزار بن معد بن عدنان ، وهم أبعد عن قريش من أسد .
وإذا اطلعت على منازل هؤلاء وهؤلاء ، لوجدتها بعيدة كلّ البعد عن مكّة ، فلمْ يكونوا إذاً من سكّان حرم الله . وإذا أُدخل البعض تميماً في قريش ـ على ما سبق بيانه ـ فإنّها تنزل كذلك بعيداً عن مكّة ، ويُشاركها في منازلها ويُتاخمها غيرها من القبائل , فهل من سبب يُعقل إذاً ليميزها مع المتميّزين في جعل الإمامة فيهم ، على من جعل الفضل في ساكني مكّة من قريش ؟
إنّك لا تجد ردّاً على ذلك أبلغ من قول صعصعة بن صوحان لمعاوية : فلعمري ما الأرض تقدّس الناس ، ولا يقدّس الناس إلاّ أعمالهم .
ثمّ اقرأ شعر الفرزدق(6) ، ترَ أنّه يميّز تميماً من قريش ، ويُفاخر بها :
فإن تغضب قريش أو تغضّب فـإن الأرض تـوعبها تميم
هـم عـدد النجوم وكل حي سـواهـم لا تـعدله نـجوم
وكذلك يدحض زعم ابن خلدون ، ما جاء على ألسنة المسيّرين عنوة من الكوفة إلى الشام في عهد عثمان بن عفّان , لمّا قال سعيد بن العاص عامل عثمان على الكوفة ـ وقد سبق ذكره(7) ـ : إنّما هذا السواد بستان لقريش . فردّ عليه مالك الأشتر مقالته . ولمّا سيّروا إلى معاوية ، قال لهم : قد بلغني أنّكم نقمتم قريشاً ، وإنّ قريشاً لو لمْ تكن ، عدّتم أذلّة كما كنتم . فقال صعصعة من المسيّرين : أمّا ما ذكرت من قريش ، فإنّها لمْ تكن أكثر العرب ، ولا أمنعها في الجاهليّة فتخوّفنا .
فإذا كان الأمر كذلك ، فمن أين أتى ابن خلدون بزعمه : أنّ قريشاً كانت أكثر العرب وأشدّها عصبيّة ؟!
ب ـ ولو أنّ مدار الأمر على الشوكة العصبيّة كما يزعم ابن خلدون ، واعتباره أنّ ذلك ممّا يتوسّل به الشرع لاجتماع الكلمة ، فكيف يبرز إذاً مال الأمر إلى أبي بكر وعمر ، مع ما هو معلوم أنّهما لمْ يكونا ذوي عصبيّة تقارن بأصحاب العصبيّات الأشدّ في مجتمعهم .
وآية ذلك نظرة المعاصرين أنفسهم لتلك الأحداث , فهذا أبو سفيان ـ مع أسبابه الخاصّة ـ يقول(8) عقب تولية أبي بكر : ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ! والله ، لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجالاً .
ثمّ يقول : والله ، إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم ! يا آل عبد مناف ، فيمَ أبو بكر من أموركم ؟
ثمّ قالها بعد تولية عثمان : فيم تيم وعدي من أموركم ؟
بل إنّ أبا قحافة والد أبي بكر ، وهو العليم بالتضاريس القبليّة ، عجب لتولّي ابنه الخلافة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ إذ قال لمّا سمع هذا الخبر(9) : أمر جلل ، فمَن قام بالأمر بعده ؟ قالوا : ابنك . قال : فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة ؟ قالوا : نعم . قال : لا واضع لمَا رفعت ، ولا رافع لمَا وضعت .
ثمّ لعلّ الدليل التاريخي أدحض لرأي ابن خلدون من غيره ، فإنّه ما أنْ تولّى أبو بكر حتّى انتفضت العرب قاطبة إلاّ قليلاً منهم ، وتمردت على حكم قريش الذي زعم ابن خلدون ، أنّه ادعى لاجتماع الكلمة . يذكر الطبري(10) : لمّا مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وفُصل اُسامة ارتدّت العرب خواصّ أو عوامّ .
ت ـ ثمّ بماذا يُفسّر ابن خلدون ، قول الله تعالى :
( وَنُرِيدُ أَنْ نّمُنّ عَلَى الذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ )(11) .
ثمّ هذا هو رسول الله لوط (عليه السّلام) ، يظنّ أنّ المنعة في العشيرة في قول الله تعالى حكاية عنه : ( قَالَ لَوْ أَنّ لِي بِكُمْ قُوّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ )(12) . فيروي المفسّرون أنّ الملائكة وجدت عليه لقوله ذاك ، وقالوا : إنّ ركنك لشديد وهو الله عزّ وجلّ .
ويروي البخاري قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( يرحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد )) .
ويتساءل رشيد رضا في معرض استنكاره لرأي ابن خلدون، قائلاً(13) : ألمْ يكن جلّ اضطهاده (صلّى الله عليه وآله) وصدّه عن تبليغ دعوة ربّه من رؤساء قريش؟ ألمْ يكونوا هم الذين ألجؤوه إلى الهجرة ؟
ـــــــــــــــ
(1) عن أطلس تاريخ الإسلام ، مرجع سابق .
(2) المقدمة ، مرجع سابق / 162 .
(3) العقد الفريد ، مرجع سابق 3 / 79 .
(4) المرجع السابق
(5) المرجع السابق / 99 .
(6) الأغاني ، مرجع سابق 21 / 297 .
(7) الطبري ، مرجع سابق ، أحداث عام 33 هـ .
(8) المرجع السابق 3 / 209 .
(9) تاريخ الخلفاء ، مرجع سابق / 72 .
(10) مرجع سابق 3 / 242 .
(11) سورة القصص / 5 .
(12) سورة هود / 80 .
(13) الخلافة ، مرجع سابق / 149 .
شجرة أنساب كنانة (1)
- الزيارات: 1154