• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

شيوع ردّ الأحكام البيّنة


تحفل كتب التاريخ والفقه بكثير من المخالفات والأحدوثات لأحكام الشرع ، نُورد بعضها لترى كيف وقع الناس ـ في الصدر الأوّل للإسلام ـ في متابعة حكّامهم على ما هم عليه من مخالفة ، وكما قِيل : الناس على دين ملوكهم .
فإذا ثبت وقوع ذلك فيما يخصّ أحكاماً بيّنةً في ظروف مختلفة ، فأيسر منه وقوعه في ظلّ صراع محموم على السلطة .
فقد عُلم من تاريخ حروب الردّة على عهد أبي بكر ، كيف أنّ خالد بن الوليد قِتل مالك بن نويرة رغم شهادته بالإسلام ، وكيف أنّه نزا على امرأته فنكحها من ليلته بلا انتظار لعدّة من زوجها المقتول مالك . وقد طلب عمر من أبي بكر وألحّ عليه في عزل خالد وإقامة الحدّ عليه ، فلمْ يسمع أبو بكر ولمْ يعزل ولمْ يُقمْ الحدّ ، ولكن تأوّل فودى مالكاً ، وأعطى ديّته لأخيه ، وهو بحدّ ذاته اعتراف بقتل مالك مسلماً بغير حقّ .
ومهما بحثت لأبي بكر وخالد عن مخرج من هذا الفعل ، فلن تجد مطلقاً ما يوافق حكماً شرعيّاً ، إلاّ أنْ يكون المخرج الذهبي لفقهاء السلاطين الجاهز دائماً في كلّ المعضلات ، ألاَ وهو : التأوّل ، وإنْ كان غير سائغ .
ومن المعذرين لخالد مَن يقع في تناقض بيّن ـ لا أعلم كيف غمّ عليهم ـ فهم يقولون : إنّ ضرار بن الأزور ومَن معه ـ الذين باشروا قتل مالك بأمر خالد ـ قد فهموا خطأً أمر خالد في تلك الليلة الباردة بقوله : أدفئوا أسراكم . وهي تعني في لغة كنانة : القتل . ورغم ما في هذه الرواية من تكلّف ظاهر ـ كما يقول طه حسين ـ فهم يوقعون أنفسهم في تناقض ؛ ذلك أنّه يعني أنّ خالداً لمْ يرَ قتل مالك على الردّة .
فإذا كان الأمر كذلك ، فلمَ تأوّلوا نزوله على امرأة مالك على اعتبار أنّه رآها سبياً ؟!
ثمّ إنّنا لمْ نجد عند أشدّ الناس خصومة لمعارضي أبي بكر ، وخالد في هذا الفعل ـ مثل ابن تيميّة(1) ـ إلاّ تغريباً للمسألة وإبعاداً لها عن موضعها بما لا يقنع أحداً : فهو أحال المسألة إلى مقارنات لا محلّ لها ، كتلك التي بين مقتل عثمان ومقتل مالك ، وطالما أنّ قتلة عثمان لمْ يُقتلوا ، فكذلك لمْ يُطالب أبو بكر بقتل قاتل مالك .
وهو قد تعمّد ـ على عادته ـ انسياح المسألة وانشعابها حتّى يغفل القارئ عن أصل المسألة ، فأغرقها في تفصيلات استبراء المعتدّة من وفاة أو طلاق ، وعن كافر أو مرتدّ ... الخ .
ولكنّه في النهاية لمْ يستطع التهرّب من أقلّ قول قِيل في الإستبراء ، وهو حيضة واحدة وليس ثلاث ، وعندها لجأ إلى كلام ملبس لا غناء فيه ، بقوله : فنحن لمْ نعلم أنّ القضيّة وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد .
ولمْ يذكر ابن تيميّة بالطبع شهادة أبي قتادة وآخرين معه على إسلام مالك ، كما لمْ يذكر أنّ أبا قتادة ترك جيش خالد عند إتيانه فعله ذاك ، وأقسم ألاَ يقاتل تحت لوائه أبداً .
وهكذا ضُيّع حدّ من حدود الله على يد أبي بكر وخالد ، بدعوى الحفاظ على حدود الله , وسكت عمر عمّا أمضاه أبو بكر ، وتابعهم الناس على ذلك .
ـ وأقدم عمر إبّان خلافته على مخالفة لنصّ صريح من الكتاب والسنّة العمليّة المتواترة بنهيه عن متعتي الحجّ والنساء بمجرّد رأي رآه . يقول عمر برواية مالك : متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ .
ويروي مالك عن عروة بن الزبير : أنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب ، فقالت إنّ ربيعة بن اُميّة استمتع بامرأة فحملت منه , فخرج عمر بن الخطاب فزعاً يجرّ رداءه ، فقال : هذه المتعة ، ولو كنت تقدّمت فيها لرُجمت .
وقد نصّ القرآن على متعة الحجّ في قول الله تعالى : ( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ‏ِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى‏ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَن كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتّقُوْا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(2) .
وحجّ المتعة أنْ تحرم بعمرة من الميقات في أشهر الحجّ : شوال وذي القعدة وذي الحجة ، على أنّ أهلك غير حاضري المسجد الحرام ، فإذا انتهيت من عمرتك قصّرت فيحلّ لك كلّ ما حرّم ، حتّى تحرم بحجّ يوم التروية من نفس العام ، وعليك أنْ تذبح ما قدرت عليه من الهدي وأقلّه شاة.
والمتعتان ثابتتان بالسنّة ، ووردت فيهما أحاديث كثيرة منها : عن جابر بن عبد الله : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث  . رواه مسلم .
وعن الحسن (ع) : أنّ عمر أراد أنْ ينهى عن متعة الحجّ ، فقال له اُبي بن كعب : ليس ذاك لك قد تمتعنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولمْ ينهنا عن ذلك , فأضرب عن ذلك عمر . رواه أحمد .
وعن عمران بن حصين قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولمْ ينزل قرآن يحرّمه ولمْ ينه عنها حتّى مات قال رجل برأيه ما شاء . رواه البخاري .
وذكر ابن كثير(3) قال البخاري ، يقال : هذا الذي قال برأيه ما شاء ، إنّه عمر ، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرّحاً به أنّ عمر كان ينهى الناس عن التمتع .
كان النهي عن العمرة في أشهر الحجّ من سنن الجاهليّة ، كما جاء بحديث ابن عبّاس الذي رواه البخاري : كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرّم صفراً ويقولون إذا بَرَا الدّبر ـ برأت ظهور الإبل من الترحال ـ وعفا الأثروانسلخ صفر حلّت العمرة لمَن اعتمر , قدم النّبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه صبيحة رابعة ـ يوم الأحد ـ مهلّين بالحجّ فأمرهم أنْ يجعلوها عمرة , فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ، أيّ الحلّ ؟ قال : (( حلّ كلّه )) .
ولك أنْ تتساءل ما الذي حدا بعمر أنْ يُحيد عن الكتاب والسنّة في أمر محكم غير مشتبه ، ولا خلاف فيه إلى سنّة من سنن الجاهليّة ؟!
يذكر ابن كثير قول الزهري(4) : بلغنا أنّ عمر قال في قول الله تعالى : ( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . من تمامهما أنْ تفرّد كلّ واحد منهما من الآخر ، وأنْ تعتمر في غير أشهر الحجّ ، إنّ الله تعالى يقول : ( الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) .
ويردّ ابن كثير قول عمر ذاك بقوله : هذا القول فيه نظر ؛ لأنّه قد ثبت أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اعتمر أربع عمرات كلّها في ذي القعدة .
ولكن هذا الأمر في الواقع ليس فيه نظر ـ كما يقول ابن كثير ـ فالنظر يُوحي بخضوعه لاحتمال ، وهو ليس كذلك بحال ، بل يرده باتّاً ما ذكرناه ، ويدحضه قطعاً الأحاديث الاُخر المؤكّدة ، مثل حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عام حجّة الوداع ، فمنّا من أهل بعمرة ، ومنّا من أهل بحجّة وعمرة ، ومنّا من أهل بالحجّ ، وأهل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحجّ , فأمّا من أهل بالحجّ أو جمع الحجّ والعمرة لمْ يحلّوا حتّى كان يوم النحر . رواه البخاري .
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة وخلل بين أصابعه )) . رواه أحمد .
وعن ابن عبّاس قال : لمْ يعتمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ في ذي القعدة . رواه ابن ماجة .
فهذا إذاً كتاب الله تعالى، وهذه إذاً سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فهل يجوز بعدها لعمر أنْ ينهى من عند نفسه ، وهل يجوز بعدها لفقهاء أنْ يحيدوا بالكلم عن مواضعه متأوّلين لعمر بغير سائغ ؟!
يقول عمر بن الخطاب : افصلوا بين حجّكم عمرتكم ؛ فإنّ ذلك أتمّ لحجّ أحدكم وأتمّ لعمرته أنْ يعتمر في غير أشهر الحجّ . رواه مالك .
ويبرّر ابن كثير : لمْ يكن عمر (رضي الله عنه) ينهى عنها محرّماً لها ، إنّما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجّين ومعتمرين .
ويردّ قول عمر ذاك الذي تأوّل فيه معنى إتمام الحجّ والعمرة قول ولده عبد الله : العمرة في أشهر الحجّ تامّة تقضى , عمل بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونزل بها كتاب الله تعالى . رواه أحمد .
ويروي الطبري(5) خبر نصيحة عمران بن سوادة لعمر , عندما أراد عمران أنّ يطلعه عمّا عابته عليه الاُمّة بقوله : عابت اُمتّك منك أربعاً ، ذكروا أنّك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ ، ولمْ يفعل ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا أبو بكر (رضي الله عنه) ، وهي حلال . فقال عمر : هي حلال ، لو أنّهم اعتمروا في أشهر الحجّ رأوها مجزية من حجّهم .
ولكن يردّ هذا القول أيضاً ، أنّ أحداً لمْ يقل أبداً إنّ العمرة مجزية من الحجّ ، لمْ يحدّث أنْ خلا الموسم من الحجيج على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا على عهد أبي بكر , حتّى تكون هناك سابقة يحتجّ بها عمر مبرّراً لهذا الذي أحدّثه .
وواضح من تعبير عمر في ردّه على عمران أنّه يفترض حالة غير واقعيّة لا سابقة لها : لو أنّهم اعتمروا ... لرأوها ... . ثمّ إذا به يؤسّس حكماً على هذه الحالة الافتراضيّة التي لمْ تخطر على بال أحد ولمْ يقل بها أحد .
وهل كان احتمال خلوّ البيت من المعتمرين أو الحجيج غائباً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عندما شرّع دخول العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة ؟ أمْ كان ربّك نسياً ؟ ... حاشا لله .
وقد كانت النتيجة الغريبة لنهي عمر ذاك ، أن اضطرب الناس ، ولكنّهم تابعوه وعملوا به رغم علمهم بمخالفته للكتاب والسنّة !
يروي أحمد في مسنده : أنّ أبا موسى الأشعري ، قال ـ وقد اعتمر في موسم الحجّ ـ : فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وعمر ، فإنّي لقائم بالموسم إذ جاءني رجل ، فقال : إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك . ـ ويبدو الاضطراب والمتابعة على المخالفة في قول أبي موسى عندئذ ـ فقلت : أيّها الناس , من كنّا أفتيناه بشيء فليتئّد ، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم ، فبه فائتموا .
وتبلغ أحدوثة عمر مبلغها بظنّ الناس أنّها الأصل الحقّ وغيرها ضلال .
يروي أحمد : قال عروة لابن عبّاس : حتّى متى تضلّ الناس يابن عبّاس ؟! قال : ما ذاك يا عرية ؟ قال : تأمرنا بالعمرة في أشهر الحجّ .
ويروي أحمد كذلك : أنّ ابن عمر كان يُفتي الناس بالمتعة ، فكان الناس يُسائلونه : كيف تخالف أباك ؟ حتّى قال لهم : لمَ تحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ أفرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أنْ تتّبعوا سنّته أمْ سنّة عمر ؟
ويروي البخاري : أنّ عثمان في خلافته تابع عمراً في منع العمرة في الحجّ ، فتصدّى لذلك عليّ (ع) ، وأهلّ بهما جميعاً .
عن سعيد بن المسيب ، قال : اختلف عليّ (ع) وعثمان (رضي الله عنه) ، وهما بعسفان في المتعة ، فقال عليّ (ع) : (( ما تريد إلاّ أنْ تنهى عن أمر فعله النبيّ (صلّى الله عليه وآله) )) . فلمّا رأى ذلك عليّ (ع) أهلّ بهما جميعا .
وخالف عثمان أيضاً سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قصر الصلاة بمنىً فأتّمها .
يذكر أنس في الحديث المتّفق عليه : خرجنا مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من المدينة إلى مكّة ، فصلّى ركعتين ركعتين ، حتّى رجعنا إلى المدينة ، قلت : أقمتم بها شيئاً ؟ قال : أقمنا بها عشراً .
وفي لفظ مسلم : خرجنا من المدينة إلى الحجّ . ثمّ ذكر مثله .
ومرّة اُخرى ـ كما في كلّ مرّة ـ يجيء المبرّرون ليقولوا إنّ عثمان تأوّل ـ كما قال ابن العربي في العواصم ـ وأمّا ترك القصر فاجتهاد .
ثمّ خلف من بعدهم خلف قعدوا للمخالفات على صريح مخالفتها للكتاب والسنّة عملاً بالرأي , ومن هؤلاء تقرأ لابن القيّم الذي لمْ يجد مستنداً لأحدوثة عمر ، فلجأ بدوره إلى إنشاء شرعيّة من عنده أسماها : العمل بالسياسة .
فيقول(16) : ومن ذلك اختيار عمر (رضي الله عنه) للناس إفراد الحجّ ، وأنْ يعتمروا في غير أشهر الحجّ ، فلا يزال البيت الحرام معموراً بالحجّاج والمعتمرين .
ومن هؤلاء أيضاً ابن أبي الحديد القائل(7) : إنّ عمر قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا محرّمهما ومعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ ، وهذا الكلام وإنْ كان ظاهره منكراً ، فله عندنا مخرج وتأويل .
وهنا أيضاً نجد المخرج الذهبي : التأويل .
وقد مرّ بنا توّاً قول عمران بن الحصين في حديث البخاري ، تعليقاً على نهي عمر : إنّه الرأي ، قال رجل برأيه ما شاء .
إنّ ما سقناه من أمثلة قليلة من كثير(8) حدث نظنّ فيه الغناء دلالةً على القضيّة الخطيرة : أنّ العمل بالرأي في وجود النصوص قديم ، وهو ما يقودنا إلى إجابات عمّا عنّ لنا من أسئلة طرحناها من قبل ، فأوّلاً : ينجلي غموض ما وراء أحداث سقيفة بني ساعدة . وثانيّاً : يُفسّر لنا لماذا كان هناك اتّجاه عام من السلطة الحاكمة يحثّ على عدم رواية الحديث فضلاً عن كتابته ؟
وثالثاً : يبصّرنا بالمنهج المتّبع لدى غالبيّة فقهاء السنّة في استفراغ الجهد في تكلّف انتحال الأعذار ؛ لتبرير أفعال السلطة الحاكمة مهما كانت بعيدة عن صحيح النصوص ، حتّى لقد ذهبوا في سبيل ذلك إلى كلّ بعيد ومستغرب على ما رأيت . وحتّى إنّهم يخطئون الصحابي ـ الذي على نفس درجة العدالة بزعمهم ـ إذا ما عارض صحابيّاً آخر حاكماً . بل إنّ الصحابي الواحد المخطّأ ـ بسبب معارضته للصحابي الحاكم ـ تصير أفعاله كلّها مبرّرة بمجرّد حيازته السلطة .
أفضى كلّ ذلك حتماً إلى الاختلاف والتضارب ، ثمّ إلى التوهين من أمر الحديث ، طالما يعمل بما يخالفه بزعم التأويل ، فلا عجب إذاً ممّن وضع الحديث متأوّلاً في غير حياء ـ على ما أوردناه من قبل ـ قائلاً إنّما أكذب له لا عليه ، أو إنّما أضعه حسبة لله .
والعجيب من هؤلاء الفقهاء وما طبعوا عليه قلوب العامّة ، أنّهم في الوقت الذي يبرّرون فيه كلّ مخالفات النصوص ـ على ما رأينا ـ بزعم التأويل ، ما فتئوا يردّدون حديث : شرّ الأمور محدثاتها . ويزعمون التزامهم بقاعدة : لا اجتهاد مع النصّ .
بل يزيد العجب إذا رأيتهم يشجبون التأويل بالكلّية ، ثمّ إذا بهم يمتدحونه عندما يستخدمونه للتبرير ، ولكن على نهجهم . اقرأ ما قاله ابن القيّم في التأويل ، بعدما امتدح تأويل عمر في نهيه عن المتعة ، تقف على موضع العجب . يذكر ابن القيّم(9) : ويكفي المتأوّلين كلام الله ورسوله (ص) بالتأويلات التي لمْ يردها ، ولمْ يدلّ عليها كلام الله ، أنّهم قالوا برأيهم على الله ، وقدّموا آراءهم على نصوص الوحي ، وجعلوا عياراً على كلام الله ورسوله (ص) .
فأصل خراب الدين والدنيا ، إنّما هو من التأويل الذي لمْ يرده الله ورسوله (ص) بكلامه ، ولا دلّ عليه أنّه مراده ، وهل اختلفت الاُمم على أنبيائهم إلاّ بالتأويل , وهل وقعت فتنة كبيرة أو صغيرة إلاّ بالتأويل , فمن بابه دخل إليها ، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلاّ بالتأويل .
وليس هذا مختصّاً بدين الإسلام فقط ، بل سائر أديان الرّسل لمْ تزل على الاستقامة والسداد حتّى دخلها التأويل ، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلاّ ربّ العباد .

ــــــــــــــ
(1) منهاج السنّة 3 / 130 .
(2) سورة البقرة / 196 .
(3) تفسير ابن كثير ، مرجع سابق 1 / 234 .
(4) المرجع السابق / 230 .
(5) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 4 / 225 .
(6) أعلام الموقعين ، مرجع سابق 4 / 374 .
(7) نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد ، مرجع سابق 1 / 182 .
(8) راجع : السيّد مرتضى العسكري ، معالم المدرستين / 2 ـ طهران ـ مؤسسة البعثة / 1992 م .
(9) أعلام الموقعين ، مرجع سابق 4 / 250 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page