• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

شيوخ صفّين


وصفّين أعني بها المرحلة والموقف بكامله لا المعركة وحدها ، فلقد كانت مرحلة بما اشتملت عليه من حرب وما انتهت إليه من تحكيم وما تلاه من تداعيات , حتّى كان التخاذل الأعظم بمعسكر النخيلة وعودة عليّ يائساً من قومه حتّى رحمه الله بأشقى هذه الاُمّة ، ثمّ ما كان بعد ذلك من نكوص عن حرب معاوية استمراراً في التخاذل حتّى خلص الأمر لمعاوية في النهاية .
أسفرت مفرزة صفّين في معسكر عليّ عن تصنيف لفئات الناس لما يزل قائماً حتّى خروج الحُسين (ع) ، بل أحسبه كذلك في كلّ عصر وحتّى آخر الزمان :
فئة ممتازة ذات وعي كلّي ، الفكرة لديها واضحة وضوحاً لا لبس فيه ، تحيط علماً بأبعاد قضيتها إحاطة شمول .. وعلى يقين من أمرها لا شك فيه ، ولكنها كالعهد بها دائماً قليلة العدد ، فإن غالبية الناس على غير ذلك ، وقد جاء القرآن بثبوت ذلك ، فقال الله تعالى :
( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يَشْكُرُونَ )(3) .
( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يَعْلَمُونَ )(4) .
( وَلكِنّ أَكْثَرَ الناسِ لاَ يُؤْمِنُونَ )(5) .
وهذه الفئة تضمّ أمثال : عمّار بن ياسر وحجر بن عدي ، والأشتر وعمرو بن الحمق .
وفئة ثانية : تنطوي على إخلاص وحسن نيّة ، ولكن يلتبس عليها أمر الحقّ ، فتحتاج أنْ تستوثق منه ، وتفتقر في ذلك إلى من يُعينها على إدراكه ، فإذا ما استوثقت لحقت بالفئة الأولى أو كادت , ومن هؤلاء : خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ولا أراني مخطئاً ألحقت بهذه الفئة كثيراً من الخوارج .
وفئة ثالثة : تعرف الحقّ معرفتها لذوات أنفسها ، ولكنّ الحقّ له تكاليفه وأعباؤه ، بينما طاقاتها النفسيّة لا تعينها على اجتياز الصراط بخفّة إليه ، فتقف متردّدة متثاقلة بين الحياء من عدم التزام الحقّ ، وبين إغراء الدنيا ، فتارةً تغلبها الدنيا فتؤثر السلامة ، وتارةً تثوب إلى رشدها وتمتثل لأمثل قناعاتها فتغصب نفسها على الحقّ غصباً .
وخير تمثيل لهذه الفئة هم التوّابون ، وعلى رأسهم : سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد ، الذين كان لهم شأن في مؤازرة عليّ (ع) في حروبه ، ولكنّهم قصّروا في مؤازرة الحُسين (ع) ، إلى أنْ كانت توبتهم بالإقبال على الشّهادة مختارين في ( عين الوردة ) ، فنالوها يومئذ عدا رفاعة .
وفئة رابعة : عنوانها الرئيسي يُوجز في كلمة واحدة : النفاق , ومن هؤلاء : خالد بن المعمر ، والأشعث بن قيس زعيم كندة ـ وكان على شاكلة عبد الله بن أبي بن سلول على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ فكان يكتب لمعاوية وهو في معسكر عليّ (ع) ، ويحرّض على وقف القتال حين كاد جيش عليّ (ع) يظفر في المعركة ، وألّب على الأشتر لإحداث الفتنة ، وعبّأ الناس حتّى يلجئ عليّاً (ع) إلى قبول أبي موسى الأشعري ـ على تاريخ المخذّل عن عليّ (ع) ـ محكّماً مقابل عمرو بن العاص ، وفيه يقول عليّ (ع)(6) : (( منافق ابن كافر ، والله ، لقد أرك الكفر مرّة والإسلام اُخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك . وإنّ امرءاً دلّ على قومه السيف وساق إليهم الحتف , لحريّ أنْ يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد )) .
وفئة خامسة : قلبت للمبدأ ظهر المجن ، وشرت الآخرة بالدنيا ، فأقبلت عليها تعب من أوزارها في غير تأثم ، حتّى لكانت الدنيا أكبر همّها من غير إلقاء بال إلى دين أو حساب أو معاد .
وأظهر ممثّل لتلك الفئة زياد بن أبيه ، الذي فاق في شناعاته من حسم أمره منذ البداية لأجل الدنيا ، كعمرو بن العاص الذي انضمّ ابتداءً إلى معاوية وهو يعلم أنّ عنده مبتغاه من الدنيا .
وممّن انقلبوا من النقيض إلى النقيض حال خروج الحُسين (ع) : شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ، وقيس بن الأشعث بن قيس , ويزيد بن الحارث ، الذين كاتبوا الحُسين (ع) قبل خروجه ليخرج ، وقالوا(7) : قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّد ، فأقبل . فلمّا أقبل الحُسين (ع) إذا بهم هم أنفسهم رؤوس جيش ابن زياد لقتاله .
وهكذا لا ترى من بين فئات القيادات كلّها إلاّ ثلّة من الأوّلين ، مثل : مسلم بن عقيل وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وقيس بن مسهر ، وقليلاً آخرين من الذين حسموا ترددّهم نهائيّاً ، مثل : زهير بن القين والحرّ بن يزيد ... وهؤلاء لا يُغنون ـ بطبيعة الحال ـ في مواجهة نظام عتيد مثل نظام بني اُميّة .
وهؤلاء كانوا ـ حسب منطوقهم إبّان المعركة فيما أوردنا بعضه من قبل ـ أقرب إلى الإقبال على الشهادة خالصة في سبيل الله، مهما كانت العواقب من اطمئنانهم إلى قدرتهم على إحداث التغيير الشامل .
وهنا توجد الهوّة العميقة بين الدور المفترض والأداء الواقعي ، وربّما كان ذلك أحد أسباب الإخفاق من منظور استهداف التغيير الكلّي ؛ ذلك أنّه يفترض في القيادة أنّه منوط بها قيادة الجماهير وتثويرها وتوعيّتها وتوجيهها عبر الوسائل المختلفة ، نحو تحقيق المستهدف من الحركة ، بحيث تُؤدّي القيادة دورها الطليعي للقاعدة الشعبيّة بالغوص في أعماقها ؛ لاستخراج مكنونها لتوظّفه التوظيف الملائم لقدرات كلّ ، بما يكفل فعاليّة القدرات الجزئيّة وتكاملها ، في الوقت الذي يضمن فيه المشاركة الواسعة ، كنتيجة للوعي بالأهداف ، ثمّ الممارسة المتواصلة للمهام في كلّ مرحلة . ولكنّ القلّة القليلة القياديّة المخلصة من أصحاب الحُسين (ع) اختزل دورها من الدور القيادي الشامل إلى أداء فردي بحت , فعلى الرغم من تعدّد انتماءات هذه القيادات ، فإنّ أحداً لمْ يعظّم من قدرته عن طريق تفعيلها في مجاله المؤثّر ، وقد كان لا يزال هذا المجال هو الانتماء القِبلي ، فلمْ ترَ قبيلة أو عشيرة تحرّكت لمساندة صاحبها لا على دين ولا على حسب .
بينما تجد على الجانب الآخر ، أنّ أحد أقوى الأسباب لنجاح عبيد الله بن زياد في مهمّته ، هو لجوؤه إلى قيادات القبائل فيما عرف بـ( الأشراف ) , الذين استطاعوا فضّ الجمع المصاحب لمسلم بن عقيل في حصاره لقصر ابن زياد .
يروي الطبري(8) : أنّه كان مع ابن زياد في قصره يومئذ ثلاثون رجلاً من الشرط , وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه ، فدعا ابن زياد الأشراف ليسيروا في الكوفة ليخذلوا الناس ، ثمّ دعاهم إلى قصره ليشرفوا على الناس ، قائلاً لهم : أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم .
وكان من هؤلاء : عبيد الله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي , ومحمّد بن الأشعث بن قيس الكندي ، والقعقاع بن شور الذهلي , وشبث بن ربعي التميمي ، وحجار بن أبجر العجلي , وشمر بن ذي الجوشن العامري .
فهل كانت القيادات الموالية لبني اُميّة ( الأشراف ) أطوع في أقوامها من القيادات الحُسينيّة ؟ أمْ كانت القيادات الحُسينيّة غير ذات فاعليّة في محيط أقوامها ؟ أمْ أنّ هناك عوامل اُخرى تحكّمت في مسار الأحداث ؟
تُجيبنا إحدى الدراسات(9) التي تناولت هذا الموضوع بما موجزه : أنّ القيادات الحُسينيّة تمثّل النخبة الواعية للإسلام في المجتمع الإسلامي ، ومن حيث هي كذلك فهي تمثّل النقيض الاجتماعي للنخبة القبليّة التقليديّة ، إلاّ أنّه من المرجّح أنّ جمهورها صغير الحجم بالنسبة إلى الجمهور التقليدي . ثمّ تصل الدراسة إلى النتيجة التالية (10) : لقد كان ثوّار كربلاء جمهوراً صغيراً ، بجناحيه من عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكنّه كان يمثّل النخبة ، فيجب أنْ نلاحظك أنّ كثيراً من الثائرين لا يمثّلون ـ عدديّاً ـ أشخاصهم أو أسرهم ، وإنّما يمثّلون النخبة ، فقد كانوا قادرين على السيطرة على الموقف لو قُدّر للثورة أنْ تنتصر وتمكنوا من الاستيلاء على الحكم ، وكانوا قادرين ـ إذا لمْ يتح لهم النصر , كما حدث في الواقع ـ أنْ يفجروا طوفاناً من الغضب ضدّ الحكم المنحرف في قلوب جماهير غفيرة من الناس .
وهذا الرأي في الواقع يحتاج إلى كثير من المراجعة ، فهو أوّلاً : يقرّر أنّ جمهور النخبة صغير الحجم نسبيّاً ، إضافة إلى صغر حجم النخبة ذاتها ، إلاّ أنّه يعود ليذكّر أنّ النخبة تمثّل جماعات كبرى من القبائل ، وأنّها قادرة على تفجير طوفان من الغضب في قلوب جماهير غفيرة من الناس . وثانياً : فإنّه يشتمل على استدلال لا منطقي ، فالقضيّة بموضوعاتها ومحمولاتها ـ كما يقول المناطقة ـ مرتّبة بما لا يعكس قياساً منطقيّاً ، ولكن يجب ترتيبها على النحو التالي :
    الثوار هم النخبة الواعية               
    الثوار يمثلون جماعات كبرى من القبائل .
     انتصار الثورة مرهون بتفجير طاقة الجماعات الكبرى .
     إذاً النخبة قادرة على نصر الثورة .       
ولكنّ الشيخ شمس الدين ـ لا أدري كيف ـ رتّب المسألة على  غير المراد : إذا انتصرت الثورة ، فإنّ النخبة قادرة على السيطرة على الموقف .
إذا لمْ تنتصر الثورة ، فإنّ النخبة قادرة على تفجير طوفان الغضب ضدّ الحكم المنحرف .
بينما المطلوب هو أن تقوم النخبة ابتداءً بتفجير طوفان الغضب ضدّ الحكم المنحرف لكي يتمّ انتصار الثورة ، وطالما أنّ النخبة تتمتّع بمثل هذه القدرة ، فستكون تلقائيّاً قادرة أيضاً على السيطرة على الموقف حال انتصار الثورة . ثمّ كيف تكون النخبة قادرة على تفجير الغضب في حالة عدم انتصار الثورة ؟ ويذكر الشيخ : أنّ هذا ما حدث في الواقع بينما هي قد استئصلت أو كادت مع الحُسين (ع) .
الواقع أنّ كلّ ذلك لمْ يحدث تاريخيّاً ، وبالتالي تظلّ أسئلتنا بلا إجابة حتّى الآن .
اقرأ ما رواه الطبري(11) في شأن هانئ بن عروة المرادي من أشراف العرب ، حسب تعبير ابن زياد نفسه ، تقف على حجم محنة النخبة : لمّا عرف ابن زياد منزل مسلم بن عقيل بدار هانئ بن عروة ، أتى بهانئ وحبسه وقال له : والله ، لتأتيني به أو لأضربن عنقك . قال هانئ : إذاً تكثر البارقة ـ يعني : السيوف ـ حول دارك .
قال ابن زياد : وا لهفاً عليك ! أبالبارقة تخوفني ؟!
يذكر الراوي : وهو ـ أي : هانئ ـ يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه , فاستعرض ابن زياد وجه هانئ بالقضيب ، فلمْ يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتّى كسر أنفه ، وسيّل الدماء على ثيابه ، ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته حتّى كسر القضيب .
ولمّا دخل شريح على هانئ ، قال : يا الله ، يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ؟ فأين أهل الدين ، وأين أهل المصر ؟ تفاقدوا يخلّوني وعدوّهم وابن عدوهم !
وحين قُتل مسلم بن عقيل أُخرج هانئ ـ بأمر ابن زياد ـ إلى سوق يُباع فيه الغنم لتضرب عنقه ، جعل هانئ يقول : وا مذحجاه ! ـ يعني : قبيلته ـ ولا مذحج لي اليوم ! وا مذحجاه ! وأين منّي مذحج !
فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثمّ قال : أمَا من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش بها رجل عن نفسه ؟!
فهذا الرجل من النخبة من سادات العرب ، ومن كبار زعماء اليمنيّة بالكوفة ،يسلّم ويخذل ويخلّى بينه وبين عدوّه ، ثمّ يُذبح ويُجر من رجليه بسوق الغنم ، ولك ذلك يحدث في محلّه وبين قومه وعشيرته الأدنين ، وهو يستصرخهم ولا مجيب .
وفي سياق البحث عن أسباب الخذلان الكوفي ، يذهب باحث آخر إلى أنّ التشيع أحدث اختراقاً قبليّاً بحيث أدّى إلى وجود انتماء سياسي على أساس غير عصبوي(12) .
وهذا الرأي في الواقع وإنْ كان حقّاً ، إلاّ أنّه يمثّل عنصراً إيجابيّاً ، يتوقّع معه ألاّ يُؤدّي إلى الخذلان بالقدر الذي حدث ، وبالتالي فهذا العنصر لا يفسّره ، ولكن يزيده إبهاماً .
غير أنّ الباحث قد أصاب حين وصف التغير الحاديث بـ ( الاختراق القبلي ) ، ولفظ الاختراق دلالته واضحة في الحجم النسبي المحدود للتغير ، وهو يعني في النهاية سيادة القيادات القبليّة التقليديّة .
وواضح أنّ المسألة القبليّة كانت أحد العوامل المؤثّرة بشدّة في مسار الأحداث ، وواضح أيضاً أنّ لبّ المسألة يكمن في فعاليّة الزعمات القبليّة التقليديّة ، وليس في قواعدها الواسعة المرهونة حركتها قيد توجّهات الأولى .
ولقد كانت النزعة القبليّة ، كما هي حتّى يومنا هذا ممّا نعاينه من طبيعة الأداء السياسي في المجتمعات النامية والمتخلّفة ، عائقاً أعظم يحول دون التطوّر الاجتماعي بشكل عامّ ، وهي دائماً إحدى أدوات الأنظمة الاستبداديّة في بسط هيمنتها على الشعوب .
إلاّ أنّ هذه المسألة تدفعنا إلى التساؤل في حيرة ، عن سبب شغل القبليّة لهذا الحيّز الكبير في الصراع ـ ونحن نتناول أحداث عام واحد وستين هجري ، بعدما أتى الإسلام بمفهومه المناقض للمفهوم الجاهلي ؟
لقد بسطنا القول من قبل في هذه المسألة ، وانتهينا إلى أنّ القبلية هي إحدى محدّدات النظام الجاهلي ، وعند اختبار هذا المحدّد بالنسبة للنظام الاُموي لمْ نجد اختلافاً يذكر عمّا كان سائداً قبل الإسلام ، بل إنّ النظام الاُموي ـ كنظام استبدادي ذي طموحات خاصّة ـ عمد إلى تعميق هذه النزعة موظفاً آليات فعلها ومستثمراً عوائدها في تثبيت دعائمه .
ولكن بحثنا في أسباب الخذلان الشامل للحسين (ع) ، والكوفي منه بخاصّة ، فتح أبصارنا على معطيات واقعيّة وكم من الجزئيّات التفصيليّة ، لا بدّ وأنْ تقودنا بالضرورة إلى مراجعة التعميمات النظريّة وإخضاعها للمحكات العمليّة ، وإلاّ أصاب اتّساق البِناء الفكري لدينا خلل خطير .
فلأوّل وهلة ، قد رأينا أنّ أمر الكوفة يحسمه تقسيمها القبلي ، ولكنّا نعلم أنّ الكوفة منشأة في الإسلام ، فلماذا انسحبت عليها هذه السمة ؟ لا بدّ إذاً من العودة القهقري على مراحل ، نتتبع فيها مسار هذه النزعة ، وهو ما نحسبه يتحقّق بالتوقف قليلاً في المحطّات التالية :
في حرب صفّين : كان تقسيم كلا الجيشين المتحاربين تقسيماً قبليّاً بحتاً ، حتّى إنّ عليّاً (ع) قال(13) لأزد الكوفة : (( اكفوني أزد الشام )) . وقال لخثعم : (( اكفوني خثعم )) . فأمر كلّ قبيلة من أهل العراق أنْ تكفيه أختها من أهل الشام .
في تمصير الكوفة التي اختطت في عهد عمر عام 17 هـ على يد أبي الهياج الأسدي موفد عمر إلى سعد بن أبي وقّاص ، فكان أنْ أسهم بين عرب الشمال والجنوب ، فخرج سهم اليمن أوّلاً ، فصارت خططهم في الجانب الأيسر ، وصار لنزار الجانب الغربي . وكانوا ، كما قال الشعبي(14) : كنّا ـ يعني : أهل اليمن ـ اثني عشر ألفاً ، وكانت نزار ثمّانية آلاف ، ألاَ ترى أنّا كنّا أكثر أهل الكوفة .
ثمّ قسّموا كالتالي(15) :
كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم وجديلة ، وهم بنو عمرو بن قيس عيلان .
قضاعة ـ ومنهم يومئذ غسّان بن شيام ـ وبجيلة وخثعم وكندة وحضر موت والأزد .
مذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم .
تميم وسائر الرّباب وهوازن .
أسد وغطفان ومحارب والنمر وضبيعة وتغلب .
إياد وعكّ وعبد القيس وأهل هجر والحمراء .
وظلّ هذا التقسيم سارياً حتّى ربّعهم زياد في عهد معاوية ، كالتالي(16) :
1 ـ أهل المدينة .
2 ـ تميم وهمدان .
3 ـ ربيعة وكندة .
4 ـ مذحج وأسد .
في فتح مكّة ذكر ابن هشام(17) ، أنّه عند مرور جيوش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمام أبي سفيان ، قال : ومرّت القبائل على راياتها ، كلّما مرّت قبيلة ، قال : يا عبّاس ، مَن هذه ؟ فأقول : سليم . فيقول : ما لي ولسُليم . ثمّ تمرّ القبيلة فيقول : يا عبّاس ، من هؤلاء ؟ فأقول : مزينة . فيقول : ما لي ولمزينة ، حتّى نفدت القبائل ، ما تمرّ به قبيلة إلاّ يسألني عنها ، فإذا أخبرته بهم ، قال : ما لي ولبني فلان ، حتّى مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كتيبته الخضراء ... قال ابن إسحاق : فيها المهاجرون والأنصار .
كتاب المدينة عند الهجرة الصحيفة : كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كتاباً عند هجرته إلى المدينة ، يوضّح فيه أُسس العلاقات الجديدة بين المهاجرين والأنصار واليهود ومواليهم وحلفائهم وأعدائهم . ونبرز من هذا الكتاب ما يتّصل بموضوعنا فيما يلي(18) :
ـ المؤمنون والمسلمون من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، إنّهم اُمّة واحدة من دون الناس .
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين(19) . بنو عوف وبنو ساعدة ، وبنو الحارث وبنو جشم ، وبنو النجار وبنو عمرو بن عوف ، وبنو الانبيت وبنو الأوس : على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وإنّ فُحص مدى الترابط بين الحوادث في المحطّات التي وقفنا عندها ليُوحي بأنّ هناك اتّجاهاً عاماً لتكريس القبليّة ، وليس لتفكيك بنياتها كما يعتقد ويتوقّع من المفهوم الإسلامي النقيض للمفهوم الجاهلي ، وذلك ما حدا بالبعض إلى فهم الإسلام على أنّه مشروع تآلفي بين متناقضات قائم على توازنات عصبيّة محدّدة ، وبما أنّه كذلك ؛ فإنّ طبيعته التآلفيّة لا تفترض ولا تقتضي السعي إلى تحطيم أو إزالة العصبيّات(20) .
ولكن معاودة الفحص للحوادث السالفة في ضوء كلّيات الطرح الإسلامي ، وكذلك مراجعة مضاهاتها بمثيلاتها من الجزئيّات التفصيليّة ، تقودنا إلى نظر متّسق وحقيقة التصور الإسلامي الذي يوجز في كونه مشروعاً متكاملاً ومترابط الأبعاد ، وينطوي عضويّاً على شروط تحقيقه ، وقد قال الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً )(21) ، بما يعني أنّ الله تعالى وضع للمجتمع المسلم المبادئ الكلّية والقواعد الأساسيّة الكفيلة بتطويره ، فيما هو قابل للتحور بطبيعة تغير الزمان والمكان ، وما هو مستهدف للتغيير عبر الزمان ، وكذلك الأحكام التفصيليّة والقوانين الجزئيّة فيما هو ثابت .
والمشروع الإسلامي لا ينفي حقيقة وجود التجمعات البشريّة ، ولا الانتماءات الناتجة عن التواجد المكاني ، أو تلك المرتبطة بعلاقات نسبيّة ، ولكنّه في ذات الوقت يشدّد على نفي ترتيب أيّة قيم مؤسّسة عليها ، ويسلبها إدّعاء التزامات تلحقها في مقابل الالتزام الأساس وهو صلة الإيمان ، وميزانه الأوحد هو التقوى .
يقول تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ )(22) .
ويقول تعالى : ( يَا أَيّهَا الناسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ )(23) .
ولقد ابتلي المسلمون ابتلاءات شديدة ، ووضعوا في مواقف الاختيار الصعبة ؛ كي يمحصّوا ويثبتوا عن طريق ملابسة المفهوم النظري للواقع المعاش ، وهنا يقع الفرز الحقّيقي . حدث ذلك في ملاقاة المهاجرين لذويهم وجهاً لوجه في الحروب ، بل حدث ما هو أشدّ من ذلك ، وهو استنصار المهاجرين بالأنصار على ذوي قرباهم .
وحدث ذلك بوضع الأنصار في مواجهة مواطنيهم من اليهود بالمدينة . وحدث ذلك بمواجهة الأنصار لأنفسهم بأنفسهم في حادث الإفك . وحدث ذلك في مواقف كثيرة غير التي ذكرنا ،  فهل خلصت نيّات الجميع ، وهل ثبت الجميع ؟
لا ، وليس هذا من طبائع البشر ، وليس هذا من سنن الكون حتّى ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّ بينهم ، ومن هنا قولنا السالف إنّ الرسالة تضمنت شروط تحقيقها بوضع القواعد الكفيلة بتطوير المجتمع ، من داخله على مدى الزمان إنْ اُلتزمت الشروط , وتظلّ تبعة تحقيق المشروع منوطة بسلوك المسلمين أنفسهم .
إنّنا نستطيع أنْ ندللّ على صحّة هذا الرأي بالعديد من المواقف ، ونذكر منها على سبيل المثال : استمرار المفاخرة ومحاولة انتزاع الفضل بن الأوس والخزرج . فقد ذكر الكاندهلوي(24) في معرض حديثه عن مقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقّيق : إنّ هذين الحيّين من الأنصار : الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئاً فيه غناء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلاّ وقالت الخزرج : والله ، لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فلا ينتهون حتّى يوقعوا مثلها ، وإذا فعلت الخزرج شيئاً ، قالت الأوس مثل ذلك .
ونذكر كذلك كيف أنّ المنافسة بين الأوس والخزرج أدّت إلى المخالفة على سعد بن عبادة يوم السقيفة ، وذلك فضلاً عن مدافعة قريش لكلا الحيّين .
ونذكر أيضاً كيف أنّ استعلاء قريش عقيب السقيفة أدّى إلى تذّمر بقية قبائل العرب فيما عرف بحرب الردة .
كلّ ذلك يعني أنّ المشروع لمْ يكن قد مُكّن له في الواقع ـ حين وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ بالرغم من استكمال بنائه النظري ؛ ومن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى قيادة مؤهّلة لاستكمال تعميقى جذور المشروع في الواقع حتّى يرسخ .
وممّا هو جدير بالذكر في هذا السياق ، أنّ نلفت النظر إلى عدم صواب الرأي القائل بتفرد الجيل الأوّل بعوامل التميز بإطلاق ، ونخصّ منه تميزه بحدوث فجوة فجائيّة على مستوى الشعور بين الجاهليّة والإسلام ، وهو الرأي الذي يعبّر عنه سيّد قطب بقوله(25) : لقد كانت الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كلّ ماضية في الجاهليّة ؛ كانت هناك عزلة شعوريّة كاملة بين ماضي المسلم في جاهليّته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعيّة ، فهو قد انفصل نهائيّاً من بيئته الجاهليّة واتّصل نهائيّاً ببيئته الإسلاميّة .
وواضح أنّ ذلك لمْ يحدث أبداً بمثل ذلك التعميم الذي ارتآه .
والآن نستطيع إعادة قراءة ما ذكرناه في المحطّات التي وقفنا عندها ، فنجد أنّ ما توهّمه البعض من استبقاء الإسلام للعصبيّات واستهدافه التوازن بينها لا محلّ له ، وإنّما لا يعدو الأمر كونه تنظيماً اجتماعيّاً جرى مرحليّاً على عادات القوم في الاجتماع ، مع الحرص على تفريغ محتواه الجاهلي وإحلال الانتماء العقيدي محلّه .
وآية ذلك تأكيد الصحيفة على أنّ المؤمنين والمسلمين ومن تبعهم اُمّة واحدة من دون الناس . وإحدى آيات كونه تنظيماً اجتماعيّاً طلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) لنقباء من القبائل في بيعة العقبة . يذكر ابن هشام(26) : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً ؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم )) . فأخرجوا منهم أثني عشر نقيباً ، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
فتأمّل قوله (صلّى الله عليه وآله) : (( ليكونوا على قومهم بما فيهم )) . أي طالما أنّ هناك التزامات محدّدة ومسؤوليّات ، فلا بدّ من وجود كفلاء على تنفيذ المسؤوليّات ، فكان وجود النقباء على القبائل نوعاً من التنظيم السياسي .
وعلى هذا النحو يفهم تكتيب علي للكتائب على القبائل في حرب صفّين ، إضافة إلى أنّه رأى ذلك أدعى لعدم الإثخان والإمعان في القتل طالما ، أنّ كلّ قبيلة تقابل بعضها ، وتلك كانت سيرته دائماً أنّه كان يسعى فقط لإقامة الحقّ ، وليس الانتقام أو الإرهاب أو الإذلال .
والآن نعود أدراجنا إلى سؤالنا الأوّل عن حال النخبة المخلصة في مقابل القيادات القبليّة التقليديّة ، فنجد أنّه ليس من العسير فهم لماذا كانت السيطرة محسومة لصالح هذه الزعمات بمحتواها القبلي النفعي ، في مقابل النخبة العقائديّة ؟
ولكن إذا كنّا قد وضعنا أيدينا على سبب قلّة ملتزمي الجوهر الإسلامي ، بحيث صاروا نخبة فقط وسط جموع القيادات التقليديّة بمفهومها النقيض ، وأرجعنا ذلك إلى عدم استكمال المشروع في الواقع ، فإنّنا لا نزال على تساؤل : لماذا لمْ يتمّ استكمال المشروع ؟
ونحن نرجئ محاولة الإجابة على هذا التساؤل إلى حين ، وحتّى نفرغ من مناقشة حال القوى الفاعلة في ذلك الظرف .

ــــــــــــــ
(1) الدينوري ، الأخبار الطوال ، مرجع سابق / 301 .
(2) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 5 / 592 .
(3) سورة البقرة  / 243 .
(4) سورة الأعراف  / 187 .
(5) سورة هود /  17 .
(6) نهج البلاغة ، بشرح محمّد عبده ، مرجع سابق / 110 .
(7) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 5 / 425 .
(8) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 5 / 369 .
(9) الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، أنصار الحُسين (ع) / 188 ، ط 2 ـ بيروت ـ الدار الإسلاميّة  / عام 1981 م .
(10) المرجع السابق / 201 .
(11) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 5 / 367 وما بعدها .
(12) د . إبراهيم بيضون ، اتّجاهات المعارضة في الكوفة / 167 ـ بيروت ـ معهد الإنماء العربي ، عام / 1986 م .
(13) الأخبار الطوال ، مرجع سابق / 181 .
(14) البلاذري ، فتوح البلدان  / 389 ـ بيروت ـ مؤسسة التعارف / 1987 م .
(15) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 4 / 48 .
(16) المرجع السابق 5 / 268 .
(17) السيرة ، مرجع سابق 2 / 404 .
(18) المرجع السابق 1 / 501 .
(19) المعاقل : الديات ، والعاني : الأسير ، على ربعتهم : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها .
(20) د . فؤاد خليل ، الإقطاع الشرقيّة / 51 ـ بيروت ـ دار المنتخب العربي / 1996 م .
(21) سورة المائدة / 3 .
(22) سورة التوبة / 71 .
(23) سورة الحجرات / 13 .
(24) محمّد يوسف الكاندهلوي ، حياة الصحابة 1 / 356 ـ القاهرة ـ المكتب الثقافي بالأزهر / 1993 م .
(25) معالم في الطريق ، مرجع سابق 19 / 20 .
(26) السيرة ، مرجع سابق 1 / 443 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page