• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أخطر أفعال الشيخين : اللاّيقين المعرفي ـ الذرائعية


مرّت على البشر حقب طويلة قبل أنْ يُدرك نفر منهم ـ من خلال البحث الجادّ والمجتهد ألاَ يُحمّل بمعقّبات مؤثرات داخليّة أو خارجيّة ـ مدى غرور الإنسان في وهمه إمكانه إدراك اليقين بوسائله الخاصّة .
فمنذ فجر الفلسفة اليونانيّة وحتّى عهد قريب اختلف البشر في درجة يقين مصادر المعرفة ، وقد ردّوها إلى ثلاثة : الحسّ ، والعقل ، والحدس ، بتنويعاتها وتداخلاتها المختلفة ، إلاّ أنّ العصر الحديث كان أكثر العصور جرأة في ادّعائه امتلاك الحقيقة ، لمّا وصل إليه العلم الطبيعي ( الفيزيوكيميائي ) من تنظيم وتقنين , ظنّ معه أنّه عصر الحقيقة النهائيّة التي اعتبروا نيوتن رائدها ، حتّى قال أحد العلماء الكبار وهو لابلاس : إنّ نيوتن لمْ يترك شيئاً لأحد غيره ليأتي به .
تمخّض هذا الاعتقاد عن نسق معرفي كاد أنصاره ينصبونه مقدّساً جديداً لا يجوز نقده ، وإلاّ رُمي ناقده بالتخلف ، لمّا عدّوه عنوان العلم ، أو هو العلم وحده وما عداه جهل بدائي . هذا النسق المعرفي يتلخّص في عناصر أساسيّة هي : الاستقراء ، العلّية ، اطراد الطبيعة ، الضرورة  ... بما يعني كلّ ذلك من تصوّر لكون آلي ( ميكانيكي ) حتمي .
ولكن جاءت كشوف العلم المعاصر لتهدّ ذلك النسق من أساسه ، عن طريق مفاهيم النسبيّة ، والكوانتم (   Quantum ) ، والطبيعة الموجيّة للمادّة بما أظهر فشل الميكانيكا ( الكلاسيكيّة ) في تفسير طبيعة الأجسام المتناهيّة الصغر ، فكان أنْ حلّت محلّها معادلات شرودنجر ( Schrodinger ) بما يعرف بالميكانيكا الموجيّة أو ميكانيكا الكوانتم (wave or quantum mechanics) .
ولعلّ أخطر مبادئ العلم المعاصر هو ذلك الذي يُنسب إلى هايزنبرج ( Heisenberg ) , والمعروف بمبدأ اللاحتميّة أو عدم اليقين أو عدم اتعين (Uncertainty principle ) (1 ) ، والذي يعني عدم إمكانيّة التحديد الدقيق لكلّ خواص أيّ نظام طبيعي في آنٍ معاً .
قاد ذلك إلى استبدال القوانين الحتميّة ( الكلاسيكية ) بنظريّات الاحتمال ، وبالتالي أضحت التفسيرات ، وبدورها التنبّؤات التي يقدمها العلم المعاصر احتماليّة وليست يقينيّة بحال .
وهكذا قدمت ( الإبستمولوجيا ) المعاصرة مفاهيم جديدة ، سقطت معها مفاهيم العلّة والاطراد في الطبيعة ، فالترابط بين الأحداث احتمالي وليس علّيّاً ، وليست هناك قوانين ثابتة ، بل فرضيّات قد تكون ناجحة ، وأنّ المقدّمات المحتملة تُؤدّي إلى نتائج محتملة وليست مؤكّدة ، وأنّ الاستقراء كمصدر للمعرفة اليقينيّة ـ كما يتصوّره البعض ـ هو تصوّر ساذج ، لا يمتّ للعلم بصلة ، لمّا كان مرتكزه الأساسي هو تلك القفزة التعميميّة التي لمْ يستطع أحد أنْ يقدّم لها تبريراً منطقيّاً فيما عرف بفضيحة الفلسفة (philosophy ) (2 ) حتّى إن أرسطو أبا المنطق لمْ يستطع تجاوز أشكالها ، فالقول بالبرهان المنطقي الأرسطي يتضمّن لزوميّة النتيجة ، وهي بدورها مؤسّسة على صدق المقدّمات ، ولكن كيف ؟  كلّ مقدّمة مبنيّة على معرفة سابقة أوّليّة ، ولكن أرسطو لا يقول بوجود مبادئ فطريّة في العقل البشري ، وبالتالي فليس هناك إلاّ الاستقراء ، ولكنّه بدوره يقوم على معطيات الوقائع الجزئيّة وهي لا تُفيد العلم الكلّي . وهنا لمْ يجد مناصاً من مقولة مبهمة سمّاها : تكثيف الواقع التجريبي (3) بما يحدث معه حدس عقلي مباشر ، يكون هو المعرفة الكلّية السابقة .
وفي تراثنا من أوقع نفسه في عدم الاتّساق مثل ابن تيميّة(4) الذي يتشدّد في تقرير الاستقراء رامياً غيره بالتهافت ، ظاناً أنّه يذب بذلك عن الدين ، سالكاً في ذلك سبيل ابن رشد .
ولكنّك تجد في التراث أيضاً فكرة ( التجويز ) الأشعريّة ، والتي هي عينها خلاصة ما انتهت إليه ( الإبستمولوجيا ) المعاصرة من احتماليّة النتائج المناقضة لفكرة العلّية والضرورة والاطّراد .
ولقد طرح الدين الإسلامي ـ وكلّ الأديان ـ المبادئ المحوريّة التي تقوّم البِناء المعرفي للإنسان ، وأساسه أنّ اليقين مصدره الله وحده : ( وَإِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ )(5) . ( إِنّ هذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ )(6) ، وأنّ المعرفة الإنسانيّة مهما بلغت ، فلا تعدو أنْ تكون قاصرة ومحدودة ، سواء في ذلك المعرفة العقليّة الذاتيّة أو المعرفة المختصّ بها البعض من قبل الله . وهل أدلّ على ذلك من علم طائر الهدهد بما لمْ يعلمه نبي الله سليمان : ( فَقَالَ : أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإِ بِنَبَإٍ يَقِينٍ )(7) ؟
وهل أدلّ على ذلك من مغزى خبر موسى والخضر ، فيما قصصه القرآن في سورة الكهف ، فحكم موسى بالظاهر ، ولكن أراد الله أنْ يعلّمه ويعلّمنا أنْ وراء الظاهر علماً يقينيّاً لا يُدرك بوسائل الإنسان المحدودة ؟
وهنا تسقط دعوى حجّية العقل في الحكم ، تلك الدعوى التي تبنّتها بعض الفرق الإسلاميّة كالمعتزلة ، بتقريرهم التحسين والتقبيح العقليينِ ، والله تعالى يقول : ( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )(8) . ويقول : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ )(9) .
ولأبي زهرة تعليق على تلك المسألة(10) : العقل عند جمهور الفقهاء ليس له أنْ يشرع الأحكام ، ولا يضع التكليفات . وليس معنى ذلك أنّه لا مجال لعمله ، بل إنّ له عملاً ، ولكنّه ينطلق في عمله حيث يطلقه الله سبحانه وتعالى ، ذلك أنّ التكليفات الإسلاميّة يتعلّق بها الثواب والعقاب ، وهما أمران يتولاّهما العليم الحكيم يوم القيامة ، وما كان الله تعالى ليعذّب أحداً على عمل لمْ يبيّن له طلبه فيه ، ولذا قال تعالى : ( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى‏ نَبْعَثَ رَسُولاً )(11) .
ويقول البغدادي(12) في بيان ما يُعلم بالعقل وما لا يُعلم إلاّ بالشرع : وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يُعرف إلاّ من طريق الشرع ، فإنْ أوجب الله عزّ وجلّ على عباده شيئاً بخطابه إيّاهم بلا واسطة أو بإرسال رسول إليهم وجب , وكذلك إنْ نهاهم عن شيء بلا واسطة أو على لسان رسول حُرّم عليهم ، وقبل الخطاب والإرسال لا يكون شيء واجباً ولا حراماً على أحد .
إذاً الأصل هو النصّ ، إذ هو وحده مصدر اليقين وما عداه فظنّ ، وما كان ظنّاً فهو يحتمل الخطأ والصواب . وأيّ محاولة لاستخدام العقل في أمر الدين فهي باطلة ، أنّها افتئات على الله ورسوله (ص) .
وإذا جاز جدلاً ـ وهو لا يجوز ـ استعمال الرأي في أحد الفروع بادّعاء معرفة العلل أو غيرها ، فما بالك بالنصّ المحكم ؟
ها هنا تحديداً وقع التبديل الكارثي .
لقد كانت محدثات عمر بن الخطاب أخطر انقلاب على أسس اليقين المعرفي الديني , وقد سبق مناقشة بعض مظاهر هذا الانقلاب سواء في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أو من بعده ، مثل :
ـ التذمر لتولية أسامة بن زيد إمرة البعث إلى الروم بعلّة حداثته .
ـ التلكّؤ في إنفاذ أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ببعث جيش أسامة حتّى إغضابه (صلّى الله عليه وآله) حال مرضه .
ـ مخالفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في إمرة عليّ بن أبي طالب (ع) ، والحيلولة دون توليته .
ـ إبطال سهم المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة ، طبقاً لمنطوق الآية ، بزعم عمر أنّ الإسلام قد عزّ .
منع العمرة وقت الحجّ ، بادّعاء توفير الرواج لمكّة على مدار العامّ .
تلك التي لمْ يجد ابن القيّم سنداً شرعيّاً لعمر فيها فسمّاها : ( العمل بالسياسة ) كما سبق ذكره .
إنّ الخطر الجوهري في إقحام الرأي الشخصي في الشرع يكمن ـ إضافة إلى جريرته الدينيّة ـ في نقض اُسس البِناء المعرفي الإسلامي ، بما أسلمه إلى حالة هلاميّة تتعايش فيها المتناقضات ، بما لا تستطيع معها الإمساك بشيء البتّة .
يقول الله تعالى : ( يَا أَيّهَا الذينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(13) .
ويورد ابن كثير في تفسير هذه الآية الأقوال التالية :
ابن عبّاس : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة .
مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
الضحاك : لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم .
ويقول الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(14) .
فيقول ابن كثير : وذلك أنّه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد هنا ، ولا رأي ولا قول .
والقاعدة الفقهية المستقرّة تنصّ على أنّه : لا اجتهاد مع النص . ولا يفتأ خواص المسلمين وعوامهم يهتفون : الاتّباع وليس الابتداع .
ومع كلّ هذه النصوص والقواعد تجد من يقول بكلّ بساطة : إنّه العمل بالسياسة . وكأنّ شيئاً لا يناقض شيئاً .
تكاملت مع تلك المحدثات العمريّة بالأساس ، وما أعقبته من آثار ترسّبت في الذهنية العامّة ، صورة لا تقلّ خطراً عنها ، وتلك هي الحادثة العظمى على عهد أبي بكر ـ ضمن ما سمّي بحروب الردّة ـ وصاحبها خالد بن الوليد ، لمّا قتل مالكاً فيما أسلفنا مناقشته تفصيلاً .
إنّ التحليل النهائي لتلك الحادثة , يكشف عن المنهج الذرائعي الذي ساد الموقف وقتئذ وأمضاه الخليفة . فقد تصدرت الحاجة العمليّة للدولة ، وتقهقرت الأُسس القيميّة في موقف تناقضي شامل لمّا كانت هذه الأُسس هي المبرّر الوحيد للدولة .
إنّ شموليّة هذا التناقض تحوي ـ أيضاً ـ ما يبدو أنّه عدم يقين بالله ، وعدم استيعاب للدروس القاسيّة التي مرّ بها المسلمون على عهد نبيّهم (صلّى الله عليه وآله) . فهل كان هناك ظرف أقسى من بدر ؟ كان المسلمون فيه أقلّ عدداً وعدّة . وهل كان هناك أشدّ من اجتماع الأحزاب حتّى بلغت القلوب الحناجر ؟ لقد كان حقيقاً بهؤلاء إذاً إدراك أنّ الدين لا يتوقّف نصره على سيف خالد ذي الخطايا .
تجمّعت هذه العوامل معاً لتُعيد صياغة العقليّة والنفسيّة الجمعيّة على نمط مغاير لمَا أُريد لها من هذا الدين ، فكان أن أفضت إلى وضعية غير مهيكلة وملتبسة ، ومفتقدة للاتساق المنطقي ، وقابلة لأنْ تكونَ مسرحاً تتعايش فيه المتناقضات والمتنافرات في جوار معاً ، وكأنّها تعكس وضعاً طبيعيّاً لا غرابة فيه .
قاد ذلك بالضرورة إلى مجتمع يسوده التشوّه ، ويجد أفراده في نظامهم غير المتّسق منبعاً يتّسع لسلوكيّات متناقضة ، ويستمدّون منه تلقائيّاً ـ وبلا عناء ـ آلياتهم للتبرير ، وتلك كانت حالة المجتمع ساعة كربلاء .

ــــــــــــــ
(1) ( for all physical systems - not limited to electrons in a metal - there is always an uncertainty in the position and in the momentom of a particle and the product of these two uncertainties is of the order of magnitude of  plank's constant ) .
(2) د . يمنى طريف الخولي ، مشكلة العلوم الإنسانيّة / 181 ، ط 2 ـ القاهرة ـ  دار الثقافة / 1996 م .
(3) د . محمّد عابد الجابري ، بنية العقل العربي / 383 ، ط 3 ـ بيروت ـ مركز الدراسات الوحدة العربيّة / 1990 م .
(4) د . محمّد سيّد الجليند ، نظريّة المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان  / 187 ، ط 2 ـ القاهرة ـ مطبعة التقدّم / 1985 م .
(5) سورة الحاقّة / 51 .
(6) سورة الواقعة / 95 .
(7) سورة النمل / 22 .
(8) سورة البقرة / 216 .
(9) سورة يوسف / 40 .
(10) اُصول الفقه , مرجع سابق / 68 .
(11) سورة الإسراء / 15 .
(12) أصول الدين ، مرجع سابق / 24 .
(13) سورة الحجرات / 1 .
(14) سورة الأحزاب / 36 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page