إنّ الإنسان إذا تأمّل بفكر سليم وعقل مستقيم في هذا العالم الكبير والكون الشهير ، من أعالي سماواته إلى أعماق أراضيه وما في أجوافه وبحاره ، رأى ووجد أنّ موجوداتها مترابطة متشابكة ومتناسبة بعضها مع بعض بأتمّ الإرتباط والتناسب كجهاز واحد ، ومجموعة واحدة .
وهذا يدلّ على أنّ خالق جميعها واحد وهو العالِم باحتياجاتها والعارف بإرتباطاتها ، والخبير بما يحتاج العالَم إليه من الأجزاء والجزئيات .
وهذا أمر عقلي واضح يحسّه كلّ ذي تدبّر ، بل هو من البديهيّات العقلية لجميع المستويات البشريّة .
ألا ترى أنّهم يحكمون في المصنوعات البشرية ، كالسيارة مثلا ، أو الطائرة فرضاً بوحدة صانعها ومبتكرها 4لإنسجام أجزائها وترابطها بعضها مع بعض ولا يمكن أن يكون مخترع هيكل الطائرة غير مبتكر أجنحتها .. ولا يمكن أن يكون مبتكر السيارة غير مبتكر عجلاتها .. مع الحاجة الماسّة إلى تلك الأجزاء فيما بينها .
وكذلك اتّصال التدبير وإرتباط الصنع وتناسب الخلقة في هذا العالَم دليل على وحدة المدبِّر الصانع .
وإذا كرّرت التأمّل في هذا النظام الكوني الكبير المترابط ، وجدت أنّه بالإضافة إلى إرتباطه وتناسبه هو خال عن أي فساد بالرغم من كِبَرِه وعظمته .
وعدم الفساد والإختلال بنفسه دليل على وحدة صانعه وحكمته ، فإنّه لو كانت الآلهة متعدّدة لأختلّ العالم في التدبير ، وفسد في التقدير ، وهذا أيضاً أمر محسوس نلاحظه في حياتنا العادية والمظاهر الإجتماعية .
فالفساد يحدث عند التعدّد .. كما إذا تعدّد السلطان في مملكة ، أو تعدّد الحاكم في بلدة ، أو تعدّد الرئيس في عائلة ، بل حتّى إذا تعدّد الروح في بدن واحد بالرغم من محبّة البدن لروحه .
حيث إنّه عند وجود التعدّد يحدث الفساد والتبدّد ، فعدم الفساد دليل على عدم التعدّد .
وهذه الحكمة العلمية العقلية أشار إليها القرآن الكريم في قوله عزّ إسمه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (1).
وقوله عزّ إسمه : ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض ) (2).
واستفيد هذا البرهان أيضاً من حديث هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما الدليل على أنّ الله واحد ؟ قال :
« اتّصال التدبير وتمام الصنع ... » (3).
وعنه (عليه السلام) أيضاً :
« فلمّا رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، والتدبير واحداً ، والليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد » (4).
وعليه فاتّصال التدبير المنتظم يدلّ على وحدة المدبِّر المنظِّم ، ولا يمكن ولا يليق هذا الخلق العظيم بأحد إلاّ بالله تبارك وتعالى الذي هو العالم بحقائقه والعارف بإحتياجاته ، والحكيم في تدبيره .
وهذا هو برهان الإرتباط وحكمة التدبير ، الدالّ على وحدة الخالق الخبير .
________________________________________________________________________________
(1) سورة الأنبياء : (الآية 22) .
(2) سورة المؤمنون : (الآيه 91) .
(3) تفسير البرهان : (ج2 ص685) .
(4) نفس المصدر .
الأوّل : برهان الإرتباط والتدبير
- الزيارات: 731