تقدّم أنّ هذا القسم من التوسُّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، كما تقدّم بحث القسم الاَول منه وهو التوسُّل بدعائهم في حياتهم ،ويتكفّل هذا الفصل بحث القسمين الآخرين :
القسم الاَول : التوسُّل بالاَنبياء والصالحين في حياتهم المراد هنا التوسُّل بالاَنبياء والصالحين بأنفسهم وذواتهم ، لما لهم عند الله من شأن ومنزلة ، وأمثلته مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته كثيرة.
ـ فقد تقدّم قول الاَعرابي للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( فإنّا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ) وردَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عليه قوله الاَخير
( نستشفع بالله عليك ) مقرّاً قوله الاَول ( فإنّا نستشفع بك على الله ). وهو صريح في جواز الاستشفاع بالنبي نفسه إلى الله تعالى ، لمنزلته الشريفة عنده ومقامه المحمود لديه.
ـ كما تقدّم ذكر أبيات أبي طالب في الاستشفاع بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه ، وليس بدعائه وحسب ، وإقرار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الاَبيات واستبشاره بها.
ـ وفي الصحيح الثابت أيضاً توسُّل الاَعمى بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعاء علَّمه إيّاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه ..
عن عثمان بن حنيف : إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : ادعُ الله أن يعافيني.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إن شئت دعوتُ ، وإن شئت صبرتَ ، وهو خير لك ».
قال : فادعه.
إلى هنا يظهر من الحديث أنّ الرجل كان يتوسَّل بدعاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم له ، غير أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سينقله إلى أُسلوب آخر من أساليب التوسُّل ، فبدلاً من أن يدعو له بالشفاء ، علَّمه دعاءً يدعو به صاحب الحاجة نفسه ..
يقول الحديث : فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ائتِ الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ صلِّ ركعتين ، ثمّ قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة ، يا محمد ، إنّي أتوجَّه بك إلى ربِّي فيجلِّي لي عن بصري ، اللّهم فشفِّعه فيَّ ».
قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرَّقنا ، وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنَّه لم يكن به ضرٌّ قط (١).
ابن تيمية روى هذا الخبر عن البيهقي ، ثمَّ قال :
( قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد ، عن أبيه ، بطوله. ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر ، عن أبي أمامة بن سهل ، عن عمِّه عثمان بن
حنيف ). ثمَّ واصل ابن تيمية قائلاً : ( قلتُ : وقد رواه ابن السُنّي في كتاب عمل اليوم والليلة ، من طريقين ، وشبيب هذا صدوق روى له البخاري ) (2).
وقال أيضاً : ( وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم ) ثمَّ ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر إلى أن قال : ( قال الطبراني : روى هذا الحديث شعبة ، عن أبي جعفر ـ واسمه عُمير بن يزيد ـ وهو ثقة ، تفرَّد به عثمان بن عمير عن شعبة ، قال أبو عبدالله المقدسي : والحديث صحيح ). قال : ( قلتُ : والطبراني ذكر تفرُّده بمبلغ علمه ، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة ، وذلك إسناد صحيح يبيِّن أنّه لم ينفرد به عثمان بن عمير ) (3).
لكنّه مع هذا كلّه ، ومع وضوح النص النبوي ، يقول : فهذا طلبَ من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجّهه بنبيِّه إلى الله ، وهو كتوسُّل غيره من الصحابة به إلى الله ، فإنّ هذا التوجّه والتوسُّل هو توجّه وتوسُّل بدعائه وشفاعته! (4).
ويستنتج من ذلك وأمثاله ممّا تقدّم ذكره أنّ الصحابة كانوا يطلبون من النبي الدعاء ، وهذا مشروع في الحيّ (5).
وفي هذا مصادرة على الحقيقة غير خافية ، ففرق كبير بين أن يطلب أحد الدعاء من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيدعو له ، وبين أن يطلب منه الدعاء ، فيعلّمه أن يدعوا بنفسه ويتوسَّل في دعائه بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسيلةً وشفيعاً. ففي الاَوَّل يتولَّى النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الدعاء للسائل الذي توسَّل بدعائه له ، وهو مرتبة من مراتب التوسُّل ، وفي الثاني يتولَّى المرء نفسه الدعاء متوسِّلاً بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه.
والاَمر واضح ، لاسيما وفي الحديث عبارة صريحة تقول : « يا محمّد يا رسول الله ، إنّي أتوجّه بك إلى ربِّي في حاجتي ».
فهو توجّه صريح بمحمّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه ، وتوسل به نفسه إلى الله تعالى ، ولا يؤثر على هذا المعنى ما جاء بعده من قوله « اللّهم فشفّعه فيَّ » لاَنّ هذه هي غاية التوسُّل والتوجُّه والاستشفاع ، سواء كان توسُّلاً بالدعاء ، أو كان توسُّلاً بذات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
كما أنّ قول الاَعرابي المتقدّم الذكر ( ادعُ لنا ) الذي يفيد التوسُّل بدعائه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يلغي دلالة قوله : ( فإنّا نستشفع بك على الله ) بعد إقرار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا القول الذي هو صريح بالتوسُّل بذاته الشريفة.
ومثله في صراحة التوسُّل بذاته الشريفة قول أبي طالب الذي استبشر به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ ومثل هذا في الدعاء كثير ، نكتفي منه بما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه ذكر في دعاء الخارج للصلاة ، أن يقول : « اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك ، وبحقِّ ممشاي هذا ، فإنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا رياءً ولا سمعةً ، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت ».
ثمّ نقل بعض أهل العلم أنّهم قالوا : ففي هذا الحديث أنّه سأل بحقِّ السائلين عليه وبحقِّ ممشاه إلى الصلاة ، والله تعالى قد جعل على نفسه حقّاً ، قال الله تعالى : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين ) (6) ونحو قوله : ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً ) (7).
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال له : « يا معاذ أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ ».
قال : الله ورسوله أعلم.
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإنّ حقَّهم عليه أن لا يعذّبهم ».
وقد جاء في غير حديث : « كان حقّاً على الله كذا وكذا » كقوله : « من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد فشربها ـ في الثالثة أو الرابعة ـ كان حقّاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ».
قيل : وما طينة الخبال؟
قال : « عصارة أهل النار » (8).
وكل هذا دليل على صحة التوسُّل بالصالحين أنفسهم ، وليس بدعائهم وحسب.
بل في هذا الحديث دلالة واضحة على جواز التوسُّل بهم بعد موتهم ، فقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « بحقِّ السائلين » لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليهالسلام إلى يوم السائل هذا ، بل يستوعب الملائكة ومؤمني الجن أيضاً ، ولا يمكن حصره بالسائلين هذا اليوم أو من الاَحياء ، إذ لا دليل على هذا يحمله الحديث ، ولا مخصص له من خارجه أيضاً ، وسيأتي الكلام في هذا في الفقرة اللاحقة.
كما أنّ في الحديث شاهد آخر على التوسُّل بالاَعمال الصالحة : « بحقِّ ممشاي هذا ... ».
__________
(١) مسند أحمد ٤ : ١٣٨. الجامع الصحيح للترمذي ح / ٣٥٧٨ ـ كتاب الدعوات ، سنن ابن ماجة ح / ١٣٨٥.
(2) التوسُّل والوسيلة : ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٣.
(3) التوسُّل والوسيلة : ١٠٥ ـ ١٠٦.
(4) التوسُّل والوسيلة : ٩٢ ، وكتاب الزيارة / لابن تيمية أيضاً : ٤٧ ـ المسألة الرابعة.
(5) التوسُّل والوسيلة : ٢٠ ، كتاب الزيارة : ٨٦ ـ المسألة السابعة.
(6) سورة الروم : ٣٠ / ٤٧.
(7) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٦.
(8) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : ٣٩ ـ ٤٠.
الفصل الثاني: التوسُّل بالاَنبياء والصالحين
- الزيارات: 1677