ابتدا هذا الدور بعد هجوم نادر شاه علي العراق، و يقدر اوله بسنه ثلاث و ستين بعد المايه و الالف الهجريه، و ذلك عند اسناد ولايه بغداد الي سليمان باشا مملوك احمد باشا.و قد ولع سليمان هذا باقتناء المماليك ولعا عظيما لكونه منهم. و قد بذل جهدا كبيرا في سبيل تربيتهم و تعليمهم الفنون الحربيه، فعزز ذلك من مركزه، و حط من انفه المستحقرين شانه فاشتهر اسمه و بعد صيته في ضبطه للامور و عبقريته الاداريه. الا انه فتح للعثمانيين بابا لم يتمكنوا من ردمه الا بعد مده من الزمن اذ فلته زمام المبادره من ايد الحكومه صفحه 27 العثمانيه. و دخل العراق دورا جديدا استقل فيه الولاه المماليك عن الحكومه العثمانيه، فاطلقوا ايديهم في العبث بشوونها، فاخذوا يتنافسون فيما بينهم للتوصل الي السلطه، و اندلعت الثورات في البلاد. و قد آل حال هذا الدور الي وضع غريب. لا يمكن للباحث المحقق ان يصف تلك الحاله وصفا ينطبق علي واقع الحال، اذ كانت الاوضاع في تقلب عجيب، لم تستقر فيها علي مبدا واحد.و لما وقع بين المماليك من التنافس و التناحر علي السلطه لم يبق للولاه تلك الاهميه و النفوذ التي كانت لولاه الدور الاول، فهذا عبدالله باشا طلب من حمود رييس عشيره المنتفق بتسليم سعيد بن سليمان الكبير. فرفض هذا الاخير طلبه حفظا للجوار. فاضطر الوزير الي الخروج بنفسه لكي يحفظ ما تبقي للوالي من هيبه و سلطه. فاشتبك مع حمود في معركه حاميه، فدارت الكره علي الوزير لتفرق بعض اعوانه عنه. فاسرت عساكره و نهبت سرادقه، و وقع هو نفسه في الاسر. فكبل بالحديد و وضع القيد في عنقه و اخذ الي السوق ذليلا، فخنق بها و قبر، ثم نبش و قطع راسه. فصار سعيد المستجير اميرا، قام مقام الوزير لتعضيد حمود اياه اذ سير معه الجيوش الي بغداد و مكنه من ولايت امرها هذا و لم تكن بين ولاياتها كالدور الاول رابطه قويه دايمه لتنظيم امورها و صيانتها من تطاول الايدي، و اخضاع العصاه من اهل عصبياتها، و المواقع الخارجه عن سيادتها. فهذه البصره اخذها صادق شقيق كريم خان الزند بعد ان حاصرها مده من الزمن دون ان يستطيع والي بغداد عمر باشا ان يفعل شييا لعدم وجود حاميه في بغداد تعمل علي استخلاص البصره من ايدي الفرس. و ذلك فبالرغم من تشدد عبدالحميد و اهتمامه للامر، و قيامه بارسال الجيوش لها من عاصمته، فان ذلك لم يغن شييا، اذ بقت البصره بايد الاعاجم حتي ان بلغ صادق الزند خبر وفاه اخيه، فتركها فورا الي عاصمته شيراز طمعا بالسلطه. فعادت البصره حينذاك فقط الي حوزه صفحه 28 الدوله العثمانيه و ذلك لميل اهلها.و لعدم وجود حاميه في بغداد استقل روساء الولايات، كل بشوون ولايته. خلا البصره، اذ كانت الحكومه العثمانيه ترسل اليها من يحكمها تحت اسم: (المسلم). و بعضا الحله.هذا و كان العثمانيون معذورين من عدم تركهم الحاميه فيها او ارسال الجند لاخضاع المتمردين بها. و ذلك لانشغالهم بانفسهم و ارتباك امورهم. ولكنه اذا اعلن احد ولاتهم العصيان عليهم. فلا يتعدي الحال امرين. اما ان يتداركوا الامر بالحال. او ينتظرون ريثما يعينون والي جديد يسيرون معه جيشا لاخضاع الخارج عن ارادتهم، و اخذ راسه، و ارساله الي سرير السلطان.و هناك وقع ما اغني العثمانيين من تكبد هذه المشاق، بما ظهر في البغداديين من الحماس و الاقدام علي عزل ولاتهم و قتل بعضهم، و نصب من رغبوا فيه. و كان ذلك من السهل عليهم بمكان، فقط كانوا يتقدمون الي تقديم محضر يطلبون فيه من الملك التصديق علي تعيينه، فبوصول هذا المحضر كانت تصدر الاراده موافقه علي ذلك اذ لم يكن هناك من يبحث عن سبب ذلك.و لسياده الفوضي و كثره القتل و النهب في البلاد، اضطرب حبل الامن و انقطعت طرق المواصلات بين البلاد. فالجا هذا الحال الامراء و الولاه و بعض اهل الفضل الي ان يبذلوا الاموال لتشييد المعاقل و الخانات، و توظيف الخفراء فيها و ذلك لتامين المسافرين من الاخطار. و لياخذوا بها قسطا من الراحه ايضا و تلك المعاقل موجوده حتي اليوم، بعضها عامر و البعض الآخر علي شرف الاضمحلال لترك الناس لها عندما استتب الامن نوعا ما و كانت القوافل لا تسير اكثر من ساعتين او ثلاث. و لذلك راعوا في بناء هذه المعاقل ان تكون المسافه قليله بين معقل و آخر، فاذا خرجت صفحه 29 القوافل من كربلاء قاصده بغداد امت المعقل الاول الذي يسمي اليوم ب (خان العطيشي)، ثم الي معقل المسيب ثم معقل الاسكندريه ثم معقل المحموديه. و قد يمرون بثلاثه معاقل حتي يصلوا بغداد. و لم تكن المسافه بين معقل و آخر لتتجاوز الثلاث ساعات.و بلغ الحال بها من السوء درجه ان اصبحت القوافل مهدده في اقل من هذه المسافه. و اصبح الصعاليك يضربون الاتاوه علي ما يتمكنون من استيفايه. اذ لم تكن هناك قوه حازمه لتردعهم. فهولاء الزكاريت و ليسوا هم الا من صعاليك البدو كانوا يجبون بما في بساتين كربلاء من التمر. و قد وصل الامر من السوء درجه انه اذا اعترض احد الاهالي عليهم او تكلم عنهم بسوء فسوف يصبح و هو لا يملك من نفسه و لا ارضه شييا. و ربما اجبروا الاهلين الي تفويضهم حتي امتلاك بساتينهم. فكم ترك الاهالي لهولاء الصعاليك من الاراضي و البساتين اذ لليوم تطلق اسمايهم علي القطع التي اغتصبوها.فليت شعري ان كان هذا حال صعاليكها و مستضعفيها. فبالله ماذا يكون من امر اهل عدتها و عدديها. فلا نستغرب اذن من انهم قد القوا الذعر و الفزع في نفوس اهل المدن الكبري اذ ان لعصبياتهم و تحزبهم صار شرهم لا يطاق لنهب كل عشيره ما يجاورها من النواحي و الاقضيه و المدن لزبيد الحله و توابعها اذ ان موطنهم الجزيره بين النهرين. و لخزاعه حسكه و توابعها و موطنهم الديوانيه - علي انها اتخذت ديوانا لروسايهم - و للمنتفق البصره لقرب موطنهم منها. و لبني لام بدره و جصان، و قد وصلت بغداد غاراتهم. و للضفير الذين هم من البدو الرحل عند ورودهم العراق: السماوه و الرماحيه. و لشمر كل العراق اذ انهم لا ياوون الي محل يختص بهم دون غيرهم.و لربما اتفق هولاء جميعا و شاركهم من هم علي شاكلتهم في حصارهم صفحه 30 للمدن. و قد صادف في بعض السنين او ورد من الايرانيين الي كربلا بقصد الزياره ما ينوف عددهم علي الاربعين الف زاير، و فيهم زوجه شاه ايران. فتحركت عليهم اطماع العرب. فاتفقت: خزاعه و زبيد و شمر و آل ضفير الي نهبهم. فقصدوا كربلاء و حاصروها مده من الزمن و لوجود زوجه الشاه بينهم. خاف سعيد باشا والي بغداد حينذاك من عواقب الامور. فاهتم لذلك و بعث داود الذي صار واليا علي بغداد بعد حين لما عرف فيه من الكفايه و البساله و الاقدام. اذ كان ذلك باديا علي محياه من نعومه ظفاره فقام داود بالمهمه التي عهدت اليه. اذ جرد ما تمكن من تجريده من المتطوعه و نزل الحله الي ان تمكن بعد جهد جهيد من ردع هولاء الاعراب و تفريق جمعهم. فسير مع الفرس من يخفرهم الي النجف ثم اعادوهم الي بغداد و اوصلوهم الي مامنهم.و مما زاد في الطين بله ان اخذت العشاير تغزو بعضها بعضا. كما هو الحال الي اليوم داخل جزيرتهم لخلو فيافيها القاحله من الحراثه و الزراعه فلم ير اهلها طريقا للعيش سوي غزو بعضهم بعضا.و حيث انهم كانوا حديثوا عهد بالنهب و الغزو. و لم يكن بعد قد اصبح ذلك عرفا بينهم. فصاروا يتوسلون بكل وسيله - مهما كانت طفيفه - من شانها ان تثير الفتن بينهم. حتي يتخذوا منها ذريعه لغزو بعضهم بعضا. فان ذلك بها لا يعد لكثرته، فما وقع بين المنتفق و خزاعه فيما يلي السماوه كان من تلك الغارات. و كان لذلك يوما مشهودا انتصرت فيه خزاعه علي المنتنفق. و علي مر الايام اصبح الغزو و الغاره عاده لا ينكر شانها. حتي ان البدو الذين هم داخل الجزيره العربيه كانوا عند قدومهم العراق يغزون مواقعها لتقرر ذلك اذ ان الامر صار بينهم سنه و عاده. و ما وقع لاهل الباديه بها لا يحصي عده و قد ادركنا جمله منها.هذا و قد بلغ الحال من التاخر درجه بحيث صار الدور الاول من سير صفحه 31 اداره حكم الدوله العثمانيه دور عمران و تقدم اذا قيس بهذا الدور.و ختم هذا الدور بسقوط داود باشا الذي حكمها بضع سنين مستقلا عن نفوذ العثمانيين.و لولا ما داهمه القضاء في تدمير جيوشه بانتشار مرض الطاعون و الوباء بينهم. لكان خطره علي الدوله العثمانيه تلو ما دهم العثمانيين من القايد المصري محمد علي. فذهبت مساعيه ادراج الرياح و قد اخذ اسيرا الي العاصمه و ترك هناك تحت اسم (شيخ الوزراء) ثم بعث شيخا لحرم الرسول المكرم صلي الله عليه و آله و سلم. فقام بتلك الوظيفه المقدسه اخريات ايامه الي ان ادركه حمامه، فقبر في بقيعها.هذا و قد تدفقت الحياه مجددا باوصال العثمانيين الخامده عندما قام احد سلاطينهم ابو السعود محمود الي قتل الينگچريه لسنه احدي و اربعين بعد الماتين و الالف الهجريه. و قد قبض بيد من حديد علي امور الدوله. فاوقفها من هوه تقهقرها، و سعي لاعاده شانها و اصلاح امورها. عطف عند ذلك نظره علي العراق و انقذها من يد المتغلب عليها داود. بعد ان فوض شوون ادارتها الي اللاز علي رضا.الا ان العراق لم يتزود من تفقداته بسوي ذلك، اذ اختطفته يد المنون فقام ولده عبدالمجيد مقامه فكان مما هيي‌ء له من اسباب السعاده ان عاصره المصلح الكبير الاول و اوحد رجالاتهم مصطفي رشيد، فالبس دولته لباس الحضاره و اعاد اليها ابهه النضاره. فانار العراق بظهور آثار الدور الثالث من سير اداره الحكم العثماني للعراق.

أضف تعليق