بعد أن اتضح وجود النفاق في مكة بصريح الآيات وكتب التفسير والحديث، قد يتردد البعض في هذه الحقيقة بتوهم أن من خرج من أرضه وماله باختياره كيف ينافق؟ وهذا التوهم الفاسد إنما هو مجرد استبعاد بعيد الصلة عن شخصية الإنسان وواقعه، وهو يُنبئ عن قصور في النظر تجاه الطبيعة البشرية التي تتجاذبها الكثير من الميول النفسية والظروف الاجتماعية والبيئية والقبلية، حيث إنها قد تؤثر على تفكير الإنسان وطموحاته وأهدافه التي قد يرسمها لنفسه ضمن حركة أو حزب أو دين معين وإن كان قد يتعرض للظلم والاضطهاد في منطلق مسيرته، ونحاول فيما يلي أن نشير إلى بعض تلك الأسباب والدوافع على سبيل الاختصار:
1ـ إننا كثيراً ما نجد في المجتمعات فئات من الناس مستعدة لقبول أية دعوة إذا كانت ذات شعارات طيبة تنسجم مع أحلامهم وآمالهم وتطلّعاتهم إلى تحقيق رغباتهم وما تصبوا إليه نفوسهم، فيناصرونها رغم أنهم في ظل أعتى القوى وأشدها طغياناً، فيعرضون أنفسهم للأخطار والمشاق والمصاعب وإن خسروا أرضهم وأموالهم، كل ذلك رجاء أن يوفقوا يوماً لتحقيق أهدافهم التي يحلمون بها من الجاه والسلطان وحب الشهرة والحصول على الثروات الطائلة، مع أنهم ربما لا يؤمنون بتلك الدعوة إلا بمقدار إيمانهم بضرورة الحصول على تلك الأهداف، ولذا نجدهم يتراجعون عن تلك المبادئ إذا تعرضت حياتهم للخطر وأيقنوا بعدم نيل تلك المآرب، نظير ما تقدم من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}(1)، خصوصاً وأنها نزلت كما تقدم في من أسلم في مكة المكرمة، وكذا ما تقدم في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (2)، قال الواحدي بعد بيان نزولها في المنافقين: "وقالوا: نكون مع أكثر الفئتين، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم"(3).
مضافاً إلى أن جزيرة العرب استعلمت من اليهود ظهور نبي في هذا الزمان والمكان سيفتح حصون كسرى وقيصر وستدين له العرب والعجم، لا سيما وأنهم رأوا ولمسوا صدقه ووقوع بعض ما أخبر به، ومن الأمثلة التي تدل على رسوخ ذلك المبدأ في الأذهان ما حصل في معركة الخندق التي كانت سبباً في نزول قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} (4)، قال القرطبي في تفسيره: "أي: باطلاً من القول: وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قريش وجماعة نحو من سبعين رجلاً قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز"(5).
ونحن إذ نذكر هذه الأمور لا نبتغي التشكيك في نوايا المسلمين وخصوصاً السابقين منهم، الذين بذلوا الغالي والنفيس وقدموا أرواحهم وكل ما يملكون بصدق وإخلاص في سبيل الإسلام وإعلاء كلمته، وإنما أردنا بذلك أن نثبت لك خطأ ما جزمت به من عدم وجود أي مظهر من مظاهر النفاق بين مسلمي مكة ومهاجريهم.
2ـ ما أشرنا إليه آنفاً من أن إنكار وجود النفاق في مكة لا يستلزم تنزيه المهاجرين كافة عن ابتلاء بعضهم بمرض الشك والنفاق والريبة، مع كثرة المحن والفتن والظروف القاهرة والعصيبة التي كانت تعصف بالمجتمع الإسلامي من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، مضافاً إلى الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون كالتزلزل والشك في الدين الذي حصل في معركة أحد، حتى قال بعضهم: "فلنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان"(6).
وقد أحدثت هذه المعركة هزة عنيفة زلزلت إيمان وثبات الصحابة إلا قليل منهم، حتى عاتبهم الله ووبخهم، قال عزّ وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} (7).
ومن جميع ما ذكرنا يتبين أن النفاق لم ينحصر بالأنصار من الأصحاب، بل شمل بعض المهاجرين أيضاً، سواء في مكة قبل الهجرة أم في المدينة.
____________
(1) العنكبوت: 10.
(2) الأنفال: 49.
(3) الواحدي، تفسير الواحدي: ص444، دار القلم ـ بيروت.
(4) الأحزاب: 12.
(5) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج14 ص147.
(6) الطبري، جامع البيان: ج4 ص147.
(7) آل عمران: 144.
أسباب ودواعي النفاق في مكة
- الزيارات: 801