الثاني والثلاثون: ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) له فتح الباري وهو شرح صحيح البخاري، وقد ذكر في شرح الأحاديث التي سبق أن ذكرناها عن البخاري، ما تميز به من الدفاع عن بيعة الفلتات، كما له في لسان الميزان(1) تحامل على علوان بن داود البجلي مولى جرير بن عبد الله؛ لأنّه ذكر حديث مثلثات أبي بكر في خبره مع عبد الرحمن بن عوف، وقد مر ذكره موثقاً بمصادره فراجع وهي كثيرة.
غير أنّ ابن حجر لم يستسغ الخبر برواية (عُلوان بن داود) فنال منه، ولعلّه غاظه ما جاء فيه من قول أبي بكر: (وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب) وهذا اعتراف بجناية ما فوقها من جناية، فكشف بيت فاطمة بالصورة المروعة التي حدثت تستدعي الندم وتأنيب الضمير لو كان ينفع ذلك، ولات مندم.
وله في لسان الميزان بعض النصوص نذكر منها ما ذكره في ترجمة (اسفنديار بن الموفق بن محمد بن يحيى أبو الفضل الواعظ) قال: روى عن أبي الفتح ابن البطي ومحمد بن سليمان وروح بن أحمد الحديثي, وقرأ الروايات على أبي الفتح بن زريق, وأتقن العربية وولى ديوان الرسائل, روى عنه الدبيثي وابن النجار وقال: برع في الأدب وتفقه للشافعي وكان يتشيع, وكان متواضعاً عابداً كثير التلاوة. وقال ابن الجوزي: حكى عنه بعض عدول بغداد انّه حضر مجلسه بالكوفة فقال: لما قال النبي(صلى الله عليه وآله) : (من كنت مولاه فعليّ مولاه) تغيّر وجه أبي بكر وعمر, فنزلت: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} .
هذا ما ذكره ابن حجر بنصّه ولم يزد في التعقيب عليه إلاّ قوله: فهذا غلوّ منه في شيعيته, وذكره ابن بابويه فقال: كان فقيهاً ديّناً صالحاً لقبه صائن الدين.
أقول: ولا يظهر في تعقيبه إنكار ما ذكره عنه, بمجرد زعمه (فهذا غلو منه في شيعيته) الرجل ليس بشيعي بل هو شافعي بل من فقهاء الشافعية. ولعل ابن حجر أضمر في نفسه صحة الخبر, إلاّ انّه على استحياء أو لضغط الموروث قال (فهذا غلو منه في شيعيته).
وهذا ما لم يعجب المناوي فقال في كتابه فيض القدير(2): ومن الغريب ما ذكره في لسان الميزان في ترجمة اسفنديار ثم ساق ما ذكره ابن حجر, وعقب عليه بقوله: هكذا ذكره الحافظ في اللسان بنصّه، ولم أذكره إلاّ للتعجب من هذا الضلال وأستغفر الله, قال ابن حجر حديث كثير الطرق جداً استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد منها صحاح ومنها حسان وفي بعضها قال ذلك يوم غدير خم, وزاد البزار في رواية: (اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبّه، وأبغض من أبغضه, وانصر من نصره, واخذل من خذله).
ولما سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا _ فيما أخرجه الدارقطني عن سعد بن أبي وقاص_: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة. وأخرج أيضاً قيل لعمر: إنّك تصنع بعليّ شيئاً لا تصنعه بأحد من الصحابة؟ قال: انّه مولاي.
وفي تفسير الثعلبي عن ابن عيينة: أن النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لما قال ذلك طار في الآفاق فبلغ الحارث بن النعمان فأتى رسول الله (صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم) فقال: يا محمد أمرتنا عن الله بالشهادتين فقبلنا, وبالصلاة والزكاة والصيام والحج فقبلنا, ثم لم ترضى حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال: (والذي لا إله إلاّ هو انّه من الله) فتولى وهو يقول: اللّهمّ إن كان ما يقوله محمد(صلى الله عليه وآله) حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم، فما وصل راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله.
ثم قال المناوي: ولا حجة في ذلك كله على تفضيله على الشيخين، كما هو مقرر في محله من فن الأصول؟!
___________
1- لسان الميزان 4: 188.
2- فيض القدير 6: 217.
ما ذكره ابن حجر العسقلاني
- الزيارات: 583