و أثرت عن الامام أبي جعفر (ع) وصايا كثيرة، وجه بعضها لابنائه، و بعضها لأصحابه و هي حافلة بالقيم الكريمة، و المثل العليا، و زاخرة بآداب السلوك، و التوجيه الصالح الذي يصون الانسان من الانحراف و السلوك في المنعطفات، و فيما يلي ذلك:
وصاياه لولده الصادق:
و زود الامام أبو جعفر (ع) ولده الصادق بجمهرة من الوصايا القيمة، و من بينها:
١ -قال (ع) : «يا بني ان اللّه خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء:
خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئا فلعل رضاءه فيه، و خبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا فلعل سخطه فيه، و خبأ اولياءه في خلقه فلا تحقرن أحدا فلعله ذلك الولي. . .» 1
و حفلت هذه الوصية بمعالي الاخلاق، ففيها الترغيب في طاعة اللّه و الحث عليها، و فيها التحذير من المعصية، و التشديد في أمرها، و فيها الحث على تكريم الناس و عدم الاستهانة بأي احد منهم.
٢ -حكى الامام الصادق (ع) احدى وصايا أبيه الى سفيان الثوري فقد قال له: «يا سفيان أمرني أبي بثلاث، و نهاني عن ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، و من يدخل مداخل السوء يتهم، و من لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني:
عود لسانك قول الخير تحظ به ان اللسان لما عودت يعتاد
موكل بتقاضي ما سننت له في الخير و الشر فانظر كيف تعتاد 2
و هذه الوصايا من روائع الحكم، و من خيرة وصايا المصلحين لابنائهم فقد حفلت بجميع مقومات الآداب و الفضائل.
وصيته لبعض ابنائه:
و واصى بعض ابنائه بهذه الوصية فقال له: «يا بني اذا انعم اللّه عليك نعمة فقل: الحمد للّه، و اذا احزبك 3 أمر فقل: لا حول و لا قوة إلا باللّه، و اذا ابطأ عنك رزقك فقل: استغفر اللّه.» 4
وصيته لعمرو بن عبد العزيز:
و حينما ولي الخلافة عمرو بن عبد العزيز طلب من الامام أبي جعفر عليه السلام أن يزوده بوصية ينتفع بها، و يسوس بها دولته، فقال عليه السلام له:
«أوصيك بتقوى اللّه، و أن تتخذ صغير المسلمين ولدا، و أوسطهم أخا، و كبيرهم أبا، فارحم ولدك، و صل أخاك، و بر أباك، و اذا صنعت معروفا فربه 5 .» 6
و بهر عمرو بهذه الحكمة الجامعة و راح يبدي اعجابه قائلا:
«جمعت و اللّه ما ان اخذنا به، و اعاننا اللّه عليه استقام لنا الخير ان شاء اللّه.» 7
و اروع كلمة جامعة لشؤون السياسة العادلة هذه الكلمة القيمة، فان رئيس الدولة اذا ساس رعيته بسياسة العدل و الانصاف، و اعتبر ابناء الأمة من أفراد أسرته، و عاملهم كما يعامل الرجل أهله فيشيع فيهم الخير، و يبسط فيهم العدل فان الحكومة و الشعب يسعدان، و يستقيم لهما الخير.
وصيته لجابر الجعفى:
و زود الامام أبو جعفر (ع) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة و المثل العليا التي يسمو بها الانسان فيما لو طبقها على واقع حياته، و هذا بعض ما جاء فيها:
«أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، و ان خانوك فلا تخن، و ان كذبت فلا تغضب، و ان مدحت فلا تفرح، و إن ذممت فلا تجزع، و فكر فيما قيل فيك، فان عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين اللّه عز و جل عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، و إن كنت على خلاف ما قيل فيك: فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
و اعلم بأنك لن تكون لنا وليا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، و قالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، و لو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، و لكن اعرض نفسك على كتاب اللّه فان كنت سالكا سبيله، زاهدا في تزهيده راغبا في ترغيبه، خائفا من تخويفه فاثبت و ابشر، فانه لا يضرك ما قيل فيك، و ان كنت مبائنا للقرآن، فما ذا الذي يغرك من نفسك، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها و يخالف هواها في محبة اللّه و مرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه اللّه، فينتعش، و يقيل اللّه عثرته فيتذكر، و يفزع الى التوبة و المخافة فيزداد بصيرة و معرفة لما زيد فيه من الخوف و ذلك بان اللّه يقول:
«إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ» 8 .
يا جابر استكثر لنفسك من اللّه قليل الرزق تخلصا الى الشكر، و استقلل من نفسك كثير الطاعة للّه إزراء على النفس 9 و تعرضا للعفو، و ادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، و استعمل حاضر العلم بخالص العمل، و تحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، و استجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، و احذر خفي التزين بحاضر الحياة، و توق مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، و استبق خالص الاعمال ليوم الجزاء، و انزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، و ادفع عظيم الحرص بايثار القناعة، و استجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، و اقطع اسباب الطمع ببرد اليأس، و سد سبيل العجب بمعرفة النفس، و تخلص الى راحة النفس بصحة التفويض، و اطلب راحة البدن باجمام 10 القلب، و تخلص الى اجمام القلب بقلة الخطأ، و تعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، و استجلب نور القلب بدوام الحزن. و تحرز من ابليس بالخوف الصادق، و إياك و الرجاء الكاذب فانه يوقعك في الخوف الصادق، و تزين للّه عز و جل بالصدق في الاعمال، و تحبب إليه بتعجيل الانتقال و اياك و التسويف فانه بحر يغرق فيه الهلكى، و اياك و الغفلة ففيها تكون قساوة القلب، و اياك و التواني فيما لا عذر لك فيه فاليه يلجأ النادمون و استرجع سالف الذنوب بشدة الندم، و كثرة الاستغفار، و تعرض للرحمة و عفو اللّه بحسن المراجعة، و استعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء، و المناجاة في الظلم، و تخلص الى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق، و استقلال كثير الطاعة، و استجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، و التوسل الى عظيم الشكر بخوف زوال النعم، و اطلب بقاء العز باماتة الطمع، و ادفع ذل الطمع بعز اليأس، و استجلب عز اليأس ببعد الهمة، و تزود من الدنيا بقصر الأمل، و بادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة، و لا امكان كالايام الخالية مع صحة الابدان، و إياك و الثقة بغير المأمون فان للشر ضراوة كضراوة الغذاء.
و اعلم انه لا علم كطلب السلامة، و لا سلامة كسلامة القلب، و لا عقل كمخالفة الهوى، و لا خوف كخوف حاجز، و لا رجاء كرجاء معين، و لا فقر كفقر القلب، و لا غنى كغنى النفس، و لا قوة كغلبة الهوى، و لا نور كنور اليقين، و لا يقين كاستصغارك للدنيا، و لا معرفة كمعرفتك بنفسك، و لا نعمة كالعافية، و لا عافية كمساعدة التوفيق، و لا شرف كبعد الهمة، و لا زهد كقصر الأمل، و لا حرص كالمنافسة في الدرجات، و لا عدل كالانصاف، و لا تعدي كالجور، و لا جور كموافقة الهوى، و لا طاعة كاداء الفرائض، و لا خوف كالحزن، و لا مصيبة كعدم العقل، و لا عدم عقل كقلة اليقين، و لا قلة يقين كفقد الخوف، و لا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف، و لا مصيبة كاستهانتك بالذنب، و رضاك بالحالة التي أنت عليها، و لا فضيلة كالجهاد، و لا جهاد كمجاهدة الهوى، و لا قوة كرد الغضب، و لا معصية كحب البقاء، و لا ذل كذل الطمع، و اياك و التفريط عند امكان الفرصة فانه ميدان يجر لأهله بالخسران. .» 11
و دللت هذه الوصية الرائعة الحافلة بجواهر الحكم على امامة الامام أبي جعفر (ع) و اضاءت جانبا كبيرا من مواهبه و عبقرياته، و لو لم تكن له إلا هذه الوصية لكفت في الاستدلال على عظمته و ما يملكه من طاقات علمية لا تحد، لقد نظر الامام العظيم الى اعماق النفوس، و سبر اغوارها و حلل ابعادها، و عرف ما ابتلي به الانسان من الأمراض و الآفات لقد ابتلي الانسان بالجهل و الغرور و الكبرياء و الجشع و الطمع، و طول الأمل و غير ذلك مما يدفعه الى الاغراق في المعاصي و اقتراف الآثام و الانحراف عن طريق الحق، و عدم الاستقامة في سلوكه، درس الامام (ع) هذه الأمراض فوضع لها العلاج الحاسم، و وصف لها الدواء السليم الذي يقضي على جراثيمها، و اذا اخذ الانسان بهذه الوصفة فانه يعود انسانا مثاليا مهذبا، قد صان نفسه، و اتصل بخالقه الذي إليه مرجعه و مآله، و لو لا خوف الاطالة لشرحنا بنودها شرحا مفصلا، و دللنا على ما فيها من الحكم و الأسرار.
وصيته لرجل:
وفد عليه رجل من المسلمين و طلب منه أن يمنحه بوصية يسير على ضوئها فقال (ع) له:
«هيئ جهازك، و قدم زادك، و كن وصي نفسك.» 12
لقد دله على ما يقربه الى اللّه زلفى، و ما يضمن له السلامة في دار البقاء و الخلود، ان الانسان اذا هيئ جهازه و قدم زاده كان على سلامة من دينه، و ضمان آخرته.
وصيته لبعض اصحابه:
و أراد بعض أصحاب الامام (ع) السفر فزوده (ع) بهذه الوصية القيمة، قال له:
«لا تسيرن سيرا و أنت حافي، و لا تنزلن عن دابتك ليلا لقضاء حاجة إلا و رجلك في خف، و لا تبولن في نفق، و لا تذوقن بقلة و لا تشمها حتى تعلم ما هي، و لا تشرب من سقاء حتى تعرف ما فيه، و أحذر من تعرف و لا تصحب من لا تعرف. .» 13
لقد اوصاه الامام (ع) بالمناهج الصحية، و الدروس الاخلاقية التي تضمن له الصحة و السلامة.
أما ما يتعلق بالصحة و الوقاية من الأمراض فهي:
أ-أمره أن لا يسير حافيا، فان المشي حافيا كثيرا ما يجلب للإنسان بعض الأمراض التي انتشرت جراثيمها في الارض، و هي مما تنفذ بسرعة الى مسام القدمين مثل البهلرزيا.
ب-اوصاه أن لا ينزل من دابته في الليل حافيا لقضاء حاجته لأنه لا يؤمن أن تلذعه بعض هوام الأرض الكامنة في التراب، و هو لا يدري.
ج-حذره من أن يبول في التفق لأنه غالبا ما تكمن فيه بعض الحيوانات القاتلة فتنساب إليه، و تسبب هلاكه.
د-نهاه من تناول أحد البقول المنتشرة في الصحراء، ما لم يعرفها فانها قد تكون سامة و هو لا يعلم فتسبب تسممه و تؤدي بحياته أو مرضه.
ه-نهاه عن الشرب من السقاء حتى يعلم ما فيه لأنه قد يكون شرابا فاسدا و مضرا بصحته فيسبب هلاكه أو سقمه، هذه بعض المناهج
الصحية التي امره بها و اما الدروس الاخلاقية فقد اوصاه بأمرين:
١ -ان يحذر من يعرف، فلا يبيح له بأسراره، كما ان عليه ان يحسن صحبته خوفا منه، فان السفر يكشف عن حقيقة الشخص، و يظهر كوامن سره، و كم سافر جماعة كانت بينهم اعمق المودة فعادوا و هم اعداء يلعن بعضهم بعضا، فعلى الانسان المستقيم أن يكون في سفره على حذر ممن يعرفه، و ممن لا يعرفه.
٢ -نهاه عن السفر مع من لا يعرف، فانه قد يسبب له كثيرا من المشاكل التي قد تؤدي الى هلاكه، و قد وقع ذلك بكثرة للمسافرين مع من لا يعرفونهم. . . هذه بعض وصاياه القيمة.
______________
1) الفصول المهمة (ص ٢٩ ) وسيلة المآل في عد مناقب الآل (ص ٢٠٨ ) .
2 ) الخصال (ص ١۵٧ ) .
3 ) حزبه الأمر: نابه و اشتد عليه.
4 ) البيان و التبيين ٣ / ٢٨٠ ، الموفقيات (ص ٣٩٩ ) .
5 ) ربه: أي ادمه: يقال: ربّ بالمكان أي أقام به.
6 ) الامالي لأبي على القالي ٢ / ٣٠٨ ، جمهرة خطب العرب ٢ / ١۴٧ .
7 ) تاريخ دمشق ۵١ / ٣٨ .
8 ) سورة الاعراف: آية ٢٠٠ .
9 ) إزراء على النفس: أي احتقارا و استخفافا بها.
10 ) الجمام: -بالفتح-الراحة.
11 ) تحف العقول (ص ٢٨۴ - ٢٨۶ ) .
12 ) تاريخ دمشق ۵١ / ٣٨ .
13 ) تذكرة ابن حمدون (ص ٢٧ ) .
وصاياه القيمة:
- الزيارات: 387