تبين من خلال ما تقدم من فصول بهذه الرسالة أن للإمام الباقر (عليه السّلام) آثارا و أقوالا لا يستهان بها بل شكلت ثروة تفسيرية قيمة، و لم يكن هذا القول اعتباطا أو تخمينا، و إنما استطعنا البرهنة عليه من خلال عرضنا للروايات التفسيرية المنقولة عنه من جهة و من حيث ما اجتمع في تفسيره من الخصائص ما يؤهله لأن يصبح مرجعا في تفسير كتاب اللّه، و من الصفات ما يجعل لآرائه و أقواله من قيمة بين أقوال غيره من العلماء من جهة أخرى، و سنعرض فيما يأتي لأهم تلك الخصائص و الصفات التي يمكن أن تكون عوامل مهمة جدا في جعل تفسيره تفسيرا معتمدا عليه بين المفسرين.
أولا: عنايته بكتاب اللّه و تشدده في تفسيره
كان الإمام الباقر (عليه السّلام) أحد المقرئين لكتاب اللّه و أجاد في قراءته فأصبح يعلمه الناس، بل شارك في وضع بعض الضوابط لقراءة القرآن الكريم، فكان يوصي بتلاوته بالصوت الحسن لأنه ينفذ إلى أعماق القلب و الوجدان، و كان هو من أحسن الناس صوتا بقراءته ١ .
و من تلك الضوابط الفنية التي شارك الإمام الباقر (عليه السّلام) في وضعها لتلاوة القرآن الكريم هو الترجيع بقراءته فقد روى أبو بصير قال: قلت لأبي جعفر إذا قرأت القرآن فرفعت صوتي جاءني الشيطان فقال: إنما ترائي بهذا أهلك و الناس، فقال الإمام: يا أبا محمد اقرأ قراءة بين القراءتين، تسمع أهلك، و رجّع بالقرآن صوتك فإن اللّه يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا ٢
و كان الإمام ملما بأسباب النزول، محيطا بأقوال المتقدمين من الصحابة و التابعين في معرفة الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه، متحريا لما نقل عنهم في تفسير القرآن الكريم، فالإحاطة بهذه الأمور تكشف للمفسر معاني القرآن الكريم و مقاصده، و توصله إلى المعنى المراد لأن معرفة ضوابط التفسير و تطبيقها هي مما يجعل النص التفسيري مقبولا لدى المفسرين.
و قد تشدد الإمام الباقر (عليه السّلام) في تفسير القرآن الكريم حيث اعتبر التفسير المعتمد على الرأي و الاستحسانات العقلية تفسيرا بعيدا عن المعنى المراد و قد يؤدي بصاحبه إلى الهلكة، فلذلك نهى عنه فقد دخل عليه قتادة بن دعامة فقال له الإمام: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: هكذا يزعمون. قال الإمام: بلغني أنك تفسر القرآن، قال قتادة نعم.
فأنكر عليه الإمام ذلك قائلا: يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به 3 .
و عند تحليل هذا النص يتبين أن الإمام الباقر (عليه السّلام) قد حصر معرفة تفسير القرآن الكريم بالآخذ ممن خوطب به القرآن و هم: النبي (صلى الله عليه و آله) و الصحابة رضوان اللّه عليهم الذين شهدوا التنزيل، فهم يعرفون المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ و ليس عند غيرهم معرفة بذلك.
ثانيا: اهتمامه بالاستعمالات المجازية في القرآن و معرفة معانيه
كان الاستعمال المجازي شائعا في كلام العرب، ذائعا في كثير من جوانب الاستعمال كالإسناد المجازي و المجاز في اللفظة و العبارة، و منه أيضا الكنايات التي قيل إنها ابلغ من التصريح و يعتبر ذلك من لطائف هذه اللغة و محاسنها.
و جاء في القرآن الكريم الكثير من الآيات المتضمنة للاستعمال المجازي، و قد شارك الإمام الباقر (عليه السّلام) في إيضاحه و بيانه، فمما ورد في القرآن الكريم قوله
تعالى: يٰا إِبْلِيسُ مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 4 ، فإنّ المعروف من اليد هو العضو المخصوص، و يستحيل ذلك على اللّه تعالى لاستلزامه التجسيم و هو مما يمتنع عقلا على اللّه تعالى، فقد سأل محمد بن مسلم الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السّلام) فأجابه: اليد في كلام العرب القوة و النعمة، قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ 5 و قال تعالى: وَ اَلسَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ. . . 6 أي بقوة، و قال تعالى: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ 7 ، و يقال لفلان عندي أيادي كثيرة أي: فواضل و إحسان، و له عندي يد بيضاء أي نعمة 8 .
و معنى هذا أن اليد لم تستعمل هنا في معناها المعروف المخصوص و إنما استعملت في غيره أما مجازا أو حقيقة بناء على إنها مشتركة اشتراكا لفظيا في هذه المعاني التي وضحها الإمام.
و لم يكن الإمام ليكتفي بهذا كله دون معرفة ما يعنيه القرآن الكريم و يقصده، بل كان ولوعا بفهمه و معرفة معانيه، و لهذا كان يحذر من الذين يرددون ألفاظه بدون فهم و معرفة لمعانيه، فيكتب في رسالته إلى بعض أصحابه معرضا و ذاما للذين يؤولون آياته حسب أهوائهم قال فيها: و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، و حرفوا حدوده، فهم يروونه و لا يرعونه، و الجهال يعجبهم حفظهم للرواية، و العلماء يحزنهم تركهم للرعاية 9 .
و الرعاية هنا هي معرفة ما يقتضيه الخطاب و يستدعيه البيان، فلا أثر عنده لكثرة قراءة القرآن الكريم و تلاوته دون التدبر في معانيه و معرفة مراميه، و مما يؤكد اهتمامه بمعرفة المعاني القرآنية هو ورود ذلك الكم الهائل من الروايات التفسيرية المنقولة عنه.
ثالثا: قدرته و قابليته على استنباط المعاني للآيات
وهب اللّه سبحانه و تعالى الإمام الباقر (عليه السّلام) قدرة فائقة و قابلية واسعة في فهم كتاب اللّه، و هذا مما لا ييسره سبحانه و تعالى لكل أحد بل هي موهبة منه، و بها يبرز من يبرز من الرجال، و يكون له مقام بين العلماء، و قد اتضح ذلك من خلال ما قدمنا عنه في معرض الحديث عن مصادره في التفسير و بينا كيف يستنبط المعاني و يربط بين الآيات و يجمع الآيات التي تخص موضوعا بعينه بما يمثل تفسيرا موضوعيا للقرآن الكريم، و يجيب سائليه على ما أشكل فيها، و أحيانا يرفع التعارض الذي قد يحصل فيما بينها موضحا لهم لما اجمل منها، موجها لأنظار المسلمين للتدبر فيها، متخذا لبعض منها موعظة أخلاقية و إرشادا تربويا حتى فيما يتعلق بالقصص القرآني منها، و ما كان ذلك إلاّ حصيلة الفهم الثاقب و الرأي السديد من جهة، و أخذه للعلم و تفسير القرآن الكريم عن آبائه الكرام من جهة أخرى مما فتح أمامه آفاق العلم فأشرقت في روحه أنواره و تجلت في قلبه صوره، ساعد ذلك كله ذهن متوقد و ذكاء بارع.
هذه أهم الأسباب التي أضفت مكانة مرموقة لأقواله و آرائه عند العلماء، و قد زاد تفسيره قيمة أمر آخر هو:
-ترجيح المفسرين لآرائه أحيانا و اعتمادهم عليها.
فقد كانت آراؤه و أقواله أحيانا مرجحة عند المفسرين، و أحيانا أخرى يقدمونها على آراء غيره، و هذا الترجيح لا يكون اعتباطا إنما هو ناتج من سير الإمام الباقر (عليه السّلام) على وفق القواعد و الضوابط العامة التي اتفق المفسرون على الاعتماد عليها في تفسير القرآن الكريم و بالتالي ترجيح أو اعتماد آراء و أقوال من يسير عليها، و سنذكر بعض الأمثلة عند التكلم على أقواله و آرائه المعارضة لغيره و التي انفرد بها.
و من الجدير بالذكر إنني وجدت من خلال تتبعي لآرائه و أقواله في التفسير أن هناك بعض من المفسرين ينقلون أقواله بدون أن ينسبوها إليه، و في بعض الأحيان ينسبوها إلى ال(قيل) دون التصريح باسمه، و اغلب الظن أن تلك الآراء و الأقوال كانت تصل إليهم بدون نسبة إليه فيرجحون بعضها و يميلون إليها، أو إنها تصل إليهم و في طريقها بعض الرجال الضعفاء فيربئون بتصانيفهم عن تسجيل هذا السند الضعيف مما يجبرهم على عدم نسبته إلى الإمام أو ينسبونها إلى ال(قيل) ، و قد كان ذلك واضحا من خلال ما عرضناه من آراء و أقوال في كثير من المواضع في هذه الرسالة لأقوال الصحابة و التابعين مقارنة مع آراء الإمام و أقواله.
_________
١ ) البيان في تفسير القرآن، الخوئي، ٢۵ +أصول الكافي، الكليني، ٢ / ٣۶ .
٢ ) المصدر نفسه، ٢١٠ +الوافي، الفيض الكاشاني، ٣ / ٢٧۴ .
3 ) أعيان الشيعة، محسن الأمين، ق ٢ / ۴ / ١٠ - ١١ +سيرة الأئمة، هاشم معروف الحسني، ٢١٢ - ٢١٣ .
4 ) ص/ ٧۵ .
5 ) ص/ ١٧ .
6 ) الذاريات/ ۴٧ .
7 ) المجادلة/ ٢٢ .
8 ) التوحيد، الشيخ الصدوق، ٣٢ +ناسخ التواريخ، محمد تقي الكاشاني، ١ / ۴٣۴ .
9 ) الوافي، الفيض الكاشاني، ٣ / ٢٧۵ .
المبحث الأول قيمة تفسيره و مكانته
- الزيارات: 432