فصل في حلم علي بن الحسين وعفوه (عليه السلام)
روى شيخنا المفيد في الارشاد أنه وقف على عليّ بن الحسين (عليه السلام) رجل من اهل بيته، فاسمعه وشتمه فلم يكلمه فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وانا احب ان تبلغوا معي اليه حتى تسمعوا مني ردي عليه، قال: فقالوا له نفعل، ولقد كنا نحب ان تقول له ويقول، قال فاخذ نعليه ومشى وهو يقول، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين، فعلمنا انه لا يقول له شيئاً، قال فخرج الينا متوثباً للشر وهو لا يشك انه انما جاءه مكافياً له على بعض ما كان منه، فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام) يا اخي انك كنت قد وقفت عليّ آنفاً وقلت وقلت، فان كنت قد قلت ما فيّ فأنا استغفر اللّه منه، وان كنت قلت ما ليس فيّ فغفر اللّه لك، قال: فقبل الرجل بين عينيه وقال بلى بل قلت فيك ما ليسك فيك، وانا احق به، قال الراوي للحديث: والرجل هو الحسن بن الحسن (رضي اللّه عنه)، قلت ويقرب منه ما روى عن مشكاة الانوار لسبط الشيخ الطبرسي عن حماد اللحام، قال: اتى رجل ابا عبد اللّه (عليه السلام) فقال ان فلاناً ابن عمك ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة الا قاله فيك، فقال ابو عبد اللّه (عليه السلام) للجارية ايتيني بوضوء فتوضأ ودخل فقلت في نفسي: يدعو عليه، فصلى ركعتين، فقال يا رب هو حقي قد وهبته له وانت اجود مني وأكرم فهبه لي ولا تؤاخذه ولا تقايسه، ثم رق فلم يزل يدعو فجعلت اتعجب.
وقال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والادعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا الى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضى به الزمان، وقد روت الشيعة له آيات ومعجزات وبراهين واضحات لم يتسع لذكرها هذا المكان. انتهى.
فصل في وفاة الإِمام زين العابدين عليه السلام
توفي (عليه السلام) بالمدينة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت او مضت من المحرّم سنة (95 هجري) خمس وتسعين من الهجرة، وله يومئذ سبع وخمسون سنة، سمّه هشام بن عبد الملك وكان في ملك الوليد بن عبد الملك.
وقال الشيخان انه توفي (سلام اللّه عليه) في اليوم الخامس والعشرين من المحرّم سنة 94 هجري اربع وتسعين من الهجرة.
اقول سُمّيت سنة وفاته سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من العلماء والفقهاء.
قال السبط في التذكرة: وكان (عليه السلام) سيد الفقهاء مات في اولها وتتابع الناس بعده سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وعامة فقهاء المدينة، وقبره بالبقيع في القبة التي فيها العباس وعمه الحسن بن عليّ (عليه السلام).
روى الكليني عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضر عليّ بن الحسين (عليه السلام) الوفاة ضمّني الى صدره وقال يا بنيّ: اوصيك بما اوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر ان اباه اوصاه به، قال: يا بنيّ اياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الا اللّه.
وعن ابي الحسن (عليه السلام) قال: ان عليّ بن الحسين لما حضرته الوفاة اغمي عليه ثم فتح عينيه وقرأ، (اذا وقعت الواقعة وانا فتحنا لك)، وقال: الحمد للّه الذي صدقنا وعده واورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين، ثم قبض من ساعته ولم يقل شيئاً.
وروى انه لما مات عليّ بن الحسين (عليه السلام) كانت له ناقة وقد حج عليها اثنتين وعشرين حجة ما قرعها بمقرعة قط فجاءت، فأتت عليّ بن الحسين (عليه السلام) وضربت بجرانها على القبر وتمرغت عليه ورغت(1) وهملت عيناها، فأتى محمد بن علي (عليه السلام) فقيل: ان الناقة قد خرجت الى القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت فأتاها، فقال مه الآن قومي، بارك اللّه فيك، فثارت ودخلت موضعها، فلم تلبث ان خرجت حتى اتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتى محمد بن علي (عليه السلام) فقيل له ان الناقة قد خرجت، فأتاها فقال مه الآن قومي فلم تفعل، قال دعوها فانها مودعة فلم تلبث الا ثلاثة حتى نفقت (اي ماتت).
وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم: كان سبب وفاة علي بن الحسين (عليه السلام)، ان الوليد بن عبد الملك سمَّه ولما دفن ضربت امرأته على قبره فسطاطاً.
تتميم: روي انه (عليه السلام) كان يقول في دعائه اللهم من انا حتى تغضب علي، فوعزتك ما يزين ملكك احساني ولا يقبحه اسائتي، ولا ينقص من خزائنك غنائي ولا يزيد فيها فقري.
ومن دعائه (عليه السلام) كما في الصحيفة الكاملة التي هي من منشآته (صلوات اللّه عليه)، فاسألك اللهم بالمخزون من اسمائك وبما وارته الحجب من بهائك، الا رحمت هذه النفس الجزوعة وهذه الرِّمة الهلوعة التي
(1) أي صاحت.
لا تستطيع حرَّ سمشك فكيف تستطيع حرَّ نارك، والتي لا تستطيع صوت وعدك فكيف تستطيع غضبك، فارحمني اللهم فاني امرؤ حقير وخطري يسير وليس عذابي مما يزيد في ملكك مثال ذرة، الى آخر الدعاء.
فانظر ايدك اللّه في اخباره، والمح بعين الاعتبار عجائب آثاره، وفكر في زهده وتعبده وخشوعه وتهجده وادعيته وصلاته وصدقاته وملازمة عباداته وتوسلاته وادعيته ومناجاته التي تدل مع فصاحته وبلاغته على خشوعه لربه وضراعته، ووقوفه موقف العصاة مع شدة طاعته، واعترافه بالذنوب مع براءة ساحته، وبكائه ونحيبه وخفوق قلبه من خشية اللّه ووجيبه وانتصابه، وقد ارخى الليل سدوله(1) وجر على الأرض ذيوله، مناجياً ربِّه، ملازماً بابه، ممثلاً نفسه بين يديه، معرضاً عن كل شيء مقبلاً عليه، قد انسلخ من الدنيا الدنيَّة، وتعرَّى من الجثة البشرية، فجسمه ساجد في الثرى، وروحه متعلقة بالملأ الأعلى، يتململ اذا مر بآية من آيات الوعيد حتى كأنه المقصود بها مع انه عنها بعيد. تجد اموراً عجيبة واحوالاً غريبة ونفساً من اللّه سبحانه قريبة، فلنقطع الكلام في هذا المقام ان ينتهي الى آخره، فان العبارة تعجز عن وصف فضله وعدّ مفاخره، (صلوات اللّه عليه) وعلى آبائه وابنائه.
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
(1) جمع السدل بضم السين وهو الستر.