هي ابنة الإمام عليّ كرّم اللّه وجهه، ابنة السّيّدة فاطمة بنت الرّسول صلّى اللّه عليه و اله، و شقيقة السّبطين النّيرين الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، رضي اللّه عنهم أجمعين ٢ .
كانت رضي اللّه عنها من خيرة نساء بيت النّبوّة، اتّخذت طوال حياتها تقوى اللّه بضاعة لها، و لسانها لا يفتر عن ذكر اللّه، عرفت بكريمة الدّارسين، و حسبت عند أهل العزم بأمّ العزائم، و عند أهل الجود و الكرم بأمّ هاشم، و هي صاحبة الشّورى طوال حياتها.
ولدت رضي اللّه عنها سنة خمس من الهجرة النّبوّيّة، فسرّ لمولدها أهل بيت النّبوّة، و نشأت نشأة حسنة كاملة فاضلة، تربّت على مائدة الطّهر و الشّرف و الإباء و عزّة النّفس، محوطة بكتاب اللّه الكريم و سنّة جدّها العظيم، و كانت رضوان اللّه عليها على جانب عظيم من الجود و الكرم، تزوّجت رضي اللّه عنها بابن عمّها الإمام عبد اللّه بن جعفر الطّيّار، و أعقبت منه محمّدا، و عليّا، و عبّاسا تستكثر شيئا في سبيل اللّه و طاعته، حتّى قتل أخيها، و ذبح أبنائها، و السّير بها مسبيّة من بلد إلى بلد. . . لقد قدم إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل طاعة للّه، و استسلم الولد مختارا للذّبح امتثالا لأمر اللّه. . . و هكذا سيّدة الطّفّ استسلمت لقضاء اللّه، و رضيت به، و لم تستكثر و تستعظم ما حلّ بها، تماما كما استسلم إبراهيم و إسماعيل لأمر اللّه و إرادته.
شأن أهل البيت
ارتحل ابن سعد بجيشه من كربلاء في زوال اليوم الحادي عشر من المحرّم، و معه نساء الحسين و صبيته و جواريه، و بعض نساء أصحابه الّذين استشهدوا معه، و كانت النّساء عشرين امرأة، و الإمام زين العابدين، و ولده الإمام الباقر، و كان له من العمر سنتان و شهور، و ثلاثة من أبناء الإمام الحسن، و هم الحسن المعروف بالمثنى، و زيد، و عمر، و طلبت النّسوة من جيش الطّغاة أن يمروا بهنّ على القتلى. . . و حين نظرنّ إلى جسد الحسين صحنّ و بكينّ، لطمنّ الخدود، فاشتدّت الحال على الإمام السّجّاد، و جاد بنفسه، و قد انهكه المرض، فقالت له سيّدة الطّفّ:
«مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي و أبي و اخوتي؟ . . . فو اللّه أنّ هذا لعهد من اللّه إلى جدّك و أبيك. . . أنّ قبر أبيك سيكون علما لا يدرس أثره، و لا يمحى رسمه على كرور اللّيالي و الأيّام، و ليجتهد أئمّة الكفر، و أشياع الضّلال في محوه و تطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علّوا» 3 . و إذا أخذت الإمام الرّقة و الرّحمة على أبيه، و هو على حاله تلك، فقد حزن و بكى النّبيّ على ولده إبراهيم، حتّى قال له بعض أصحابه:
ما هذا يا رسول اللّه؟ .
فقال: أنّها الرّحمة الّتي جعلها في بني آدم، و إنّما يرحم اللّه من عباده الرّحماء. . ثمّ قال: تدمع العين، و يحزن القلب فلا نقول ما يسخط الرّب؛ و لو لا أنّه قول صادق، و وعد جامع، و سبيل نأتيه، و أنّ آخرنا سيتبع أوّلنا؛ لوجدنا عليك أشدّ من وجدنا بك، و إنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون» 4 .
و آل الرّسول هم أهل بيت النّبوّة و الرّحمة، يحزنون رحمة، و يبكون رقّة، و لا يقولون ما يسخط الرّب، بل يرضون بقضائه، و يستسلمون لمشيئته؛ و قد جاء في مناجاة الإمام السّجّاد: «أللّهمّ سهّل علينا ما نستصعب من حكمك و ألهمنا الإنقياد لما أوردت علينا من مشيّتك حتّى لا نحبّ تأخير ما عجّلت، و لا تعجيل ما أخّرت، و لا نكره ما أحببت، و لا نتخيّر ما كرهت و اختم لنا بالّتي هي أحمد عاقبة، و أكرم مصيرا، إنّك تفيد الكريمة، و تعطي الجسميّة، و تفعل ما تريد، و أنت على كلّ شيء قدير» 5 . و بهذا، بحسن العاقبة و المصير، بشّرت السّيّدة ابن أخيها الإمام، رغم ما هما عليه من الأسر و السّبي.
لقد تألّبت قريش على رسول اللّه، و اتّفقت على تكذيبه و إيذائه، و القضاء على دعوته بكلّ وسيلة. . . فأغرت به سفهاءها، يرشقونه بالأحجار، و يضعون في طريقه ر الأشواك، و يلقون عليه الأوساخ، و هو في الصّلاة، و عذّبت أتباعه، حتّى الموت، و كان لا يملك دفاعا عنهم و لا عن نفسه، و مع ذلك كلّه يقول لأنصار دين اللّه: «سترثون أرض الملوك و الجبابرة و تأخذون أموالهم، و تفترشون نساءهم» 6 .
و قالت سيّدة الطّفّ، و هي أسيرة مسبيّة، و رجالها جثث بلا رؤوس، قالت:
(المستقبل لذكرنا، و العظمة لرجالنا، و الحياة لآثارنا، و العلو لأعتابنا، و الولاء لنا وحدنا، و جابهت يزيد بهذه الحقيقة، و هو في عرشه، و هي أسيرة في مجلسه، و صرخت فيه قائلة: فكد كيدك، واسع سعيك، و ناصب جهدك، فو اللّه لا تمحو ذكرنا، و لا تمّيت و حينا، و لا يدحض عنك عارها، و هل رأيك إلاّ فند، و أيّامك إلاّ عدد، و جمعك إلاّ بدد) 7 .
و صدقت نبوءة السّيّدة، فولاؤهم تدين به الملايّين، و تعاليمهم تدرّس في الجامعات، و المدارس من مئات السّنين، و مناقبهم تعلن على المنابر ليل نهار، و قبورهم، كالأعلام على رؤوس الجبال، يحجّ إليها النّاس من كلّ فجّ عميق.
أنّ الأمويّين و العبّاسيّين، و معهم الإنس، و الجنّ لا يستطيعون أن يمحوا ذكر أهل البيت إلاّ إذا استطاعوا أن يطفئوا نور اللّه، و اسم محمّد ابن عبد اللّه، و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره بمحمّد و أهل بيت محمّد، و لو كره المشركون.
تكريت
عن كتاب «المنتخب» أنّ عبيد اللّه بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، و شبث ابن ربعي، و عمرو بن الحجّاج، و ضم إليهم ألف فارس، و أمرهم بإيصال السّبايا و الرّؤوس إلى الشّام 8 .
و قال أبو مخنف، مرّ هؤلاء في طريقهم بمدينة تكريت، و كان فيها عدد من النّصارى، فلمّا حاولوا أن يدخلوها إجتمع القسيسون و الرّهبان في الكنائس، و ضربوا النّواقيس حزنا على الحسين، و قالوا: إنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيّهم، فلم يجرؤوا على دخول المدينة، و باتوا ليلتهم في البريّة.
و هكذا كانوا يقابلون بالجفاء و الإعراض كلّما مرّوا بدير من الأديرة، أو بلد من بلدان النّصارى 9 .
لينا و حين دخلوا مدينة «لينا» ، و كانت عامرة بالنّاس، تظاهر أهلها رجالا و نساء، و شيبا و شبانا، و هتفوا بالصّلاة على الحسين و جدّه و أبيه، و لعن الأمويّين و أشياعهم و أتباعهم، و صرخوا في وجوه الطّغاة: يا قتلة أولاد الأنبياء اخرجوا من بلدنا.
جهينة
و أرادوا الدّخول إلى «جهينة» فبلغهم أنّ أهلها تجمعوا و تحالفوا على قتالهم إذا وطئوا أرض بلدهم، فعدلوا عنها، و لم يدخلوها.
معرة النّعمان
و دخلوا معرّة النّعمان فاستقبلهم أهلها بالتّرحاب، و قدّموا لهم الطّعام و الشّراب، و المعرّة هذه هي بلدة الشّاعر الشّهير أبي العلاء الّذي قال:
أليس قريشكم قتلت حسينا و صار على خلافتكم يزيد
و قال 10 :
و على الأفق من دماء الشّهيدي ن عليّ و نجله شاهدان
كفر طاب
و أتوا حصن «كفر طاب» ، فأغلق أهلها الأبواب في وجوهم، فطلبوا منهم الماء. فقال أهل الحصن: و اللّه لا نسقيكم قطرة، و أنتم منعتم الحسين و أصحابه من الماء.
حمص
و لمّا دخلوا حمص تظاهر أهلها، و هتفوا: أكفرا بعد إيمان، و ضلالا بعد هدى؟ و قتلوا منهم رشقا بالحجارة ( ٢۶ ) فارسا.
بطبك
قال صاحب كتاب «الدّمعة السّاكبة» : حين دخل جيش الشّرك إلى بعلبك، و معهم السّبايا و الأطفال، زيّنت المدينة، و نشرت الأعلام، و دقّت الدّفوف، و ضربت البوقات، و قدّموا للطّغاة الطّعام، و الشّراب، و الحلوى 11 .
___________
١ ) انظر، جريدة الجمهورية المصرية ( ٣ / ١ / ١٩٧٣ م) . (منه قدّس سرّه) .
٢ ) تقدّمت تخريجاته.
3 ) انظر، كامل الزّيارات لابن قولوية: ۴۴۵ ، العوالم: ٣۶٢ ، البحار: ٢٨ / ۵٧ و: ۴۵ / ١٧٩ .
4 ) انظر، صحيح البخاري: ٢ / ٨۴ و ٨۵ ، كنز العمّال: ح ۴٠۴٧٩ ، السّنن الكبرى للبيهقي: ۴ / ۶٩ ، دعائم الإسلام: ١ / ٢٢۴ ، بدائع الصّنائع: ١ / ٣١٠ ، المغني: ٢ / ۴١١ ، المحلّى: ۵ / ١۴۶ ، مسند أحمد: ٣ / ١٩۴ ، صحيح مسلم: ٧ / ٧۶ ، سنن ابن ماجه: ١ / ۵٠٧ ، سنن أبي داود: ٢ / ۶۴ ، مسند أبي يعلى: ۶ / ۴٣ ، المصنّف: ٣ / ٢۶٧ ، الإحكام للإمام يحيى الهادي: ١۵٠ ، ذخائر العقبى: ١ / ٢٢۴ .
5 ) انظر، الصّحيفة السّجاديّة: ۴٢٢ ، الدّعاء الثّالث و الثّلاثون، دعاؤه في الإستخارة. بتحقّيقنا.
6 ) انظر، قريب من هذا في الكامل لابن الأثير: ٢ / ۵٧ ، ذخائر العقبى: ١۴٧ ، الإستيعاب: ٣ / ١٠٩۵ - ١٠٩۶ ، ميزان الإعتدال: ١ / ٢٢٣ - ٢٢۴ ، مجمع الزّوائد: ٩ / ١٠٣ .
7 ) تقدّمت تخريجاته.
8 ) انظر، المنتخب للطّريحي: ٣١١ ، و: ٣٠۵ طبعة آخر. (منه قدّس سرّه) .
9 ) انظر، مقتل الحسين لأبي مخنف: ١١٣ . (منه قدّس سرّه) .
10 ) انظر، ديوان المعرّي: ١٢۶ ، سقط الزّند: ١ / ۴۴١ ، دررّ السّمط في خبر السّبط: ٩٣ .
11 ) انظر، الدّمعة السّاكبة في المصيبة الرّاتبة، و المناقب الثّاقبة، و المثالب العائبة، محمّد باقر بن عبد الكريم الدّمشقي: ۴ / ٢٢١ .
لحظات في نور أمّ هاشم ١
- الزيارات: 525