إن الصفة الغالبة على رجال الدولة وعلى رأسهم ( الخليفة ) هي الاسراف في انفاق الأموال الطائلة العائدة إلى بيت المال لأغراضهم الخاصة ، كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين والشعراء وبناء القصور ، فحينما استخرج المهدي أموال أبيه المنصور من الذهب والفضة وصفها المؤرخون بأنها لا تحدّ ولا توصف كثرة (١) ، وذكروا أن المهدي كان أول خليفة حُمل له الثلج إلى مكة سنة ( ١٦٠ ه ) (٢) ، وكان أول من لعب بالصوالجة في الإسلام ، وكان يسمع الغناء ويشرب النبيذ (٣).
وفي سنة ( ١٦٦ ه ) سخط المهدي على يعقوب بن داود وزيره الذي فوّض إليه جميع أمر الخلافة ، لأسباب منها أنه كان يعظه في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه وكثرة سماع الغناء ، فكان يلومه على ذلك ويقول : ما على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك ، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغنى بين يديك ؟! وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثّاً للمهدي على تعاطي الخمرة وسماع الغناء :
فدع عنك يعقوب بن داود جانباً
وأقبل على صهباء طيبة النشر (٤)
وحينما حاول ( المهدي ) أن يتحرى المبرر لتناول الخمرة ، لا يبالي الإمام الكاظم عليهالسلام أن يجيبه بكل قطعية وصراحة غير مجامل ولا مداهن ، قال علي ابن يقطين : « سأل المهدي أبا الحسن عليهالسلام عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله ؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها ؟ فقال له أبو الحسن عليهالسلام : بل هي محرمة في كتاب الله عز وجل. فقال له : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جل اسمه ، يا أبا الحسن ؟ فقال : قول الله عز وجل : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (5).... وأما الاثم ، فإنها الخمرة بعينها ، وقد قال الله عز وجل في موضع آخر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمرة ، والميسر فهي النرد ( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ ) (6) كما قال الله تعالى. قال : فقال المهدي : يا علي بن يقطين ، هذه والله فتوى هاشمية » (7).
واشتهر عن المهدي أنه كان يحبّ اللعب بالحمام والسباق بينها ، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة : « لا سبق إلاّ في خفّ أو نعل أو حافر ، وزاد في الحديث : أو جناح ، فأمر له بعشرة آلاف ، ولما خرج قال : والله إني لأعلم أن عتاباً كذب على رسول الله » (8). وفيه تشجيع من الخليفة على نشر البدع ، والمجاملة في دين الله ، والكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله.
أما الانفاق على سوق الشعراء ، فقد روي أن المهدي أجاز شاعراً بخمسين ألف دينار (9).
وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة منها قوله :
تشابه يوماً بأسه ونواله
فما أحد يدري لأيهما الفضل
فأمر له بمائة وثلاثين ألفاً معجّلة (10).
وحين عاد الفضل بن يحيى من خراسان أنشده مروان بن أبي حفصة :
ما الفضل إلاّ شهاب لا أفول له
عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
فأمر له بمائة ألف درهم (11).
ولا تقف سياسة البذخ والاسراف بالمال العام على رأس الهرم في السلطة وحسب ، بل تمتد إلى قاعدة عريضة من ولاة الدولة وعمالها وقادتها ، ففي سنة ( ١٧٣ ه ) توفّي بالبصرة محمد بن سليمان (12) ، فأمر الرشيد بالاستيلاء على أمواله ، فوجدوا من ذلك شيئاً كثيراً من الذهب والفضة والأمتعة والأملاك ، ومن جملته وجدوا من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار ، ومن الدراهم ستة آلاف ألف (13).
ولجواري البلاط السهم الأوفر من بيت المال ، فقد عثر عند خالصة إحدى حظيات المهدي على عشرة آلاف دينار (14). وكان للخيزران جارية المهدي وأم الهادي والرشيد ضياع كثيرة غلتها في كل سنة ألف ألف وستين ألفاً (15).
أما المغنون فحديثهم ذو شجون ، ففي هذا العصر عكف الخلفاء على سماع الغناء وتقريب المغنين وبذلوا لهم أموالاً جزيلة من الصلات والهبات ، حتى أصبحوا طبقة مرفهة في المجتمع ، ومنهم مخارق بن يحيى الجزار ، وكان الرشيد العباسي يعجب به حتى أقعده مرة على السرير معه ، وأعطاه ثلاثين ألف درهم (16). وزنام الزامر ، وكان من مطربي الرشيد والمعتصم والواثق ، وله معهم أخبار ، وعده الثعالبي من صدور مطربي المتوكل أيضاً (17). وحكم بن ميمون الوادي الذي طالت مدة حياته فعاصر الوليد بن عبد الملك وغناه ، واتصل ببني العباس منذ أيام المنصور وانقطع إليهم ، فاشتهر وأصاب مالاً وافراً وحظوة ، وأدرك هارون الرشيد وغناه (18). وابراهيم الموصلي ، وكانت له عند العباسيين منزلة حسنة ، وأول من سمعه منهم المهدي العباسي ، ولما ولي موسى الهادي أغدق عليه نعمه ، وكذلك هارون الرشيد من بعده ، وجعله من ندمائه وخاصته (19). وابنه إسحاق الموصلي ، وهو من أشهر ندماء الخلفاء ، نادم الرشيد والمأمون والواثق ، ولما مات نعي إلى المتوكل فقال : ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته (20). وإسماعيل بن جامع السهمي ، ويعرف أيضاً بابن أبي وداعة ، اتصل بهارون الرشيد فحظي عنده (21).
__________________
(١) البداية والنهاية ١٠ : ١٦٣.
(٢) البداية والنهاية ١٠ : ١٤١.
(٣) الاعلام / خير الدين الزركلي ٦ : ٢٢١.
(٤) البداية والنهاية ١٠ : ١٥٧.
(5) سورة الأعراف : ٧ / ٣٣.
(6) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.
(7) الكافي ٦ : ٤٠٦ / ١ ، تفسير العياشي ٢ : ١٤٦ / ١٥٨٠.
(8) البداية والنهاية ١٠ : ١٦٣.
(9) الاعلام / خير الدين الزركلي ٦ : ٢٢١.
(10) البداية والنهاية ١٠ : ١٧٠.
(11) البداية والنهاية ١٠ : ١٨٣.
(12) هو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، جمع له المنصور بين البصرة والكوفة ، وزوجه المهدي ابنته العباسة ، وكان دخله في كل يوم مائة ألف.
(13) البداية والنهاية ١٠ : ١٧٣.
(14) البداية والنهاية ١٠ : ١٣٤.
(15) البداية والنهاية ١٠ : ١٧٥.
(16) الاعلام / خير الدين الزركلي ٧ : ١٩١.
(17) الاعلام / خير الدين الزركلي ٣ : ٤٩.
(18) الاعلام / خير الدين الزركلي ٢ : ٢٦٧.
(19) الاعلام / خير الدين الزركلي ١ : ٥٨.
(20) الاعلام / خير الدين الزركلي ١ : ٢٩٢.
(21) الاعلام / خير الدين الزركلي ١ : ٣١١.
٣ ـ ميل رجال الدولة إلى البذخ واللهو :
- الزيارات: 624