وروي أن السبب الذي يمكن أن يضاف إلى باقي الأسباب ، هو مناظرة اضطروا فيها هشام بن الحكم إلى الافصاح عن رأيه ، روى ذلك الكشي عن يونس بن عبد الرحمن ذكر فيه أن يحيى بن خالد البرمكي قد وجد على هشام ابن الحكم شيئاً من طعنه على الفلاسفة ، وأحب أن يغري به هارون ، فذكر لهارون أن هشاماً يزعم أن لله في أرضه اماماً مفروض الطاعة ، وأنه لو أمره بالخروج لخرج ، فاحتال هارون بعقد مجلس جمع فيه المتكلمين ، وجعل يسمع هو من وراء الستر لئلا يفطنوا به ، فشحن يحيى المجلس بالمتكلمين ، وكان منهم ضرار بن عمرو ، وسليمان بن جرير ، وعبد الله بن يزيد الاباضي ، ورأس الجالوت وغيرهم ، فتساءلوا فتكافّوا وتناظروا وتقاطعوا ، وأخيراً تراضوا بهشام حكماً بينهم ، فأتوا به فابتدءوا الكلام في فساد اختيار الناس الإمام ، فسأل سليمان بن جرير هشاماً عن علي بن أبي طالب عليهالسلام مفروض الطاعة ؟ فقال هشام : نعم ، قال : فإن أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل وتطيعه ؟ فقال هشام : لا يأمرني ، قال : ولم اذا كانت طاعته مفروضة عليك ، وعليك أن تطيعه ؟ فقال هشام : عد عن هذا فقد تبين فيه الجواب. إلى أن قال سليمان : ليس أسألك إلاّ على سبيل سلطان الجدل ، ليس على الواجب انه لا يأمرك. فقال هشام : كم تحوم حول الحمى ! هل هو إلاّ أن أقول لك إن أمرني فعلت ، فتنقطع أقبح الانقطاع ، ولا يكون عندك زيادة ، وأنا أعلم بما يجب قولي ، وما إليه يؤول جوابي. قال : فتغير وجه هارون وقال : قد أفصح ، قال : فبلغنا أن هارون قال ليحيى : شد يدك بهذا وأصحابه ، وبعث إلى أبي الحسن موسى عليهالسلام فحبسه ، فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب (١) ، فعاش هشام متوارياً.
الإمام يرد التهم :
ونتعلم من الإمام الكاظم عليهالسلام درساً في الدفاع عن الحق ودفع التهم التي يلصقها أعداء الدين بالعقيدة الحقة وأهلها ، لقد دفع الإمام عليهالسلام التهم عن نفسه إلى الحد الذي أقنع رأس السلطة بخلو ساحته من أي تهمة اُلصقت به أو اُعدّت له ، وعدم وجود أي نشاط مريب ضده ، لكن الرشيد كان مصراً على المضي في مخططه القاضي بتصفية الإمام إلى نهايته.
روى محمد بن الزبرقان الدامغاني ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام قال : « لما أمر هارون الرشيد بحملي ، دخلت عليه فسلمت ورأيته مغضباً ، فرمى إليَّ بطومار فقال : اقرأه ، فاذا فيه كلام ، قد علم الله عزوجل براءتي منه ، وفيه أن موسى بن جعفر يجبى إليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة إلى أن قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، والذي بعث محمداً صلىاللهعليهوآله بالنبوة ما حمل إليَّ أحد درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج ، لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه صلىاللهعليهوآله في قوله : لو اهدي لي كراع لقبلت ، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت. وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه ، وكثرة عدونا ، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب ، فضاق بنا الأمر ، وحرمت علينا الصدقة ، وعوضنا الله عزوجل عنها الخمس ، واضطررنا إلى قبول الهدية ، وكل ذلك مما علمه أمير المؤمنين. فلما تم كلامي سكت. ثم قلت : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه ، عن النبي صلىاللهعليهوآله فكأنه اغتنمها ، فقال : مأذون لك ، هاته ! فقلت : حدثني أبي ، عن جدي يرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوآله : أن الرحم اذا مست رحماً تحركت واضطربت. فان رأيت أن تناولني يدك ، فأشار بيده إليّ ، ثم قال : ادن ، فدنوت فصافحني وجذبني إلى نفسه ملياً ، ثم فارقني وقد دمعت عيناه ، فقال لي : اجلس يا موسى ، فليس عليك بأس ، صدقت وصدق جدك وصدق النبي صلىاللهعليهوآله ، لقد تحرك دمي ، واضطربت عروقي ، أعلم أنك لحمي ودمي ، وأن الذي حدثتني به صحيح » (2).
وفي حديث آخر عنه عليهالسلام أن الرشيد قال : « يا موسى ، خليفتين يجبى اليهما الخراج ؟! فقلت : يا أمير المؤمنين ، اعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك ، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله بما علم ذلك عندك » (3) إلى آخر الحديث المتقدم.
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال / الطوسي ٢ : ٥٣٠ / ٤٧٧.
(2) الاختصاص : ٤٨.
(3) عيون أخبار الرضا ١ : ٨١ / ٩.
خامساً ـ مناظرة هشام :
- الزيارات: 547