كان للإمام الباقر عليهالسلام دور كبير في نشر الفقه ، وأعاد له نضارته ، وحافظ على أصوله من الضياع ، في وقت درج فيه الناس على إهمال شؤون الدين ، والجهل بمسائل الحلال والحرام.
قال ابن أبي الحديد : كان محمد بن علي بن الحسين سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه (1).
وقال الشيخ المفيد : آثر عنه الناس السنن ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله (2).
وعدّ باقر العلم عليهالسلام من قبل أعلام أهل السنة كالنسائي وغيره في فقهاء التابعين من أهل المدينة (3) ، واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر عليهالسلام (4).
أما انجازاته على هذا الصعيد ، فيمكن بلورتها من خلال النقاط التالية :
أولاً : ترك الإمام عليهالسلام تراثاً ضخماً يغطي معظم أبواب الفقه والتشريع ، حفلت بها موسوعات فقه وحديث الإمامية ، وكانت ولا تزال رافداً ومعيناً للفقهاء.
ثانياً : كان في حلقة درسه في بيته وفي مسجد مكة والمدينة ، سيما في موسم الحج ، بمثابة مدرسة سيارة في افتاء الناس وحلّ المسائل المعضلة ، وكان ضمن الوافدين إليه الذين سألوه عن مسائل في الحلال والحرام ، فأجابهم : نافع بن الأزرق (5) ، والحكم بن عتيبة (6) ، والحسن الزيات (7) ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ووفد من أهل خراسان (8) ، ووفد من أهل فلسطين (9).
وكان يجلس حوله عالم من الناس ، فلم يبرح مكانه حتى يفتي في ألف مسألة ، وهو في الساعة الأخيرة من يومه. قالت حبابة الوالبية : رأيته بمكة أصيلاً (10) في الملتزم ، أو بين الباب والحجر ، على صعدة من الأرض ، وقد حزم وسطه على المئرز بعمامة خز ، والغزالة (11) تخال على قلل الجبال كالعمائم على قمم الرجال ، وقد صاعد كفه وطرفه نحو السماء ويدعو ، فلما انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ، ويستفتحون أبواب المشكلات ، فلم يرم (12) حتى أفتاهم في ألف مسألة ، ثم نهض يريد رحله (13).
ثالثاً : هناك جملة من الإرشادات في مجال الفقه والتشريع ، وردت في حديث الإمام عليهالسلام ، منها أن على الفقيه أن يعتمد الكتاب والسنة فيما يصدر من أحكام ، ولا يعتمد رأيه واستحسانه. عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : «يرد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنة ، فنقول فيها برأينا؟ فقال : أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على اللّه» (14).
ونهى الفقهاء عن الفتوى بغير علم ، لأنها سبب للضلال والانحراف ، من هنا يستحق فاعلها لعنة الملائكة ، قال عليهالسلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى ، لعنته ملائكة الرحمن وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (15).
وتحدث عن الصفات الواجب توافرها في الفقيه ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ، ولم يؤمنهم من عذاب اللّه ، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره» (16).
وعن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ، قال : فقال الرجل : «إنّ الفقهاء لا يقولون هذا ، فقال : يا ويحك ، وهل رأيت فقيهاً قط؟! إنّ الفقيه حقّ الفقيه ؛ الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، المتمسّك بسنّة النبي صلىاللهعليهوآله » (17).
رابعاً : على أساس هذا الاتجاه من الوعي والمعرفة ، وعلى ضوء هذه الإرشادات ، ربّى جيلاً من الفقهاء الرواة ، وتخرج على يده جمهرة كبيرة من مراجع الفتيا ، ممن أجمعت الطائفة على تصديقهم ، وكونهم أفقه الأولين ، أمثال زرارة ومعروف بن خربوذ وبريد بن معاوية وأبي بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي وأبان بن تغلب ، وغير هؤلاء كثير.
وكان الإمام عليهالسلام يخلق فيهم حوافز الاهتمام بالفقه والاجتهاد به وإفادة الناس منه ، عن طريق ممارسة التوثيق للنابهين منهم ، على مستوى الشهادة له بالفقاهة وجواز الإفتاء ، ومن ذلك قوله عليهالسلام لأبان بن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإني أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك» (18).
وكان التنوع صفة بارزة في مدرسته الفقهية على ما قدمنا ، فكان يقصده العلماء من كل البلاد الإسلامية ، وفيهم من أئمة الفقه والحديث كثيرون ، فأخذ منه ومن ولده الصادق عليهماالسلام ، أعلام الأُمّة آنذاك كأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وأبي اسحاق السبيعي والأوزاعي وحجاج بن أرطاة وحفص بن غياث والحكم بن عتيبة وربيعة الرأي والزهري وعبد الملك بن جريج وعطاء بن أبي رباح ووكيع وغيرهم.
خامساً : حثّ شيعته سيما شبابهم على التفقه في الدين ، قال عليهالسلام : «تفقهوا في الحلال والحرام ، وإلاّ فأنتم أعراب» (19). وقال عليهالسلام : «لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته» (20).
سادساً : رجع الفقهاء إلى رأيه في المسائل الغامضة من أحكام الشريعة ، منهم أبو أسحاق السبيعي ، في مسألة المسح على الخفين (21) ، وعبد اللّه بن عمر حين سأله رجل عن مسألة ، فلم يدر بما يجيبه ، فأرسله إلى الباقر عليهالسلام (22).
وروي أنه جاءت امرأة إلى محمد بن مسلم الثقفي فقالت : «لي بنت عروس ضربها الطلق ، فما زالت تطلق حتى ماتت ، والولد يتحرك في بطنها ، ويذهب ويجيء ، فما أصنع؟ فقال : يا أَمَة اللّه ، سئل الباقر عليهالسلام عن مثل ذلك فقال : يشق بطن الميت ويستخرج الولد ، أفعلي مثل ذلك يا أَمة اللّه ، أنا في ستر ، من وجّهك إليّ؟ قالت : سألت أبا حنيفة فقال : عليك بالثقفي ، فإذا افتاك فأعلمينيه» (23).
وروي عن ابن أبي ليلى أنه قدّم إليه رجل خصماً له ، فقال : «إنّ هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً ، وزعمت أنه لم يكن لها قط.
قال : فقال له ابن أبي ليلى : إن الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به ، فما الذي كرهت؟ قال : أيها القاضي ، إن كان عيباً فاقضِ لي به. قال : حتى أخرج إليك ، فإنّي أجد أذىً في بطني. ثم دخل وخرج من باب آخر ، فأتى محمد ابن مسلم الثقفي ، فقال له : أي شيء تروون عن أبي جعفر في المرأة لا يكون على ركبها شعر ، أيكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه عليهمالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى : حسبك ، ثم رجع إلى القوم ، فقضى لهم بالعيب» (24). وهنا استفاد محمد بن مسلم من هذا الحديث كقاعدة فقهية عينت موضوع الحكم.
قال الشاعر :
ناشر آثار النبي الهادي بالعلم والحكمة والارشاد
به استبانت لأولي الأفهام معالم الحلال والحرام
به صفت شريعة المختار عن كدر الأهواء والأفكار
كأنها الكوثر في الصفاء طاب ورودها لطيب الماء
به نمت وأورقت أشجارها به زكت وأينعت أثمارها
به تدلّت لذوى المعالي أغصانها في غاية الكمال (25)
__________________
(1) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٧٧.
(2) الإرشاد ٢ : ١٦٣.
(3) تذكرة الحفّاظ / الذهبي ١ : ١٢٤ ، طبقات الحفّاظ / السيوطي : ٥٦.
(4) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٣.
(5) الكافي ٨ : ١٢٠ / ٩٣ ، الإرشاد ٢ : ١٦٤ ، روضة الواعظين / الفتال : ٢٠٤.
(6) الكافي ٦ : ٤٤٦ / ١.
(7) الكافي ٦ : ٤٧٧ / ٥.
(8) الكافي ٦ : ٢٥٦.
(9) التوحيد / الصدوق : ٩٢ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٧.
(10) أي وقت الأصيل.
(11) أي الشمس.
(12) أي لم يبرح مكانه.
(13) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣١٧ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٥٩ / ٦٠.
(14) المحاسن ١ : ٢١٥ / ٩٩.
(15) المحاسن ١ : ٢٠٥ / ٦٠ ، الكافي ١ : ٤٢ / ٣.
(16) معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١.
(17) الكافي ١ : ٧٠ / ٨.
(18) رجال النجاشي : ١١ ، الفهرست / الشيخ الطوسي : ٥٧ ، خلاصة الأقوال : ٧٣ ، الذريعة ٢ : ١٣٥.
(19) المحاسن ١ : ٢٢٧ / ١٥٨.
(20) المحاسن ١ : ٢٢٨ / ١٦١.
(21) روضة الواعظين : ٢٠٢ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨١.
(22) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩ ، الايضاح / النيسابوري : ٤٥٨.
(23) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣١.
(24) الكافي ٥ : ٢١٥ / ١٢.
(25) الأنوار القدسية : ٧٤.
٤ ـ دوره في علم الفقه والتشريع :
- الزيارات: 468