• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

نشوء المذاهب

نحن في مواجهة مشكلةٍ كبرى يقف التاريخ أمامها ملجماً وتختفي فيها الحقيقة خلف ركام من الأتربة والأحجار وسيلٍ من الادعاءات الكاذبة والأقوال الفارغة فتلتوي الطرق الموصلة إليها ولا تعالج قضيتها بدراسة علمية ليبدو جوهر المسألة واضحاً ولتظهر الحقيقة كما هي للعيان، واحدةٌ من كبريات المشاكل التي عملت على هدم وحدة المسلمين وهي أن الكثير من المؤرِّخين أولعوا بذمّ الشيعة ونسبوا إليهم الكثير من الأشياء الباطلة دون تثبّت وتمحيص ودون أي وازع ديني أو رادع وجداني وقد اتسعت صدور الشيعة لتحمّل أقوالهم وترفّعوا عن المقابلة والردّ بالمثل وفي مقدّمة تلك المسائل ومن أهمّها هي مسألة الصحابة وعدم عدالتهم ثمّ تكفيرهم والعياذ بالله فحكموا عليهم بالكفر والخروج عن الإسلام كما سيأتي بيانه.
إنّ عدالة الصحابة عند السنّة ووضعهم في ميزان العدالة هو الذي أوصل الإسلام إلى ما نحن فيه من تشتّت وانحرافات وتشعّب في المذاهب ذلك لأنّ الرسول الكريم’ لم يتكلّم بأحكامه وأحاديثه على مدى ثلاث وعشرين سنة من الدعوة أمام الصحابة جميعاً بل كان ينطق بالحكمة أو الحديث أمام نفرٍ منهم فقط فمرّةً أمام عشرة وأخرى أمام خمسين وثالثةً أمام مائتين ولأنّ ظروف الحياة لم تكن تسمح لكلّ الصحابة بالحضور الدائم إلى مجلس الرسول وملازمته ومن ثمّ فلم يكن كلّ من يحضر ويسمع الحديث أو
الحكمة معصوم عن الخطأ بل تتفاوت قدراتهم ومداركهم ومستوى إيمانهم.
وهكذا كان ينقل كلٌ منهم ما سمع ويتحدّث به للآخرين حديثاً غير مدوّن بل محمولاً في الصدور حيث لم يتمّ التدوين إلّا في عهد الأمويين فمن الطبيعي والحال هذه أن يوجد بين الأحاديث ما هو غثٌّ ومشتبه به وما هو صحيح، ثمّ هيمن السلطان على ذلك التدوين وجعله على هواه وعلى ما يوافق الوضع القائم الذي يخدم سلطته ومصالحه، وهذا ما حدا بأهل الجرح والتعديل إلى تدوين وغربلة هذه الأحاديث لتبيان الصحيح من الضعيف مع أنّهم كانوا تحت ضغوط لا تعطيهم الحريّة في التدوين، ولقد بالغت جماهير الناس في تقديس كلّ من يطلقون عليه كلمة صحابي كما واقتدوا بكلّ مسلم - مهما كانت درجة وعيه للإسلام ودرجة إيمانه - سمع من النبيّ أو رآه وجالسه اقتداءً أعمى وأنكروا على كلّ من يخالفهم واتهموه بالغلو، وكان أشدّ إنكارهم على الشيعة حيث يروون الكثير من أحاديث الصحابة مصرّحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية والبحث عن الصحيح في الآثار النبوية، ولو أنّ أولئك الذين يطعنون بالشيعة تدبّروا آي القرآن الكريم لوجدوه مشحوناً بذلك المنافقين وحسبك منهم سورة التوبة وسورة الأحزاب.
وهنا نجد سبب نشوء المذاهب وتعدّدها وتنافرها وخاصّةً عند تسلّط الحكم الأموي على مقدّرات البلاد الإسلاميّة وتسلّمه لإدارة شؤون البلاد من قبل شباب مراهقين أكرهوا الناس على القبول بما يريدونه هم، وساعدهم في ذلك ولا تهم القساة الغلاظ الأكباد الذين فرضوا على الخطباء أن يلعنوا سيدنا علياً وأبناءه^ وقد أفرزت هذه الأمور المشينة جمعيات سريّة تحمل مشاعل الحقّ عاملةً ضدّ الحكم الأموي وكان معظمهم في البدء من البّائسين فأيّدهم أغلب الناس ولم تمضٍ إلّا فترة قصيرة حتّى وصل العباسيون بعدها إلى استلام الحكم وتمكّنوا من القضاء على حكم بني أُميّة ولكنّهم بدؤوا ينشرون بين الناس أنّهم هم أهل البيت برغم أنّ الكثيرين في المجتمع والعلماء والعارفين بالحقيقة لم يقبلوا بمثل هذا الإعلام وراحوا من جديد يحرّكون الثورة في جميع البلاد والأمصار الإسلاميّة لمحاربة العبّاسيين وإعادة الحقّ إلى أهله، لكن السفّاح العباسي بحنكته ومهارته في المكر والخداع وببطشه وجوره استطاع أن يثبت قواعد ملكه مستعيناً بالعنصر الفارسي لأنّ العرب جميعاً كانوا أنصاراً لأهل البيت فسحب ثقته من العنصر العربي وأوكلهم إلى العنصر الفارسي وأيّدهم في منع الناس حتّى من التكلّم باللغة العربية في بلاد فارس.
وجاء بعد السفّاح رجلٌ دموي عنيد هو أبو جعفر المنصور الذي لا يتهيّب من انتهاك حرمات الله وإراقة الدماء البريئة وما وقف أمامه حاجزٌ وما ردعه رادع عن إتيان كلّ قبيح وشنيع لتثبيت ملكه حتّى وصلت به الحال إلى أنّه قتل الكثير من أقاربه العبّاسيين ناهيك عن تدمير البقية الباقية من أهل البيت العلوي، وأبعد أبو جعفر العلماء، وقرّب ونصر الموالي، ثمّ اختلق أخيراً المعارك بين العلماء بغية تخفيف الهجمة الشعبية عليه فكانت المعركة بين أهل الحديث وأهل الرأي.
منتصراً لبطانته من أهل الرأي والقياس ومؤيّداً لهم بكلّ ما يملك من مال وسلطة وهم أهل العراق ليكونوا معه وليضمّهم إلى جانبه، بينما أبعد أهل الحديث والفتوى من أهل المدينة - وأهل الدار أدرى بما فيها - فبدأت العراق على كثرة محدّثيها تأخذ بالرأي والقياس، وكان في مقدّمة علمائها إبراهيم النخعي وأبو حنيفة، وتقدّم القياس على أحاديث الأخبار، وصارت هذه القضية الشغل الشاغل والوحيد لأهل العراق.
أمّا أهل المدينة فلم يجعلوا للقياس والرأي واستنباط الأحكام هذه المنزلة، واتسعت شقّة الخلاف والنزاع بين الناس، وكان خلافهم متّصفاً بالتعصّب وممزوجاً بالسياسة ومستنداً إلى السلطة، ووصل بهم الحال إلى التنابذ بالألقاب فعيّروا أهل المدينة بالغناء والطرب وعيّروا أهل مكّة بالمتعة، كما عيّروا أهل الكوفة بشرب النبيذ الذي حلّله أبو حنيفة، وكانت الكوفة ضعيفة أمام الحجازيين ؛ لأنّ الحاكم كان يناصرها لا حبّاً لها ولأهلها ولكن بغضاً لأهل المدينة، وحقداً عليهم، وكان من محدّثيها مالك بن أنس وأنصاره وسفيان الثوري، وكان من محدّثي أهل الكوفة وفقهائها أبو حنيفة وأصحابه.
كثرت النشاطات العلمية واتسعت المذاهب وصار كلّ إمام ينتسب إلى مذهب معيّن، وكلّها سنيّة، ولكن لم يكتب البقاء إلّا لأربعة منها، وهي: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، بينما انقرضت مذاهب أخرى كثيرة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مذهب عمر بن عبد العزيز، مذهب الشعبي، ومذهب الحسن البصري، ومذهب الأعمش، مذهب الأوزاعي، مذهب سفيان الثوري، مذهب الليث، مذهب سفيان بن عيينة، مذهب إسحاق، مذهب أبو ثور، مذهب داوود الظاهري... وغيرها كثير.
١) سفيان الثوري: هو أبو عبد الله توفّي في البصرة عام١٦١ﻫ متوارياً عن السلطة(1).
وهو من تلامذة الإمام الصادق عليه السلام (2).
٢) سفيان بن عيينة إمام عالم أخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ثمّ عن الزهري وعن ابن دينار.
٣) الحسن البصري: إمام عالم توفّي سنة ١١٠ﻫ وكان قد نشأ بوادي القرى وكان يؤثر بني مروان وله علاقة مع السلاطين فإذا أراد أن يحدّث عن علي بن أبي طالب كان يقول: قال أبو زينب لأنّه كان يعمل بالتقية.
٤) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم: وكان تابعاً، روى عن انس ابن مالك وكانت أيام حكمه قليلة وقصيرة.
بسبب قوة السلطان وإرادته المتسلّطة انقرضت كثير من المذاهب ولم يبقَ منها إلّا أربعة، بينما الحقيقة أنّ هناك ما يقارب السبعة عشر مذهباً، وطويل شرحها فمن أراد الاطلاع والازدياد فليرجع إلى كتب التاريخ.


_____________
1- المعارف لابن قتيبة: ٤٩٧.
2- رجال الطوسي: ٢٢٠، ٢٩٢٤، وتهذيب الكمال ١١: ١٥٦.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page