التصوّف والحقيقة

إنّ التصوّف لم يكن لبناء الإنسان العابد لله والملتزم بشريعته وإنّما هدفه الوصول إلى مذاقات الاتصال بالوجود المطلق والفناء به أو إدراك الحقائق إدراكاً بالعيان والقلب، وهذا لا يصحّ أن يكون هدفاً وطريقاً صحيحةً لبناء صريح الإسلام الحركي.
ومن الملفت للنظر أنّ عدد وحجم الطرق الصوفية يزداد باضطراد واستمرار في شتّى أنحاء العالم الإسلامي برغم كلّ الخلافات القائمة بين تفرّعات تلك الطرق وكثرة فرقها، ولقد كان التوسّع فيها على الشكل التالي:
لكلّ فرقةٍ منهم شيخٌ من الشيوخ، وبقية أعضاء الفرقة تسمّى مريدين للشيخ، وهم دائماً يلتزمون أثره ويتبعون خطاه، ويسمّونه قطباً، وهو باعتقادهم أكمل إنسان في مقام الفردية، وهو موضع نظر الله في الأرض، وفي كلّ مكان تدور عليه أحوال الخلق، وهو أي شيخ الطريقة يسري في الكون سيران الروح في الجسد، ثمّ يفيض على أتباعه روح الحياة وهو ملجأ الملهوف المحتاج إليه حتّى أطلقوا عليه لقب (الغوث).
وفي اعتقادهم الصوفي أنّ مهمّة القطب هي الخلافة العظمى إليه من الله الذي جعله المتفرّد في تصريف الأحكام وتنفيذها فلا يحدث شيءٌ بين الخلق، ولا يصحّ إلّا وفقاً لأحكام ذلك القطب وعليه، وكلّما مات قطبٌ أقيم مكانه واحد ممن يسمّونهم الأوتاد، أي أهل الدرجة الثانية الذين يساعدهم الإبدال، والبدل في اعتقادهم هو صفوة روحانية تجتمع إليها أرواح الناس في ذلك البلد الذي رحل عنه القطب.
أمّا عدد الإبدال فهو أربعون موزّعين بين الشام والعراق، ثمّ يلي هذه المرتبة مرتبة من يسمّونهم النجباء، وعددهم سبعون ويأتي النقباء في المرتبة الأخيرة ويتوهّمون أنّ هؤلاء النقباء هم الذين يستخرجون خبايا الأرض، وعددهم ثلاثمائة نقيب.
هذه دولة التصوّف والباطن. فأين هي من إمامة الشيعة التي تقوم على أساس المرجعية والتي ترى أنّ مهمتها الأولى هي رعاية المسلمين وهدايتهم وإرشادهم دينياً وسياسياً، وإقامة العدل على الأقوياء والضعفاء في الدولة الإسلاميّة على حدٍّ سواء؟ ثمّ يتولّى رعاية أمور المسلمين في هذه الحال الفقهاء ومراجع التقليد من إصدار الفتاوى واستنباط الأحكام الإلهية في كلّ ما يهمّ المسلمين من أمور حياتهم الدينية والاقتصادية والسياسية، وهم الذين يرجع إليهم الناس ليعرفوا كلّ الأمور التي تتعلّق بأحكام الشريعة الإسلاميّة وحلولها.
ينطلق اعتقاد الشيعة الإمامية بأنّ وكلاء أهل البيت عليهم السلام هم المراجع في مثل تلك الأمور، فقد قال علي بن الحسين عليه السلام : >ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله<(1).
وقد أوصى الرسول على إمامة علي عليه السلام ثمّ إلى الحسن عليه السلام ثمّ إلى أخيه الحسين عليه السلام وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر#.
أمّا العرفان في الفكر الشيعي: فهو بخلاف مراحل التصوّف ابتداءً من حالة الزهد السلوكي ومروراً بحالة الفلسفة الصوفية التي تدعوا في بعض حالاتها إلى الفناء والاتحاد كما عرفنا عند ابن عربي والحلاج.
وإذا أردنا أن نعرف الفكر الإسلامي الشيعي أفراداً وجماعات من أهل الزهد والعرفان فمما لا شكّ فيه ؛ فإنّهم قد حازوا على أسمى المقامات وأعلى صورها، دون أن يكونوا أتباعاً لإسلام منفصم مسترخٍ يعالج المجال الروحي ويغفل المجال البنائي للحياة بكلّ أبعادها بل أخذوا عن أئمتهم تراثاً بالعرفان العلمي المملوء بمجاهدة النفس وردع الشهوات، ثمّ التعبئة الكاملة للناس في سبيل حماية الإسلام من المندسّين والمخرّبين أعداء الدين، ولنا مثل أعلى وقدوةٌ أولى في الصلاح، تلك التي يمثلها الإمام علي عليه السلام وهو سيد العارفين والسالكين وهو القائل: >لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً<(2).
وهو المعبر عن الوصول إلى النفحات العرفانية التي نثرها في خطبه وعظاته وإرشاداته للناس ومنها: >أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه<(3).
ويقول عليه السلام في موضع آخر: >ومن عدّه فقد أبطل أزله<(4).


_____________
1- كمال الدين: ٢٠٧، حديث٢٢.
2- مناقب آل أبي طالب ١: ٣١٧.
3- نهج البلاغة ١: ١٤.
4- المصدر السابق ٢: ٤٠.

أضف تعليق