• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الرابع: كرامات في نطاق السياسة الإلهية

مما سبق:

قد تحدثنا في الجزء السابق، في غزوة ذات الرقاع: عن معرفة الأنبياء والأوصياء بلغات البشر، بل منطق الطير وسائر الحيوانات.
وتحدثنا أيضاً هناك: عن الكرامات التي نقلت عن نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» وعن الأئمة الأطهار وعن الأنبياء «عليهم السلام» السابقين وغيرهم، مما أشار القرآن إلى بعض منه أيضاً.
وقد ذكرنا ثمة توضيحاً لا غنى عن المراجعة إليه، من أجل جعل الأمور في نصابها في نطاق فهم هذه الكرامات والمعجزات التي سجل لنا القرآن والتاريخ والحديث منها العشرات والمئات في مختلف الشؤون والمجالات.
فنرجو من القارئ الكريم: أن لا ينسى مراجعة ما كتبناه هناك، وبدون ذلك، فإن فهم هذه القضايا ليس فقط سوف يكون ناقصاً، وإنما قد يكون غير واقعي ولا دقيق.

الكرامات والمعجزات في الخندق:

لقد كان المسلمون يواجهون يوم الخندق أعظم تحد واجهوه سواء من حيث العدد، أو من حيث العدة، بالإضافة إلى حالة الحصار التي يعانون منها.
ثم يتعاظم إحساسهم بالخطر الذي يتهددهم: وهم يجدون أمارات الغدر والخيانة قد ظهرت، لدى أولئك الذين كان لهم معهم عهود ومواثيق، فلم تعد العهود قادرة على إعطاء أدنى شعور بالأمن والسكون إليها. كما أن كل ما عمله النبي والمسلمون من إحسان، وما اتخذوه من مواقف إنسانية قد اتضح أنه لم يمنع من تلقوا ذلك الإحسان من أن يحالفوا العدو، وينقلبوا على ما أحسن إليهم ليقابلوه بالإساءة، فيكتشف المسلمون أنهم مجموعة من الذئاب، والسباع الشرسة، التي تفقد كل المعاني الإنسانية، وكل الشيم التي يعتز بها الإنسان العربي، ويفتخر بها.
ثم هناك وجود المنافقين فيما بين المسلمين، الذين كانوا ينخرون في جسم الأمة، ويعملون على تمزيقها، وزرع الشكوك القاتلة، وإيجاد الريب المهلك فيها.
فتأتي هذه الكرامات: لتكون صمام الأمان لهذه القلوب الخائفة، والمفجوعة، وليربط الله بها على قلوبهم، ولتزيد في يقينهم وبصيرتهم، وتشد من عزيمتهم.
قال الشيخ محمد أبي زهرة: «إن الآيات المادية قد تؤثر في أولئك الماديين الحسيين، وخصوصاً إذا كانت في موطن الفزع، فإنها إذا جاءت من غير سبب يألفونه ويعرفونه، فإنها قد تأخذ عقولهم إلى التفكير السليم، وتخلعها من الوثنية، إذ يدخل إليها نور الحق شيئاً فشيئاً، والنور كلما دخل أشرق، وإذا أشرق اتجهوا إلى الحق وطلبوه»([1]).
ويلاحظ هنا: أن بعض هذه الكرامات قد اقترن بإخبار النبي «صلى الله عليه وآله» للمسلمين بأن البلاد سوف تفتح عليهم حتى الإمبراطوريات العظمى التي كانت تحكم العالم آنئذٍ، وهما إمبرطوريتا الروم وفارس.
وإذا جاء الخبر من الصادق المصدق، الذي يعتقد المسلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، في حالة مواجهة الأخطار الكبرى والمصيرية، فإنه يكون أكثر رسوخاً في النفس، وأعظم أثراً في إثارة الهمم وشحذ العزائم.
ونحن نشير هنا: إلى طائفة من هذه الكرامات، بقدر ما يفسح لنا به المجال، فنقول:

نبوءة صادقة للنبي :

يقول المقريزي وغيره: «وضرب بالكرزن، فصادفت حجراً، فصل الحجر (أي ترددت صوته في صليل الفأس)، فضحك رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقيل: مم تضحك يا رسول الله؟!
قال: أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول (الكبل القيد العظيم)، يساقون إلى الجنة وهم كارهون»([2]).
والظاهر: أن هذا إشارة لأهل فارس.
ومن الواضح: أن هذه البشارة منه «صلى الله عليه وآله» للمسلمين إنما يراد منها أن تعطيهم انطباعاً بصورة عفوية وتلقائية بأن هذه الدعوة مستمرة وباقية، فلا يهولنهم جمع قريش والأحزاب لهم:
فما ذلك إلا: «سحابة صيف عن قليل تقشع».

كرامة أخرى لرسول الله :

عن جابر بن عبد الله قال: أصبح الناس كدية يوم الخندق، فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدعا بماء فصبه عليها، فعادت كثيباً أهيل.
وفي نص آخر ـ ذكره البخاري وغيره ـ: أنه «صلى الله عليه وآله» قام وبطنه معصوبة بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً الخ..([3]).
ويبدو أن هذه قضية أخرى غير قضية سلمان الآتية التي أخبر «صلى الله عليه وآله» المسلمين فيها عن الفتوح التي يفتحها الله عليهم.

قصور الروم وفارس:

ومن الأمور التي يذكرها المؤرخون هنا: قضية الصخرة التي واجهت المسلمين وهم يحفرون الخندق وكانت سبباً في أن يخبر النبي المسلمين بأخبار غيبية تحققت فيما بعد.
ونحن نذكر النص التاريخي للرواية أولاً، ثم نشير إلى بعض ما يرتبط به، فنقول:
كان سلمان، وحذيفة والنعمان بن قرن، وعمرو بن عوف، وستة من الأنصار يعملون في أربعين ذراعاً فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبي «صلى الله عليه وآله» بالأمر.
وفي نص آخر يقول فيه عمرو بن عوف: فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي باب [والظاهر: أن الصحيح: تحت ذباب]([4]) أخرج الله من باطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا، وشقت علينا.
فطلبوا من سلمان أن يخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بأمرها؛ فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.
فرقى سلمان إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو ضارب عليه قبة تركية فأخبره فهبط مع سلمان وبطنه معصوب بحجر، ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقاً، والتسعة على شفير الخندق.
وفي نص آخر عن سلمان، قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليَّ ورسول الله «صلى الله عليه وآله» قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليَّ أخذ المعول، وضربها به ضربة فصدعها، وبرق منها برق أضاء منها بين لابتي المدينة، فكبر «صلى الله عليه وآله» تكبيرة، وكبر المسلمون.
ثم ضربها ثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك أيضاً، فصدعها.
فأخذ بيد سلمان ورقى، فسأله سلمان عن الأمر الذي رآه ورآه المسلمون، وعن تكبير النبي «صلى الله عليه وآله»، فأخبرهم «صلى الله عليه وآله»: أنه بالبرقة الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها.
وفي الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها.
وفي الثالثة أضاءت له قصور صنعاء، وأخبره جبرئيل: بأن أمته ظاهرة عليها فابشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا:
الحمد لله موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر.
فقال المنافقون، ومنهم معتب بن قشير: ألا تعجبون من محمد؟! يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن: ﴿وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً﴾([5]) الخ..([6]).
وقيل: إن قائل ذلك هو عبد الله بن أبي بن سلول([7]).
وفي نص آخر: أن المنافقين قد قالوا ذلك عند مجيء الأحزاب([8]).
وهذا هو ما نرجحه، لأن سياق الآيات إنما يناسب حالة الشدة التي عانى منها المسلمون بعد مجيء الأحزاب، وحدوث الحصار كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
ويظهر من نص للطبراني: أن هذه القضية قد حدثت بعد قصة دعوة جابر للنبي «صلى الله عليه وآله» وأهل الخندق للطعام([9]) كما سيأتي.
وصرح القمي: بأن هذه القضية قد كانت في اليوم الثاني من بدء حفر الخندق([10]).
وذكر نص آخر: أنه «صلى الله عليه وآله» «جعل يصف لسلمان أماكن فارس، ويقول سلمان: صدقت يا رسول الله، هذه صفتها، أشهد أنك رسول الله.
ثم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان»([11]).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق «عليه السلام»: لما حفر رسول الله الخندق مروا بكدية، فتناول رسول الله «صلى الله عليه وآله» المعول من يد أمير المؤمنين «عليه السلام»، أو من يد سلمان، فضرب بها ضربة، فتفرق بثلاث فرق.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: لقد فتح الله عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر.
فقال أحدهما لصاحبه: يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وما يقدر أحدنا يخرج يتخلى([12]).
والمراد بأحدهما وصاحبه: هو أبو بكر وعمر، ولم يذكر اسميهما صراحة تقية.
ونقول:
لكن هذه الرواية: تخالف ما تقدم عن ابن الوردي وزيني ودحلان، من أن الذي قال ذلك: هو معتب بن قشير، أو عبد الله بن أبي.

نص آخر يخالف ما سبق:

ويقولون أيضاً: كان عمر بن الخطاب يضرب يومئذٍ بالمعول فصادف حجراً صلداً، فأخذ «صلى الله عليه وآله» منه المعول، وهو عند جبل بني عبيد فضربه، فذهبت أولها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام، ثم ضرب ثالثة فذهبت برقة نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة.
فكان عمر بن الخطاب يقول: والذي بعثه بالحق، لصار كأنه سهلة (رمل ليس بالدقاق).
وكان كلما ضرب ضربة يتبعه سلمان ببصره، فيبصر عند كل ضربة برقة، فسأله عن ذلك، فأخبره «صلى الله عليه وآله»: أنه رأى في الأولى قصور الشام، وفي الثانية قصور اليمن، وفي الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن. وجعل يصفه لسلمان؛ فصدقه سلمان، وشهد له بالرسالة.
فقال «صلى الله عليه وآله»: هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد ولتفتحن اليمن، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى بعده.
قال سلمان: فكل هذا قد رأيت([13]).
ونقول:
إن هذا النص ـ كما ترى ـ يخالف جميع النصوص الأخرى الواردة في كتب الصحاح، والمسانيد، وفي كتب التاريخ، التي سجلت لنا هذا الحدث الهام.
حيث إنه يذكر: أن عمر بن الخطاب هو الذي صادف الحجر الصلد، الذي ضربه النبي «صلى الله عليه وآله»، فبرقت البرقات الثلاث.
مع أن النصوص التي أوردتها سائر المصادر المعتبرة بالأسانيد الموثوقة: قد نصت على أن القضية بجميع فصولها وخصوصياتها، وجزئياتها قد كانت مع سلمان الفارسي.
بل قد ذكر النص الذي أوردناه أولاً: أسماء ثلاثة ليس عمر بن الخطاب أحدهم. ثم صرح بأن الستة الباقين جميعهم من الأنصار.
بل إن نفس هذا النص الذي ذكرناه آنفاً، والذي أراد حشر اسم الخليفة الثاني في هذه القضية، قد عاد والتزم جانب سلمان، بمجرد أن أخذ النبي «صلى الله عليه وآله» المعول ليضرب به ذلك الحجر ولم يعد لعمر فيه أي دور يذكر.
وكل ذلك يعطينا: أن ذكر اسم الخليفة الثاني هنا قد جاء سهواً من الراوي، ولعل ثمة حاجة في النفس قضيت.

القيادة الحازمة، والإنضباط أساس النجاح:

وبعد، فإن سيطرة القيادة النبوية الشريفة على الموقف وإشرافه «صلى الله عليه وآله» على كل تحرك وتصرف، واستتباب حالة الانضباط التام لدى الفئات التي كانت تعمل معه وتحت قيادته، له تأثير كبير في حسم الموقف، وفقاً لما ترسمه القيادة ويحقق أهدافها.
وقد تجلت الهيمنة القيادية للرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» في أكثر من مجال في غزوة الأحزاب.
وقد قرأنا آنفاً: أنهم حين ظهرت الكدية والصخرة، قالوا: إنهم ما كانوا يتجاوزون ما خطه رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبداً، رغم أن المعدل قريب.
وتقدم أيضاً: أن أحداً لم يكن يترك موضعه وعمله لحاجة يريدها إلا أن يأذن له النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله». وهذا هو ما طالب به أمير المؤمنين «عليه السلام» بعض أصحابه في صفين، حين قال له: طاعة إمامك أوجب عليك من مبارزة عدوك، ونجد أمثال هذه الكلمة في مغزاها ومرماها الكثير في مختلف المواضع والمواقع.
وهذا الانضباط هو الضمانة للنجاح في أية خطة ترسم، إذ إن القبول بالانسياق وراء الاجتهادات المختلفة يفقد القيادة الثقة بإمكانية تحقيق أية خطة تضعها للمواجهة، ثم هو يفسح المجال لتمرير بعض الخدع التي تفيد الأعداء، وتهيئ لهم الظرف الملائم لتسديد ضرباتهم الموجعة، والخطيرة في أحيان كثيرة.
أضف إلى ذلك: ما يمكن أن ينشأ عن ذلك من منافسات ثم من نزاعات، إلى أن ينتهي الأمر إلى التراشق بالتهم وتصدع الصف الواحد، الذي يفترض أن يكون كالبنيان المرصوص.
ولم ينس المسلمون بعد، ما أصابهم في حرب أحد حيث تسبب الرماة والذين تركوا مراكزهم على ثغرة الجبل بكارثة حقيقية مني بها المسلمون كما سبق بيانه.
ومهما يكن من أمر: فإن الانضباط في غزوة الأحزاب، والتقيد بأوامر النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد هيأ الفرصة لتحقيق النجاح الكبير الذي غير مسار تاريخ المواجهة مع المشركين، حتى قال النبي «صلى الله عليه وآله»: الآن نغزوهم ولا يغزوننا كما سيأتي ذلك مع مصادره في الفصل الأخير من هذا الباب إن شاء الله.
نقـول هـذا رغم أننا نجد المنافقين: يحـاولـون التملص من تحمـل مسؤولياتهم، ويختلقون الذرائع والحجج المختلفة لذلك، ولكن ذلك كان يتم وفقاً لقوانين الانضباط أيضاً، فقد كانوا يورون بالضعيف من العمل، وكانوا يستأذنون لحاجات وهمية، وما إلى ذلك، ولكنه كله كان تحت سمع وبصر القيادة وفي نطاق علمها، وسيطرتها على الموقف كما هو معلوم.

مدائن كسرى وقصور الروم وصنعاء:

إننا حين نقرأ هذه القضية نشعر: أن المسلمين كانوا يواجهون أكبر تجمع لقوى الشرك، ويتهيأون للدفاع عن وجودهم وحياتهم وهم يشعرون بعظيم الخطر الداهم، وتختلف في نفوسهم عوامل اليأس تارة، وعوامل الرجاء تارة أخرى.
ولعل المنافقين، ومن وراءهم اليهود، قد أسهموا بتضعيف عوامل الرجاء بما أشاعوه وأذاعوه مما يؤكد ويقوي حالة التشاؤم إلى درجة اليأس لدى الكثيرين ممن لم ترسخ لهم بعد قدم في الإيمان والتسليم، والتوكل.
فتأتي قصة رؤية قصور الحيرة والروم وصنعاء، ومدائن كسرى حينما ضرب النبي «صلى الله عليه وآله» تلك الصخرة المستعصية في الخندق ضربات ثلاثاً ـ تأتي ـ لتعيد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم وبربهم، وتطلعاتهم ونظراتهم القوية والثاقبة للمستقبل، ويبتعد حينئذٍ تلقائياً شبح الخوف المذل والاستسلام الخانع لعوامل اليأس، التي لو تمكنت وترسخت فيهم لجرتهم إلى مزالق الذل، ولكان ذلك سبباً في ذهاب ريحهم وسقوطهم في حمأة الهوان، والبوار.
إذ إن الحادثة قد استنبطت: أن ما هم فيه ما هو إلا «سحابة صيف عن قريب تقشع» وأنهم سيخرجون من هذه الضائقة التي يواجهونها مرفوعي الرأس، ليواصلوا مسيرتهم الظافرة من نصر إلى نصر، ومن فتح إلى فتح، حتى ينتهي بهم الأمر إلى فتح الفتوح، حيث تفتح لهم البلاد، وتدخل العباد في دينهم أفواجاً، ويملكون كنوز كسرى وقيصر، حسبما أخبرهم به الرسول «صلى الله عليه وآله» منذ فجر دعوته في مكة.
ومما يدخل في هذا السياق: ما روي من أنه «صلى الله عليه وآله» قال يوم الخندق لأصحابه: لئن أمسيتم قليلاً، لتكثرن، وإن أمسيتم ضعفاء لتشرقن، حتى تصيروا نجوماً يهتدى بكم، وبواحد منكم([14]).

الأمل بالنصر:

وذلك كله يوضح لنا: سر اطمئنان المؤمنين بنصر الله لما رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة، وضيقوا عليها الخناق، فلم ينهزموا أمام كل تلك الحشود، وما وهنوا لما أصابهم، بل واجهوا ذلك بكل صلابة عزم، وبكل تصميم قاهر، تحدث الله عنه سبحانه حينما قال:
﴿وَلمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْليماً﴾([15])» ([16]).
أما المنافقون، فاتخذوا ما أخبر به النبي «صلى الله عليه وآله» ذريعة للمزيد من السخرية، والتندر والاستهزاء، الذي يعبر عن انهزامهم النفسي والروحي أمام القوى الغازية قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾([17]).

كرم وكرامة:

وقضية وليمة جابر في الخندق تروى بنصوص مختلفة نلخصها فيما يلي:
قال جابر: رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يحفر، ورأيته خميصاً ورأيت بين عكنه الغبار؛ فاستأذن من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يذهب إلى بيته، فأذن له فعاد إلى امرأته ـ واسمها سهيلة بنت مسعود الأنصارية ـ فاتفق معها على أن يصلحا ما عندهما، وهو مد من شعير، وعناق (شاة) أو شويهة غير سمينة. ثم يدعو النبي «صلى الله عليه وآله» للطعام.
فذهب ليدعوه مع رجل أو رجلين؛ فسأله النبي «صلى الله عليه وآله» عما عنده فأخبره؛ فقال «صلى الله عليه وآله»: كثير طيب.
ثم دعا أهل الخندق جميعاً، وقال لهم: إن جابراً قد صنع لهم سوراً؛ فأقبلوا معه.
قال جابر: فقلت: والله إنها الفضيحة.
فأتيت المرأة فأخبرتها (أي بأنه «صلى الله عليه وآله» قد جاءها بالجند أجمعين، أو قد جاءك رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه أجمعون).
فقالت: أنت دعوتهم، أو هو دعاهم؟
فقلت: بل هو دعاهم.
قالت: دعهم، هو أعلم.
وفي نص آخر: أنها سألته إن كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد سأله عما عنده.
فأجابها بالإيجاب، فقالت له ذلك.
وذكرت نصوص أخرى: أنه «صلى الله عليه وآله» أقبل وأمر أصحابه، فكانوا فرقاً عشرة عشرة، ثم قال اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه. ففعلوا، فجعلوا يغرفون، ثم يغطون البرمة، ثم يفتحونها فلا يرون أنها نقصت شيئاً، ويخرجون الخبز من التنور، ثم يغطونه فما يرونه ينقص شيئاً؛ فأكل الجميع حتى شبعوا.
وقال «صلى الله عليه وآله»: كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة فأكلنا وأهدينا.
وفي نص آخر: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذهب ذلك.
ولهذه الرواية: نصوص تختلف من حيث التفصيل والإختصار، لم نر حاجة إلى إيرادها، ويمكن لمن يريد ذلك أن يراجع المصادر التي في الهامش([18]).
وقد صرحت بعض المصادر: بأن الذين أكلوا عند جابر كانوا ألف رجل، وهم جميع أهل الخندق.
وقيل: كانوا ثلاث مئة، وقيل: ثمان مئة، وقيل: تسع مئة([19]).
وفي بعض النصوص: حتى شبع المسلمون كلهم.
زاد ابن شهرآشوب: فلم يكن موضع للجلوس، فكان يشير إلى الحائط، والحائط يبعد، حتى تمكنوا، فجعل يطعمهم بنفسه([20]).
وفي نص آخر: أنه «صلى الله عليه وآله» قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟
فدلوه على رجل، فذهب إلى بيته، ولكنه كان في الخندق يعالج نصيبه، فأرسلت إليه امرأته، فأقبل يسعى، فذبح لهم جدياً كان عنده فأكل منه عشرة، ثم ذهبوا، وجاء عشرة آخرون فأكلوا.
«ثم قام «صلى الله عليه وآله» ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها»([21]).

قضية أخرى فيها كرامة لرسول الله :

وأرسلت أم متعب (أو أم عامر) الأشهلية بقعبة فيها حيس([22]) إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو في قبته مع أم سلمة، فأكلت حاجتها، ثم خرج بالقعبة فنادى مناديه: هلم إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا، وهي كما هي([23]).

كرامة أخرى للنبي :

وبعث أبو طلحة إنساناً بأقراص من الشعير تحت إبطه، ففتها «صلى الله عليه وآله» وأطعم منها ثمانين([24]).
يطعم الجيش كله حفنة من تمر:
ومما ذكره في هذا السياق: أن ابنة بشير بن سعد([25]) جاءت بحفنة من تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة؛ فرآها رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهي تلتمس أباها وخالها، فأخذ ذلك منها في كفه فما ملأتها، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب.
ثم أمر جعال بن سراقة، فصرخ في أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء؛ فاجتمعوا، فجعلوا يأكلون منها، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وأنه ليسقط من أطراف الثوب([26]).

كرامة أخرى لرسول الله :

عن معاوية بن الحكم قال: لما أجرى أخي علي بن الحكم فرسه فدق جدار الخندق ساقه، فأتينا به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» على فرسه، فقال: بسم الله، ومسح ساقه، فما نزل عنها حتى برئ([27]).
بين نظرتين:
ألف: ويلفت نظرنا في قصة جابر: أن جابراً قد تصرف وفق ما وجد أنه متوفر لديه من معطيات مادية، حيث رأى أن ما عنده لا يكفي إلا لعدد يسير من الأشخاص، ولكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليجعل نفسه أسيرة للأسباب المادية في حدودها الظاهرة.
بل تجاوز ذلك ليتعامل مع مسبب الأسباب، ومفيض الوجود مباشرة، وهو الله سبحانه، ولم يكن الله ليبخل على نبيه «صلى الله عليه وآله» في وقت يحتاج فيه هؤلاء الناس إلى الشعور برعاية الله سبحانه لهم.
وحتى مع إغماض النظر عن ذلك كله، في الأسوة والقدرة، لم يكن ليميز نفسه عن الناس، بل هو سوف يواسيهم بنفسه فيما قل وكثر، وفيما صغر وكبر. وذلك هو ما تمليه عليه التعاليم والمبادئ التي جاء بها من عند الله جل وعلا.
والذي يستأثر بإعجابنا العميق هو تلك اللفتة الواعية من زوجة جابر، والتي تظهر لنا أيضاً مدى إيمان هذه المرأة ومدى تسليمها لرسول الله «صلى الله عليه وآله». كما أنها تحكي لنا طبيعة ونوعية وسنخ اعتقادها بهذا الرسول الكريم والعظيم.
وذلك حينما أخرجت زوجها جابراً من حيرته المحرجة بسؤالها له: إن كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد علم بمقدار الطعام المتوفر عندهم، فأجابها بالإيجاب، فقالت: الله ورسوله أعلم.
ومن يدري فلعل النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد عرف أن هذا الإخلاص من جابر وزوجته، ثم الإيثار منه «صلى الله عليه وآله»، وحبه لأصحابه، وإقدامه على تقسيم هذا القليل من الطعام معهم، ثم إخلاص صحابته الأخيار في دفاعهم عن أنفسهم، وعن كرامتهم، وشرفهم ودينهم، ونبيهم، وهذه المتاعب الكبيرة، والمصاعب الخطيرة التي تواجههم، بالإضافة إلى أن الله سبحانه لن يخيب نبيه ووليه وصفيه،
نعم.. إن ذلك كله إذا اقترن بأن اللطف الإلهي لا بد أن يظهر في هذه الفترة العصيبة بالذات ليطمئن المؤمنون إلى نصر الله سبحانه، فإن زيادة الطعام الذي قدمه جابر، حتى ليأكل المسلمون كلهم حاجتهم منه، تصبح أمراً مقبولاً ومعقولاً، وفي محله..

التزوير الرخيص:

زعم الشعراني: «أنه شاهد شيخه الشيخ محمد الشنَّاوي، وقد جاء من الريف، ومعه نحو خمسين رجلاً، ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي، فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه، فأتوا لزيارته، فامتلأت الزاوية، وفرشوا الحصر في الزقاق.
ثم قال لنقيب شيخه: هل عندك طبيخ؟!
قال: نعم، الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي.
وقال له: لا تغرف شيئاً حتى أحضر.
ثم غطى الشيخ الدست بردائه، وأخذ المغرفة، وصار يغرف إلى أن كفى من في الزاوية، ومن في الزقاق. وهذا شيء رأيته بعيني»([28]).
ونحن إذا قارنَّا بين هذا الكلام وبين قضية وليمة جابر، فإننا نجد أن هذا النص أراد أن يعطي الشناوي نفس الكرامة التي ثبتت لرسول الله «صلى الله عليه وآله» حين استجاب لدعوة ذلك الرجل الصالح «رحمه الله».
والذي يستوقفنا هنا: ثقة الشنَّاوي بحصول الكرامة له، وكأنه يمارس عملاً عادياً لا يشك في انتهائه إلى النتيجة التي يريدها. تماماً كما كان الحال بالنسبة للنبي «صلى الله عليه وآله» في الخندق.
وليت شعري لماذا لم يشتهر أمر الشنَّاوي في الآفاق، وتسير به الركبان من بلد إلى بلد، ويصبح قبره كقبر النبي «صلى الله عليه وآله» في المدينة المنورة تشد إليه الرحال، وتقصده النساء والرجال من أقصى بلاد المعمورة؟
مع أننا نجدهم يقصدون زيارة قبور أناس صالحين لم تظهر لهم حتى ولو كرامة واحدة من هذا القبيل!!

الجهد، والضعف والجوع:

قد تحدثت النصوص التي سلفت في هذا الفصل، وفي غيره من الفصول، عن المعاناة التي كان يتعرض لها المسلمون بسبب شحة الأقوات في تلك السنة بالذات حيث: «كان المسلمون قد أصابهم مجاعة شديدة، وكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا عليه»([29]).
وذكر نص آخر: أن حفر الخندق كان في زمان عسيرة، وعام مجاعة حتى أن الأصحاب كانوا يشدون على بطونهم الحجر من الجهد والضعف الذي بهم من الجوع، ويقول البخاري: إنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقاً، وكذا النبي «صلى الله عليه وآله»([30]).
وفي نص آخر: «يأتون بملء كفي شعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن»([31]).
ويقول أبو طلحة: «شكونا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر، حجر، فرفع رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن بطنه حجرين»([32]).
ويقول نص آخر: «وكانوا في قر شديد وجوع»([33]).
وعن علي أمير المؤمنين «عليه السلام»، قال: «كنا مع النبي «صلى الله عليه وآله» في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة، ومعها كسرة خبز، فدفعتها إلى النبي «صلى الله عليه وآله» وقال النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ما هذه الكسرة؟!
قالت: قرصاً خبزتها للحسن والحسين، جئتك منه بهذه الكسرة.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث([34]).
ولنا هنا وقفات:

الأولى: النبي وصوم الوصال:

لقد ذكروا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» نهى عن صوم الوصال، فقالوا له: ما لك تواصل يا رسول الله؟!
قال: إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني.
قال ابن حبان: ويستدرك بهذا الحديث على بطلان ما ورد: أنه «صلى الله عليه وآله»، كان يضع الحجر على بطنه، لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل. فكيف يترك جائعاً مع عدم الوصال، حتى يحتاج إلى ربط الحجر على بطنه؟!
قال: وإنما لفظ الحديث: الحجز، بالزاي، وهو طرف الإزار. فصحفوا، وزادوا لفظ الجوع.
وأجيب: بأنه «لا منافاة، كان «صلى الله عليه وآله» يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم، أي يصير كالطاعم والساقي، تكرمة له. ولا يحصل له ذلك دائماً، بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين، على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، تعظيماً لثوابهم»([35]).
أضف إلى ذلك: أن توجه ابن حبان هذا، ودعواه تصحيف كلمة الحجز بالحجر لا تتلاءم مع ما تقدم عن علي «عليه السلام»، ولا مع ما تقدم عن جابر في قصة اندفاعه لتهيئة طعام للنبي «صلى الله عليه وآله» لما رآه خميصاً، ولا مع ما ذكر في قصة سلمان حينما طلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يعالج الصخرة.

الثانية: العزم والثبات:

ويلفت النظر هنا: أنه رغم كل ما كان يعانيه المسلمون من جهد وضعف وجوع، وبرد ـ كما يقولون ـ فإن ذلك لم ينل من عزمهم، ولم يؤثر على إرادتهم، ولا هزمهم روحياً. بل استمروا في تصميمهم على تنفيذ قرارهم بالمواجهة، ولم يحملهم ذلك على الدخول في أي مساومة، وتقديم أية تنازلات.
ولا شك: في أن للعامل الإيماني دوره الحساس في هذا المجال، ولعل العامل الأهم هنا: هو توفر القيادة الحكيمة والواعية والحازمة، المرتبطة بالله سبحانه، المتمثلة بشخصية النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».

الثالثة: الخصاصة والجوع:

قد تعودنا من أولئك الذين يتعاقبون على كراسي الحكم: أن يكونوا من أصحاب الأموال الطائلة، وأهل الثراء الفاحش، مع السعي الحثيث منهم للتمتع بمباهج الحياة، والتقلب في ملذاتها، واهتمام ظاهر بما فيها من زينة، وبهارج، في حين تكون شعوبهم تعاني من النصب والحرمان، ومن الحاجة والخصاصة بدرجة قبيحة ومزرية.
إن لم نقل: إن الكثيرين من هؤلاء الحكام هم الذين يمتصون دماء شعوبهم، ويعبثون بمقدراتها، ويختلسون كل ما قدروا عليه من أموالها.
أما نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله»: فإنه على عكس ذلك تماماً، فها هو في أيام الخندق يربط الحجر، ولا يستأثر نفسه بشيء  من حطام الدنيا. بل إنه حتى حينما يرغب أحدهم في استضافته على الشيء القليل جداً في هذا الظرف العصيب بالذات، لا يرضى «صلى الله عليه وآله» إلا أن يشاركه المسلمون جميعاً في ضيافته تلك، فيبارك الله سبحانه في ذلك الطعام، وتكون الكرامة من الله سبحانه لرسوله الأكرم «صلى الله عليه وآله».
ثم نجد علياً أمير المؤمنين «عليه السلام» خير من يتأسى برسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويسير على نهجه، وينسج على منواله. فإنه رغم أنه كان قد أنشأ ـ بكد يده، وبعرق جبينه ـ الكثير من الضياع والبساتين، لكنه لم يكن يستفيد منها بتحسين وضعه المعيشي، ولا أحدثت تغييراً في حياته الخاصة، بل كان يتصدق بها ويوزعها على الفقراء والمحتاجين، وقد أوقف عامتها على جهات البر المختلفة، ثم لم يزل يلبس الخشن، ويأكل الجشب إلى أن توفاه الله سبحانه.
وحسبك ما كتبه لعثمان بن حنيف: يلومه على حضوره وليمة دعي إليها:
قال «عليه السلام»: «ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع، واجتهاد، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من غصة مقرة»([36]).
إلى أن قال: «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع.
أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:
وحسـبـك داء أن تـبـيـت ببطنة         وحـولــك أكبـاد تحـن إلى الـقـد
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها([37])، تكترش([38]) من أعلافها، وتلهو عما يراد بها».
إلى أن قال: «وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف على قتال الأقران، ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائح الخضرة أرق جلوداً، والنباتات العذية([39]) أقوى وقوداً، الخ..»([40]).


([1]) خاتم النبيين ج2 ص944.
([2]) إمتاع الأسماع ج1 ص223 والمغازي للواقدي ج2 ص449 وكنز العمال ج10 ص285 عن ابن النجار.
([3]) راجع المصادر التالية: المغازي للواقدي ج2 ص452 وصحيح البخاري ج3 ص21 وتاريخ ابن الوردي ج1 ص160 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص228 والإكتفاء للكلاعي ج2 ص160 وإعلام الورى ص90 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص234 و246 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص186 والبداية والنهاية ج4 ص97 و98 عن ابن إسحاق، وأحمد، والبخاري والبيهقي، وإمتاع الأسماع ج1 ص224 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص519 وحدائق الأنوار ج2 ص591 ومجمع البيان ج8 ص341 والبحار ج20 ص198، ونهاية الأرب ج17 ص170 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص415 و416 و423 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص358 والمختصر في أخبار البشر ج1 ص134 وعيون الأثر ج2 ص57 والمواهب اللدنية ج1 ص111 وجوامع السيرة النبوية ص148.
([4]) ذباب: جبل بجبانة المدينة. وهو الجبل الذي عليه مسجد الراية. واسمه ذوناب أيضاً.
راجع: تاريخ الخميس ج1 ص482.
([5]) الآية 12 من سورة الأحزاب.
([6]) للرواية نصوص مختلفة. فراجعها على اختلافها في المصادر التالية: تاريخ الخميس ج1 ص482 و483 وراجع ص484 وعيون الأثر ج2 ص58 ووفاء الوفاء ج4 ص1207 وفتح الباري ج7 ص350 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص3 و 4 و 5 والأمالي للشيخ الصدوق ص258 وحبيب السير ج1 ص360 والسيرة الحلبية ج2 ص313 و 314 و 318 وبحار الأنوار ج20 ص253 و 219 ص189 و 190 وج18 ص32 ومجمع البيان ج2 ص427 و 328 وج 8 ص341 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص399 و 400 وراجع ص417 و 419 ـ 421 والكامل في التاريخ ج2 ص179 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص235 و 236 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص519 و 520، عن أحمد، والشيخين، وابن سعد وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم، والطبراني والبيهقي، وتاريخ ابن الوردي ج1 ص161 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص230 و 228 وحدائق الأنوار ج1 ص53 والخصال ج1 ص162 والإكتفاء للكلاعي ج2 ص162 و 160 وإعلام الورى ص90 وكنز العمال ج10 ص281 والروض الأنف ج3 ص277 وصحيح البخاري ج3 ص21 والخصائص الكبرى للسيوطي (ط الهند) ج1 ص228 والوفاء ص693 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص246 و 234 والبداية والنهاية ج4 ص99 و 97 و 98 و 100 و 101 و 102 والمختصر في أخبار البشر ج1 ص135 ومستدرك الحاكم ج3 ص598 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص191 ـ 195 والمغازي للواقدي ج2 ص452 والمواهب اللدنية ج1 ص111 ـ 112 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص432 وعن سنن النسائي ج2 ص65 وعن ابن إسحاق وراجع: تاريخ اليعقوبي ج2 ص51 وشرح بهجة المحافل ج1 ص265 وتفسير القمي ج2 ص178 والخرايج والجرايح ج1 ص152 وفيه أن المسلمين هم الذين رأوا تلك البلاد.
([7]) السيرة النبوية لدحلان ج2 ص5.
([8]) السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص192.
([9]) راجع: السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص194 والبداية والنهاية ج4 ص101.
([10]) تفسير القمي ج2 ص178 وبحار الأنوار ج20 ص219 عنه.
([11]) السيرة الحلبية ج2 ص314 والمغازي للواقدي ج2 ص450 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص520.
([12]) بحار الأنوار ج20 ص270 و 271 عن الكافي.
([13]) المغازي للواقدي ج2 ص450 و 449 وإمتاع الأسماع ج1 ص223 واشار إليه في سبل الهدى والرشاد ج4 ص519 و 520 عن الواقدي ووفاء الوفاء ج4 ص1208.
([14]) الخرائج والجرائح ج1 ص66.
([15]) الآية 22 من سورة الأحزاب.
([16]) فتح الباري ج7 ص305.
([17]) الآية 12 من سورة الأحزاب.
([18]) راجع النصوص المختلفة لهذه القضية في: المغازي للواقدي ج2 ص452 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص186 ـ 190 وتفسير القمي ج2 ص178 و 179 وبحار الأنوار ج20 ص219 و 220 و 198 و 199 وج 18 ص26 ج7 وص32 حديث 25 ودلائـل النبوة للبيهقي ج3 ص416 و 415 و 427 ومستدرك الحاكم ج3  = = ص31 وراجع: تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص234 و 235 والسيرة الحلبية ج2 ص329 و 330 وصحيح البخاري ج3 ص21 والبداية والنهاية ج4 ص97 ـ 99 عن البخاري، وأحمد، والبيهقي، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن إسحاق وسبل الهدى والرشاد ج4 ص520 و 521 عمن تقدم، وعن الحاكم والطبراني وحدائق الأنوار ج1 ص212 وج 2 ص592 وشرح الشفاء للقاري (ط سنة 1264) ج1 ص245 و 246 وعيون الأثر ج2 ص57 و 58 ودلائل النبوة لابن نعيم ص358 و 360 والشفاء ج1 ص291 وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص36 وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره والخرايج والجرايح ج1 ص27 و 152 ـ 154 وإثبات الهداة ج2 ص88.
([19]) البداية والنهاية ج4 ص98 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص188 و 189 و 190 عن البخاري وابن أبي شيبة وسبل الهدى والرشاد ج4 ص521 و 564 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص360 والشفاء ج1 ص291 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص424 و 426 وعن فتح الباري ج7 ص395، وراجع: تاريخ ابن الوردي ج1 ص161 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص229 والإكتفاء للكلاعي ج2 ص161 وإعلام الورى ص90 والسيرة الحلبية ج2 ص233 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص234 و 235 والمختصر في أخبار البشر ج1 ص134 و 135 وعيون الأثر ج2 ص57 و 58 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص4 وحدائق الأنوار ج1 ص53 و 212 وج 2 ص592.
([20]) دلائل النبوة لأبي نعيم ص360 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص188 وراجع: الخرائج والجرائح ج1 ص154 و 155 والبحار ج18 ص32 حديث 25 والمناقب لابن شهراشوب ج1 ص103.
([21]) السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص193 و 194 والبداية والنهاية ج4 ص101 و 100 عن الطبراني، وراجع: فتح الباري ج7 ص305.
([22]) الحيس: طعام متخذ من التمر والسمن، والدقيق والفتيت.
([23]) إمتاع الأسماع ج1 ص235 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص522 عن ابن عساكر، والمغازي للواقدي ج2 ص477 والسيرة الحلبية ج2 ص330.
([24]) حدائق الأنوار ج2 ص592 وسنن الدارمي ج1 ص21 و 22 (المقدمة).
([25]) هي أخت النعمان بن بشير.
([26]) راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص228 و 229 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص521 و 522 عن أبي نعيم، وابن إسحاق والإكتفاء للكلاعي ج2 ص160 و 161 وتاريخ ابن الوردي ج1 ص160 و 161 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص235، والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص190 و 191 والبداية  = = والنهاية ج4 ص99 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص4 وإمتاع الأسماع ج1 ص235 وجوامع السيرة النبوية ص148 والسيرة الحلبية ج2 ص329 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص427 ودلائل النبوة لابي نعيم ص433 والمختصر في أخبار البشر ج1 ص134 وعيون الأثر ج2 ص57 والمغازي للواقدي ج2 ص476 وبحار الأنوار ج20 ص247 والخرائج والجرائح ج1 ص110 و 123 وفيه: أنها أخت عبد الله بن رواحة وكذا في مناقب آل أبي طالب ج1 ص102.
([27]) سبل الهدى والرشاد ج4 ص522 عن الطبراني، وأبي القاسم البغوي.
([28]) السيرة الحلبية ج2 ص331.
([29]) إمتاع الأسماع ج1 ص235 والمغازي للواقدي ج2 ص476.
([30]) راجع مصادر حديث جابر الذي أوردناه في فقرة: كرم وكرامة. وراجع أيضاً: السيرة الحلبية ج2 ص329 وتاريخ الخميس ج1 ص482.
([31]) راجع: السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص184 والبداية والنهاية ج4 ص96 عن البخاري، وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص245 وصحيح البخاري ج3 ص20 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص517 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص412 وعن فتح الباري ج7 ص397.
([32]) السيرة النبوية للندوي ص282 عن الترمذي.
([33]) سبل الهدى والرشاد ج4 ص529.
([34]) عيون أخبار الرضا ج2 ص40 وذخائر العقبى ص47 وبحار الأنوار ج20 ص245 وصحيفة الإمام الرضا «عليه السلام» ط دار الأضواء ص71 و 72.
([35]) السيرة الحلبية ج2 ص329.
([36]) الأتان الدبرة: التي عقر ظهرها فقل أكلها. مقرة: مرة.
([37]) التقمم: التقاط القمامة.
([38]) تكترش: تملأ كرشها.
([39]) العذي: الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر.
([40]) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح، ط سنة 1387 ه‍. ق) ص417 و 418.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page