بعد أن اتَّضح لنا أنَّ المجتمع الشيعي يتعرَّض إلى عملية تمحيص في زمن الغيبة، لا بدَّ من بيان حقيقة هذا التمحيص وماهيَّته ليكون المؤمن على أُهبةٍ واستعدادٍ وحذرٍ.
فنقول: إنَّ هذا التمحيص في زمن الغيبة على مستويين:
المستوى الأوَّل: التمحيص السلوكي، حيث يُمَحَّصُ الناسُ من خلال غرائزهم وشهواتهم، ليُعْلَمَ من الذي ينقاد لشهواته وغرائزه ومن الذي يتجرَّد منها، فنحن نعيش في زمان ثورةٍ غرائزيَّةٍ من خلال توفّر سبل الإثارة للغرائز والشهوات، وزمان الثورة الغرائزيَّة هو زمان عملية التمحيص السلوكي للناس من خلال غرائزهم.
وقد وردت الروايات الشريفة التي تشير إلى هذا النوع من التمحيص، كما في الخبر الطويل الذي يرويه الشيخ الكليني في الكافي الشريف عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: (مَنْ انتظر أمرَنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف فهو غداً في زمرتنا، إذا رأيتَ الحقَّ قد مات وذهب أهلُه، ورأيتَ القمارَ قد ظهر، ورأيتَ الشرابَ يُباع جهاراً وليس له مانعٌ، ورأيتَ النساءَ يبذلن أنفسَهنَّ لأهل الكفر، ورأيتَ الملاهي قد ظهرت لا يجرؤ أحدٌ على منعها، ورأيتَ الدماءَ قد اسْتُخِفَّ بها، ورأيتَ الناسَ قد تساووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتديّن به، فكن على حذر واطلب إلى الله عز وجل النجاة، واعلم أنَّ الناس في سخط الله عز وجل وإنَّما يُمهلهم لأمر يُراد بهم، فكن مترقِّباً واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه)(٧).
فهذه الرواية الشريفة _ وأمثالها _ تتحدَّث عن عملية تمحيصٍ سلوكي، وتُبيِّن أنَّ الناس سيتعرَّضون إلى موجبات الإثارة والمفاتن الدنيويَّة على أشدّها، والذي يُشرَّفُ برؤية الإمام ونصرته هو مَنْ يتجاوز التمحيص السلوكي بنجاح.
المستوى الثاني: التمحيص الفكري، وهو المستوى الأخطر والأشدّ؛ لأنَّ الناس لا يلتفتون إليه عادةً، فالمجتمع الشيعي سيُمَحَّصُ في بصيرته وعقائده وأفكاره، وستنتشر الراياتُ الضالّة والأفكارُ المنحرفةُ والشبهاتُ باسم الدين، ولا يخرج من هذه العملية إلَّا صاحبُ الوعي والبصيرة.
ويشهد لذلك ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، تكون له غيبة وحيرة، يضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون)(٨).
فإنَّ التعبير فيها بالضلال والاهتداء واضح الدلالة على التمحيص في البصائر والدين.
والمتحصِّل: أنَّ التمحيص الذي يمرُّ به العالمُ الشيعي على مستويين، سلوكي وفكري، والثاني يشكل امتحاناً أخطر من الأوَّل إذ هو مرتبط بدين الناس وبصائرهم، وسيظهر من يرفع الرايات باسم الإمام المنتظر ويدَّعي السفارة والنيابة والارتباط به عليه السلام، ومن ينصاع لهؤلاء فقد وقع في هاوية الجحيم.
***************
(٧) الكافي ٨: ٣٦ - ٤٢، نقلناه بتصرّف.
(٨) الكافي ١: ٣٣٨؛ كمال الدين: ٢٨٩؛ الغيبة للنعماني: ٦٩؛ الغيبة للشيخ الطوسي: ٣٣٦.
بيان حقيقة التمحيص
- الزيارات: 240