لا بدَّ من معرفة حقيقة هذه العبادة، فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم، أو هو حقيقة وراء هذه الأمور وإن كادت العبادة الرسمية كلّها أيضاً واجدة للأهمّية(٢٦٢)؟
وللإجابة علىٰ هذا التساؤل لا بدَّ من معرفة أنَّ العبادة في حدود كونها ارتباط ذاتي للإنسان بخالقه يمكن تصويرها في معنيين:
الأوّل: صلة خاصّة تتمثَّل في العبادات الفردية التي تخصُّ الإنسان في حدوده الخاصّة وتربطه بالله سبحانه وتعالىٰ(٢٦٣).
الثاني: ما يشمل الحياة وبناء المجتمع وتقويم الأُمّة، لأنَّ العبادة في حقيقتها هي الدين القيّم الذي ينظّم حياة الإنسان ويحدّد سلوكه وعلاقاته بالآخرين، وبالتالي بناء المجتمع علىٰ وفق نظام حياتي يكون هادياً له في مسيرته الإنسانية بحيث يوفّر له في الدنيا سبل العيش بكرامة وفي الآخرة الجزاء الأوفىٰ(٢٦٤)، وهذا ما بيَّنه قوله تعالىٰ: (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: ٦١).
فالأمر بالعبادة في حقيقته دعوة إلىٰ العمل بعد التفكّر والبحث عن وجود الله من خلال آياته التي ملأت الأنفس والآفاق(٢٦٥)، فهي تمثّل الجانب العملي(٢٦٦)، وهذا المعنىٰ بيَّنه قوله تعالىٰ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (آل عمران: ١٩١)، فقوله تعالىٰ: (يَذْكُرُونَ اللهَ) إشارة إلىٰ عبودية اللسان، وقوله تعالىٰ: (قِياماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ) إشارة إلىٰ عبودية الجوارح والأعضاء، وقوله تعالىٰ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ) إشارة إلىٰ عبودية القلب والفكر والروح، والإنسان وعمله ما هو إلَّا هذا المجموع(٢٦٧).
وجاء في كتب العهد القديم ما نصّه: (اعبدوا الربّ بحقّ وابتغوا عمل مرضاته)(٢٦٨)، وبهذا تتَّسع دائرة العبادة لتطال مختلف جوانب النشاط البشري وميزة هذا الشمول هو في استقطابه كافّة الأنشطة وجذبها إلىٰ محور واحد وهو الله عز وجل، وبذلك تحوَّل كلّ نشاط بشري إلىٰ جهد عبادي(٢٦٩)، فتتمُّ الموازنة بين أهمّية الخلق وقيمة الطاعة للوصول إلىٰ المحصلة النهائية وهي أنَّ رسالة الله في الأرض أن يعرف ويطاع(٢٧٠)، وتترتَّب علىٰ هذه الطاعة آثار عملية تسهم في أداء الإنسان مهمَّته في الأرض، وهذا ما ينبغي للبحث الوقوف عند تلك الآثار لاستكناه أهمّ ملامحها.
***************
(٢٦٢) تفسير الأمثل/ مكارم الشيرازي ١٧: ١٣٣ و١٣٤.
(٢٦٣) العبادة والعبودية في الرؤية والسلوك لدىٰ الإمام الخميني/ حسين يحيىٰ بدران: ٨٢ .
(٢٦٤) العبادة في مفهومها الفردي والشمولي وأثرها في صياغة الشخصية الإسلاميّة/ محمّد بحر العلوم: ١٢.
(٢٦٥) ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّه قال: (التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين). (مستدرك الوسائل/ الميرزا النوري ١١: ١٨٥)؛ وعنه عليه السلام أيضاً: (سكّنوا في أنفسكم معرفة ما تعبدون حتَّىٰ ينفعكم ما تحرّكون من الجوارح بعبادة من تعرفون). (تحف العقول/ ابن شعبة الحرّاني: ٢٢٣).
(٢٦٦) التجديد في تفسير القرآن المجيد/ علي عبد الرزّاق مجيد مرزة ١: ٢٣٨.
(٢٦٧) تفسير الرازي ٩: ١٣٦.
(٢٦٨) الأسفار القانونية الثانية ١٤: ١٠.
(٢٦٩) العبادة والعبودية في الرؤية والسلوك لدىٰ الإمام الخميني/ حسين يحيىٰ بدران: ٨٢ .
(٢٧٠) العبادة في مفهومها الفردي والشمولي وأثرها في صياغة الشخصية الإسلاميّة/ محمّد بحر العلوم: ١٢.
حقيقة العبادة
- الزيارات: 185