أولاً ـ التعريف
اصطلاحاً:
ألف ـ مفهوم الطلب : ]ويمكن تعريفه بعدّة تعريفات كلّها يرجع لبيان معنىً واحد ومطلب فارد :[
1 ـ ]إنّه :[ عبارة عن التصدّي([1]) لحصول المراد([2]) ، وهو وإن لم يكن من مقولة الفعل الاصطلاحيّة ، إلاّ أنّه لا ريب في كونه من الأفعال العرفيّة الصادرة عن إرادة واختيار ، فلا يمكن أن يتّحد مع مفهوم الإرادة مصداقاً([3]) ]كما ستعرف[ .
2 ـ ]إنّه[ ـ على ما يستفاد منه عرفاً ـ عبارة عن التصدّي لتحصيل شيء في الخارج والسعي نحوه ، فلا يقال : طالب الضالّة إلاّ لمن تصدّى لتحصيلها ، ولا طالب العلم إلاّ لمن تصدّى لتحصيله ، وأمّا من يشتاق إليهما مع عدم التصدّي للتحصيل فلا يطلق عليه طالب الضالّة أو طالب العلم ولومع شدّة الإشتياق إليهما([4]) ; إذ ما من أحد إلاّ وقد اشتاق إلى العلم([5]) .
3 ـ ]إنّه[ عبارة عن التصدّي لتحصيل ما تشتاق إليه النفس ، ونسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى فاعله ، فهو من مقولة الفعل([6]) .
4 ـ إنّه عبارة عن التصدّي نحو المقصود خارجاً ، وهو من الأفعال الخارجيّة وليس من المفاهيم اللفظيّة في شيء حتّى يدّعى أنّه كلام نفسي([7]) .
5 ـ الطلب إسم للتصدّي نحو المحبوب([8])([9]) .
6 ـ إنّه من الأفعال الإختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار ، حيث إنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شيء في الخارج . . .
وبكلمة اُخرى : إنّ الطلب عنوان للفعل ـ سواء أكان الفعل نفسانيّاً أم خارجيّاً ـ فلا يصدق على مجرّد الشوق والإرادة النفسانية ، ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا : طلبت زيداً فما وجدته ، أو طلبت من فلان كتاباً ـ مثلاً ـ فلم يعطني . . . ]كما [أنّ الطلب عنوان للفعل الخارجي أو الذهني([10]) .
ب ـ الإرادة :
لغة : الإرادة مشتقّة من الرّود ، ومنه الرّائد أي طالب الماء والكلاء ، وهي على ما في اللّغة : تستعمل تارة بمعنى المشيئة ، وهي بمعنى إعمال القدرة . واُخرى : في التهيّؤ للفعل ; ولذا ربما تستند الإرادة إلى الجدار كما في قوله تعالى: (جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ)([11]) ، أي كان مشرفاً على ذلك ، ولم نرَ من ذكر من معانيه الشوق الأكيد المحرّك للعضلات([12]) .
اصطلاحاً : الإرادة تستعمل تارة ويراد منها تلك الصفة النفسانيّة التي هي الشوق ضعيفاً أو قويّاً ، وتستعمل اُخرى ويراد منها الاختيار الذي هو فعل من أفعال النفس([13])([14]) .
] وحينئذ يمكن تعريفها بمايلي : [
1 ـ الإرادة عبارة عن مطلق الشوق أو الشوق المؤكّد الذي هو من مقولة الكيف النفساني([15]) ، ونسبتها إلى النفس نسبة العرض إلى معروضه([16]) .
2 ـ الإرادة من الصفات القائمة بالنفس ، ولا تكون اختياريّة ، وإلاّ لزم كونها مسبوقة بإرادة اُخرى ، فلزم الدور أو التسلسل ، بل هي ناشئة من ملائمة الطبع المكوّنة بأمر الله سبحانه وتعالى ، حسب ما اقتضته الحكمة إلالهيّة([17]) .
]وحينئذ يترتّب على الخلاف المزبور في معنى الإرادة بحثان[ :
الأوّل : إمكان تعلّق الإرادة بالأمر المتأخّر وعدمه:
التحقيق في المقام أن يقال : أنّ تعلّق الإرادة بمعنى الشوق بأمر متأخّر ـ سواء كان مقيّداً بقيد غير مقدور أو لم يكن مقيّداً به ـ أمر ممكن ، ووقوعه بالوجدان يغني عن الاستدلال لإثبات إمكانه .
وأمّا الإرادة ، بمعنى الاختيار ـ أعني به إعمال النفس قدرتها في الفعل أو الترك ـ فيستحيل تعلّقها بالأمر المتأخّر مطلقاً ، سواء كان مقيّداً بقيد غير مقدور أو لم يكن ، فإنّ إعمال القدرة إنّما يمكن في ظرف امكان صدور الفعل ، ومن البديهي أنّ الأمر المتأخّر ـ ولو كان له مقدّمات مقدورة ـ يستحيل صدوره بالفعل ، فلا معنى لإعمال النفس قدرتها في وجوده أو عدمه .
وقد ذكرنا في محلّه أنّ حركة العضلات إنّما تتبع الاختيار الذي هو من أفعال النفس ولا تترتّب على مجرّد الشوق النفساني بلغ ما بلغ من الشدّة والقوة . . . هذا في الإرادة التكوينية .
وأما الإرادة التشريعية : فإن اُريد منها شوق المولى المتعلّق بفعل الغير ، فإمكان تعلّقها بأمر متأخّر وإن كان واضحاً إلاّ أنّها بهذا المعنى خارجة عن محل البحث ، وليست من الأحكام المجعولة .
وإن اُريد منها إعمال المولى قدرته في الفعل والترك ، فمن الضروري أنّها بهذا المعنى يستحيل تعلّقها بفعل الغير سواء في ذلك المتأخّر وغيره ، فإنّ صدور الفعل أو تركه إنّما هو باختيار المكلّف وخارج عن تحت قدرة المولى غالباً ، ولو فرض كونه تحت اختيار المولى ـ كما في المولى الحقيقي ـ وفرض مع ذلك تعلّق اختياره به وجوداً أو عدماً لما كان الفعل معه قابلاً لتعلّق التكليف به ، كما هو ظاهر .
نعم ، الإرادة بهذا المعنى قابلة لأن تتعلّق بنفس التشريع الذي هو فعل من أفعال المولى ، ولا بأس بتسميتها إرادة تشريعية إلاّ أنّه اصطلاح محض ، والإرادة المتعلقة بالتشريع تكوينيّة لا محالة .
وإن اُريد منها إيجاب المولى الذي هو فعل من أفعاله ، فتسميتهـ]ـا [بالإرادة التشريعية وإن كانت لا تخلو عن وجه ، إلاّأنّ دعوى أنّها بمنزلة الإرادة التكوينية وتسرية أحكامها إليه بلا موجب... .
فاتضح ممّا ذكرناه... أنّ تعلّق الطلب بالأمر المتأخّر ـ سواء كان مقيّداً بقيد غير مقدور أو لم يكن ـ يستلزم اشتراط الوجوب بالقدرة المتأخرّة عنه، المقارنة للعمل في ظرفه([18]) .
]وأمّا[ الإرادة بمعنى الاختيار ]فإنّه[ يستحيل تعلّقها بالأمر المتأخّر مطلقاً ، وعلى ذلك يترتّب أنّ إرادة المقدّمة يستحيل أن تكون ناشئة من إرادة ذي المقدّمة أبداً سواء في ذلك المقيّد بقيد غير اختياري وغير المقيّد به ، بل هي ناشئة عن علم المشتاق إلى ذي المقدّمة بأنّه لو لم يأت بالمقدّمة لفاته الغرض في ظرفه ، فلا وجه لما اُفيد في المتن([19]) من أنّ إرادة المقدّمة قد تنشأ عن إرادة ما يتوقّف عليها ، وقد تنشأ من العلم بفوت الغرض على تقدير عدم الإتيان بالمقدّمة قبل مجيء ظرف الإتيان بالواجب .
وبالجملة ، إذا امتنع تعلّق الاختيار بالأمر المتأخّر فإرادة المقدّمة إنّما تنشأ من الشوق إلى ذي المقدّمة ، والعلم بترتّب فوت المشتاق إليه على ترك المقدّمة من دون فرق بين كون المشتاق إليه مقيّداً بقيد غير مقدور وعدمه([20]) .
الثاني : اتّصاف الإرادة بالوجود التقديري وعدمه :
لا يخفى أنّ الإرادة ـ سواء اُريد منها الشوق النفساني ، أو اختيار النفس للفعل أو الترك ـ بما أنّها من الاُمور التكوينيّة الخارجيّة لا تتّصف بالتقديريّة تارة وبالفعليّة اُخرى ، وإنّما تتّصف بالوجود أو بالعدم ، فإنّ ما تكون الإرادة منوطة به إن كان موجوداً فالإرادة فعليّة ، وإلاّ فهي معدومة .
نعم ، الاتصاف بالوجود التقديري إنما يعقل في الاُمور الاعتباريّة ، فيصحّ أن يقال : إنّ وجوب الحج ـ مثلاً ـ ثابت في الشريعة على تقدير حصول الاستطاعة خارجاً ، وهذا النحو من الوجود الاعتباري يكون ثبوته بنفس الاعتبار ولو لم يكن في الخارج مستطيع بالفعل... .
]فـ [ تحصّل ممّا ذكرناه استحالة اتصاف الإرادة بالوجود التقديري ، وأنّ ما هو الموجود عند الالتفات إلى مصلحة شرب الماء على تقدير حصول العطش مثلاً إنّما هو الشوق إلى الشرب المقيّد بحال العطش ، وهو فعلي لا تقديري ، وأمّا اختيار الشرب ، المعبّر عنه بالإرادة أحياناً فهو غير موجود بالفعل أصلاً . نعم ، علم الملتفت إلى تحقّق الشرب حال العطش موجود بالفعل إلاّ أنّه فعلي لا تقديري([21]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] «إذا تصدّى المشتاق لما يشتاق إليه يقال : طلبه» الهداية في الاُصول 1 : 199 .
[2] ومصداق ذلك في موارد تعلّق الإرادة بفعل الغير إنّما هو نفس الإنشاء المظهِر لإعتبار كون الفعل على ذمة المكلّف. أجود التقريرات 1: 140.
[3] أجود التقريرات 1: 136.
[4] مصباح الاُصول 1/ القسم 1: 255.
[5] الهداية في الاُصول 1: 198.
[6] المصدر السابق : 199 .
[7] المحاضرات 2 : 24 .
[8] «الظاهر أنّ الطلب لا يطلق على مطلق التصدّي نحو المراد ولو كان تحقّق المطلوب وترتّبه على المقدّمات مسلّماً يقينيّاً . . . وإنّما يطلق الطلب على التصدّي نحو شيء يحتمل حصوله ويحتمل عدم حصوله» دراسات في علم الاُصول 1 : 145 ـ 146 .
[9] دراسات في علم الاُصول 1 : 145 .
[10] المحاضرات 2 : 16 .
[11] الكهف : 77 .
[12] دراسات في علم الاُصول 1 : 162 .
[13] الهداية في الاُصول 1 : 206 .
[14] ]هناك خلاف في أنّ[ الإرادة اسم للصفة أو الفعل النفساني دراسات في علم الاُصول 1 : 145 .
[15] «ما يفهم من الإرادة ، هو تلك الصفة النفسانية التي ]هي[ عبارة عن مطلق الشوق أو الشوق المؤكّد» الهداية في الاُصول 1 : 199 .
[16] الهداية في الاُصول 1 : 199 .
[17] مصباح الاُصول ج1 / القسم 1 : 254 .
[18] أجود التقريرات 1 : 202 ـ 203 ، 205 .
[19] المراد به ما قرّرهقدس سره عن اُستاذه النائينيقدس سره .
[20] أجود التقريرات 1 : 206 .
[21] أجود التقريرات 1 : 204 .