أقسام المشيئة الإلهيّة
لشيخنا المحقّق الأصفهاني (قدس سره) في المقام كلام وحاصله : أنّ مشيئته تعالى على قسمين : مشيئة ذاتيّة ، وهي عين ذاته المقدّسة ، كبقيّة صفاته الذاتية ، فهو تعالى صرف المشيئة ، والقدرة ، وصرف العلم ، وصرف الوجود ، وهكذا ، فالمشيئة الواجبة عين الواجب تعالى .
ومشيئة فعليّة ، وهي عين الوجود الإطلاقي المنبسط على الماهيات ، والمراد من المشيئة الواردة في الروايات ـ من أنّه تعالى خلق الأشياء بالمشيئة ، والمشيئة بنفسها ـ هو المشيئة الفعليّة التي هي عين الوجود المنبسط والوجود الإطلاقي .
والمراد من الأشياء هو الموجودات المحدودة الخاصة ، فموجودية هذه الأشياء بالوجود المنبسط ، وموجودية الوجود المنبسط بنفسه ، لا بوجود آخر ، وهذا معنى قوله(عليه السلام) : « خلق الله الأشياء بالمشيئة » أي بالوجود المنبسط الذي هو فعله الإطلاقي ، وخلق المشيئة بنفسها ; ضرورة أنّه ليس للوجود المنبسط ما به الوجود .
ولا يخفى أنّه(قدس سره) قد تبع في ذلك نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد الفعل ، وبطبيعة الحال إنّ هذه النظرية ترتكز على ضوء علّية ذاته الأزلية للأشياء ، وعلى هذا الضوء فلا محالة يكون الصادر الأول منه تعالى واحداً ذاتاً ووجوداً ; لاقتضاء قانون السنخيّة والتناسب بين العلّة والمعلول ذلك ، وهذا الصادر الواحد هو الوجود الإطلاقي المعبَّر عنه بالوجود المنبسط تارة ، وبالمشيئة الفعليّة تارة اُخرى ، وهو الموجود بنفسه لا بوجود آخر ، يعني أنّه لا واسطة بينه وبين وجوده الأزلي فهو معلوله الأول ، والأشياء معلولة بواسطته ، وهذا المعنى هو مدلول صحيحة عمر بن اُذينة المتقدّمة .
ولنأخذ بالنقد عليه من وجهين :
الأوّل : أنّ القول بالوجود المنبسط في إطاره الفلسفي يرتكز على نقطة واحدة ، وهي أنّ نسبة الأشياء بشتّى أنواعها وأشكالها إلى ذاته تعالى نسبة المعلول إلى العلّة التامّة ، ويترتّب على هذا أمران :
]ألف[ ـ التجانس والتسانخ بين ذاته تعالى وبين معلوله .
]ب[ ـ التعاصر بينهما ، وعليه حيث إنّه لا تجانس بين موجودات عالم المادة بكافة أنواعها وبين ذاته تعالى فلابدّ من الإلتزام بالنظام الجملي السلسلي ، وهو عبارة عن ترتّب مسبّبات على أسباب متسلسلة ، فالأسباب والمسبّبات جميعاً منتهيتان في نظامهما الخاص وإطارهما المعيّن بحسب الطولية والعرضية معاً إلى مبدأ واحد وهو الحق سبحانه ، وهو مبدأ الكلّ ، فالكلّ ينال منه ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق . ونتيجة هذا أنّ الصادر الأوّل من الله تعالى لابدّ أن يكون مسانخاً لذاته ومعاصراً معها ، وإلاّ استحال صدوره منه . ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يكون إلاّ الوجود المنبسط في إطاره الخاص .
وغير خفي أنّه لاشبهة في بطلان النقطة المذكورة ، وأنّه لا واقع موضوعي لها أصلاً . والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ سلطنته تعالى وإن كانت تامّة من كافة الجهات ولا يتصوّر النقص فيها أبداً إلاّ أنّ مردّ هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، كوجوب صدور المعلول عن العلّة التامّة ، بل مردّه إلى أنّ الأشياء بكافة أشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامّة ، وأنّه تعالى متى شاء إيجاد شيء أوجده بلا توقّف على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته حتى يحتاج في إيجاده إلى تهيئة تلك المقدّمة ، وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا يشذّ شيء عن اطارها .
ومن البديهي أنّ وجوب وجوده تعالى ، ووجوب قدرته ، وأنّه تعالى وجود كلّه ، ووجوب كلّه ، وقدرة كلّه لا يستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كإسناد المعلول إلى العلّة التامّة ، لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار ، فلنا دعويان :
الاُولى : أنّ إسناد الفعل إليه ليس كإسناد المعلول إلى العلّة التامّة . الثانية : أنّ إسناده إليه كإسناد الفعل إلى الفاعل المختار .
أمّا الدعوى الاُولى فهي خاطئة عقلاً ونقلاً .
أمّا الأوّل : ]أي البطلان عقلاً[ فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى ، فإنّ مردّ هذا القول إلى أنّ الوجودات بكافة مراتبها الطولية والعرضية موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم ، وتتولد منه على سلسلتها الطوليّة تولّد المعلول عن علّته التامّة ، فإنّ المعلول من مراتب وجود العلّة النازلة وليس شيئاً أجنبياً عنه ، مثلاً الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها وليست أجنبية عنها وهكذا ، وعلى هذا الضوء فمعنى علّية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولّدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولّد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علّة طبيعية غير شاعرة ، ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلّية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولّدة من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذاً ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامّة ؟ على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفاء شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطوليّة ; لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته .
وأمّا الثاني ]أي البطلان نقلاً[ فقد تقدّم ما يدلّ من الكتاب والسنة على أنّ صدور الفعل منه تعالى بإرادته ومشيئته .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنّه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري لا يرجع إلى معنى محصّل ، بداهة أنّ علم العلّة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلّية وتأثيرها ، فإنّ العلّة سواء كانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرّد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف .
فما قيل من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا: إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري ، وما صدر من الثاني اختياري ، لا واقع موضوعي له أصلاً; لما عرفت من أنّ مجرّد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلّية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة المعلول إلى العلّة التامّة .
وأمّا الدعوى الثانية فقد ظهر وجهها ممّا عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالى إسناد إلى الفاعل المختار ، وقد تقدّم أنّ صدوره بإعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث إنّ سلطنة الباري عزّ وجلّ تامّة من كافة الجهات والحيثيّات ، ولا يتصوّر فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق ، وفاعل ]لـ[ ما يشاء ، وهذا بخلاف سلطنة العبد ، حيث إنّها ناقصة بالذات فيستمدّها في كلّ آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له ، وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية اُخرى ، وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته ، وأمّا سلطنته تعالى فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين .
لحدّ الآن قد تبيّن أنّ القول بالوجود المنبسط بإطاره الفلسفي الخاص وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى ، ونفي القدرة والسلطنة عنه أعاذنا الله من ذلك .
الثاني ]من وجوه النقد[ : أنّ ما أفاده(قدس سره) من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جداً ، فإنّ الظاهر منه بقرينة تعلّق الخلق بكلّ من المشيئة والأشياء تعدّد المخلوق ، غاية الأمر أنّ أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة والآخر مخلوق له بواسطتها .
وإن شئت قلت : إنّ تعدّد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدّد المخلوق ، والمفروض أنّه لا تعدّد على المعنى الذي ذكره(قدس سره) تبعاً لبعض الفلاسفة ، فإنّ المخلوق على ضوء هذا المعنى هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من الأشياء ، لأنّ موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بإيجاد آخر ، مع أنّ ظاهر الرواية بقرينة تعدّد الخلق أنّ موجوديتها بإيجاد آخر .
وقد تحصّل من ذلك أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به ثبوتاً ولا إثباتاً([1]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المحاضرات 2 : 39 ـ 43 .