انتهاء الأشياء إلى مبدأ أعلى وراء حدودها([1])
]ونوضّحه ضمن الإشارة إلى نقطتين :[
الاُولى : أنّ مردّ حديثنا عن أنّ الأشياء الخارجية بكافة أنواعها أشياء تعلّقية وارتباطية تتعلّق بالمبدأ الأعلى وترتبط به ليس إلى نفي العلّية بين تلك الأشياء ، بل مردّه إلى أنّ تلك الأشياء بعللها ومعاليلها تتصاعد إلى سبب أعمق وتنتهي إلى مبدأ أعلى ما وراء حدودها .
والسبب في ذلك أنّ تلك الأشياء بكافة سلسلتها التصاعدية وحلقاتها الطولية والعرضية خاضعة لمبدأ العلّية ، ولا يمكن افتراض شيء بينها متحرّر عن هذا المبدأ ، ليكون هو السبب الأوّل لها ، فإذن لابدّ من انتهاء السلسلة جميعاً في نهاية المطاف إلى علّة غنيّة بذاتها لتقطع السلسلة بها وتضع لها بداية أزليّة ، مثلاً بقاء ظواهر الأشياء استند إلى بقاء عللها وهي الخاصيّة الموجودة في موادها من ناحية ، والقوّة الجاذبية التي تفرض المحافظة عليها من ناحية اُخرى ، وترتبط تلك الظواهر بهما ارتباطاً ذاتيّاً ، فلا يعقل بقاؤها على وضعها بدونهما ، ثمّ ننقل الكلام إلى عللها وهي تواجه نفس مسألة الافتقار إلى مبدأ العلّية ، وهكذا إلى أن تصل الحلقات إلى السبب الأعلى الغني بالذات المتحرّر من مبدأ العلّية .
الثانية : أنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعلية في نقطة ، ويشترك معه في نقطة اُخرى .
أمّا نقطة الافتراق فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها . ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب . وأمّا المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها ، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على اساس مسألة التناسب . نعم ، يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتيّاً ، يعني يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءً ، ومتى تحقّقت المشيئة تحقّق الفعل ، ومتى انعدمت انعدم . وعلى ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته ، وأنّها خاضعة لها خضوعاً ذاتيّاً وتتعلّق بها حدوثاً وبقاءً ، فمتى تحقّقت المشيئة الإلهيّة بإيجاد شيء وجد ، ومتى انعدمت انعدم ، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها ، ولا تتعلّق بالذات الأزليّة ، ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها ، كما عليه الفلاسفة .
ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساس للفرق بين نظريتنا ونظرية الفلاسفة ، فبناءً على نظريتنا ارتباط تلك الأشياء بكافة حلقاتها بمشيئته تعالى وإعمال سلطنته وقدرته ، وبناءً على نظرية الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها بذاته الأزليّة ، وتنبثق من صميم وجودها ، وقد تقدّم عرض هذه الناحية ونقدها في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع .
وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ المعلول كما لا واقع له وراء ارتباطه بالعلّة وتعلّقه بها تعلّقاً في جوهر ذاته وكيان وجوده ; لما مضى من أنّ مطلق الارتباط القائم بين شيئين لا يشكّل علاقة العلّية بينهما ، وكذلك الفعل لا واقع موضوعي له ما رواء ارتباطه بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته وتعلّقه بها تعلّقاً في واقع ذاته وكيانه ، ويدور وجوده مدارها حدوثاً وبقاءً . فمتى شاء إيجاده وجد ، ومتى لم يشأ لم يوجد .
فالنتيجة أنّ المعلول الطبيعي والفعل الاختياري بمشتركان في أنّ وجودهما عين الارتباط والتعلّق ، لكنّ الأوّل تعلّق بذات العلّة ، والثاني بمشيئة الفاعل لا بذاته ، رغم أنّ صدور الأول يقوم على أساس قانون التناسب ومبدأ الحتم والوجوب ، وصدور الثاني يقوم على أساس الاختيار ، وقد تقدّم درس هذه النواحي بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة .
قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة وهي أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيّتين :
إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته .
ثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة له في كلّ آن وبصورة مستمرّة حتى في آن اشتغاله بالعمل ، وتلك النتيجة هي المطابقة للواقع الموضوعي والمنطق العقلي ولا مناص عنها . ومردّها إلى أنّ مشيئة العبد تتفرّع على مشيئة الله سبحانه وتعالى وإعمال سلطنته . وقد أشار ]الكتاب العزيز[ إلى هذه الناحية في عدّة من الآيات الكريمة([2]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذا الكلام مبني على القول بنظرية الأمر بين الأمرين .
[2] المحاضرات 2 : 91 ـ 94 . وقد تقدّم الكلام مفصّلاً عن الآيات المباركة في بحث الأمر بين الأمرين ، فراجع .